المسلمون بين أسباب الحزن ودواعي الفرح
في هذا العيد السعيد، وكما في غيره من أعيادنا، وصلتني رسائل تهنئة كثيرة، ابتدائية أو جوابية.. أجدد شكري لجميع أصحابها.
ومما يثير انتباهي ويضايقني عادة في عبارات بعض السادة “المهنئين بالعيد”، هو حرصهم على التذكير بمعاناة المسلمين ونكباتهم وجراحاتهم. وبعضهم يؤكد أن العيد لا يطيب، أو لا يليق، أو لا يبقى له معنى، مع فواجع المسلمين وأوجاعهم، التي لا تُبقي مكانا للفرح والاحتفال والابتهاج..!
أحد هؤلاء الفضلاء الأعزاء يقول في نص تهنئته: “عيدنا يوم تحرير أقصانا. يعز علينا أن نفرح بالعيد وأقصانا يدنسه الأنجاس. كل عام وأنتم إلى تحرير الأقصى أقرب”.
وعلى هذا النحو وأكثر، نجد مقالات ومواعظ وخطابات، تسعى إلى تأجيج الآلام والأحزان، ومنع الأفراح والاحتفالات، ونزع المشروعية عنها، وأن ذلك يجب تعليقه وتأجيله، إلى أن يسترد المسلمون عزتهم ومكانتهم وكرامتهم وانتصاراتهم.. وإلى حين تحرير فلسطين والأقصى، وإلى حين الفرج والإفراج عن المعتقلين، وعودة اللاجئين، والانتصاف من الظالمين للمظلومين..
وهذه النزعة التحزينية البكائية، المنغصة على المسلمين أعيادهم وأفراحهم واحتفالاتهم، ليست من الإسلام ومقاصده في شيء، بل هي ضارة بمصلحة المسلمين. وفي الذكر الحكيم أن تحزين المؤمنين عمل شيطاني يجب الإعراض عنه وعدم التأثر به. قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيحْزنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10].
ومن العجيب أننا سمعنا منذ شهور – على الأقل بالمغرب – دعوات متكررة من بعض اللادينيين وأشباههم، ترمي إلى إلغاء عيد الأضحى لهذه السنة، نظرا لظروف جائحة كورونا..! هكذا يريدون أن يزيدوا المسلمين غما إلى غم، وأن يحرموهم فرصة الفرحة والاحتفال.
أما الشرع الحنيف فقد جاء بمشروعية الفرحة والاحتفال، في جميع الظروف والأحوال. وجاء بالنهي والإبعاد عن الحزن والأسى، حتى في الظروف والمواقف التي نَعدُّها مؤلمة ومخوفة ومأساوية.. ذلك لتعلموا أن دواعي الفرح والسعادة والابتهاج، قائمة دائمة، وهي بأضعافٍ مضاعفة عما يعتري الحياة من أسباب الحزن ..
اقرأوا وتدبروا معي – رحمكم الله – هذه الآياتِ الداعيةَ إلى نبذ الحزن والتعالي عليه، والتمسك بالفرح والتسامي فيه ..
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 26]
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]
{فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40]
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13]
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139، 140]
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153]
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]
{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 – 171]
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57]
{الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1 – 5].
ومن الأحاديث النوية الشريفة، نأخذ هذا الحديث المتفق عليه..
ففي صحيح الإمام البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه).
وفي رواية الإمام مسلم: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه).
فمن دواعي الفرح المعتبر عند الله تعالى: أن تفرح بأكلك وشرابك، بعد فترة من الجوع والعطش. فالصائم يفرح بهذا المقام الدنيوي، وله فرح أكبر في المقام الأخروي.
وقد رام بعض العلماء إسقاط الفرح الدنيوي للصائم بإفطاره كل يوم من أيام صومه، وقصرَ الفرح على االقربة والتعبد، على معنى أن الصائم في فرحه الأول إنما يفرح لكون صومه قد تحقق وثبت.. وهذا تكلف ظاهر، ونزعة مضيقة يردها لفظ الحديث، وخاصة رواية الإمام مسلم.. وهذه النزعة تنبع من الاعتقاد بأن مجرد الأكل والشرب بعد الجوع والعطش، أمر لا يستحق التنويه به والفرح لأجله. والحقيقة أن الأكل والشرب من أعظم نعم الله على العباد، وعلى الكائنات الحية كلها.. {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4].
على أن الأفراح والاحتفالات، والتخلص من ضغوط الأحزان والآلام، لا يعني أبدا الغفلة أو التقصير في مواجهة المشاكل والجراحات، ومقارعة المعتدين والمفسدين، مثلما أن هذه لا تمنع الأخرى.
فليكن الفرح والبهجة والطمأنينة والاحتفال من مطالبنا ومكاسبنا الدائمة، ولتكن مواجهة العدوان والاحتلال والظلم كذلك من واجباتنا الدائمة وجَبهاتنا المفتوحة.
وليكن الفرح والاحتفال جزءا من عدتنا وعتادنا، في مواجهة أعدائنا، من إسرائيل إلى كورونا..