بين فكر الحركة وحركة الفكر
بين فكر الحركة وحركة الفكر
-أحمد الريسوني-
الجماعات الإسلامية التي تأسست في مختلف أنحاء العالم الإسلامي ولدت ونشأت وهي مسكونة بمواجهة التحديات الخطيرة التي تكالبت على الأمة الإسلامية وبلغت ذروتها خلال العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي، ولم تقف تلك التحديات عند حد تهديد الكيان السياسي والاستقلال الجغرافي لهذه الأمة ولأقطارها مشرقا ومغربا، بل وصلت إلى تهديد الكيان الاجتماعي والديني لهذه الأمة.
من رحم هذه المخاطر والتحديات وفي أكنافها ولدت الحركة الإسلامية وتناسلت في مختلف الأقطار الإسلامية. ولذلك فهي قد ولدت في معمعة الصراع والتدافع والنضال. ومن هنا فإن معظم هذه الحركات -إن لم تكن كلها- قد ركزت على تكوين الدعاة المجادلين والجنود المجادلين والمجاهدين المضحين، ولم تركز على تكوين العلماء والمفكرين والباحثين. وإنما ظهر من ظهر من هؤلاء في صفوفها عرضا إن لم نقل خطأ. وهكذا تشكلت الحركات الإسلامية في قياداتها وصفوفها واهتماماتها وأولوياتها على أساس هموم الدعوة والتربية العملية، وعلى أساس الجهاد والجندية وما يتطلب ذلك من بذل وتضحية.
وعلى هذا المسار وهذا الدرب سار للحركة الإسلامية فكر وتنظير فكري وإنتاج فكري، لكنه فكر في خدمة الحركة ومتطلبات المعركة، فكر يدافع عن خط الحركة وعن مواقف الحركة وعن تعليمات الحركة وعن اختيارات الحركة وعن مصلحة الحركة. فكر يواجه ما هو يومي وينهمك فيما هو آني، وينضبط للتوجيهات والتعليمات والمتطلبات. فهذا هو “فكر الحركة”، وهو في الحقيقة أقرب إلى ما يسمى -بصفة عامة- بالفكر الحزبي أو العقلية الحزبية. وفكر الحركة بهذا المعنى هو فكر موجه وتابع ومقيد، سواء في قضاياه وموضوعاته أو في مواقفه واختياراته.
وبسبب أن هذا اللون من الفكر هو الذي ساد أوساط الحركات الإسلامية وخيم على عقول أبنائها وحتى زعمائها، فقد عجز فكر الحركة هذا على عن مواكبة التطورات والمستجدات، سواء داخل الحركات الإسلامية نفسها أو فيما حواليها. وعجز من باب أولى عن أن يكون هو صانع التطورات ومبدع الاجتهادات.
وفي كثير من الأحيان وجدنا التنظيمات الإسلامية تضيق وتتبرم من ذوي الفكر المتحرر والمبادرات الاجتهادية التجديدية حتى وهم من أبنائها وصفوفها ! ومن هنا بدأ يظهر ذلك التمايز والتدافع بين كل من “فكر الحركة” و “حركة الفكر”.
إن الحركة الإسلامية التي ظهرت وبدأت أقرب إلى أن تكون “حركة تحريرية” وكانت بحاجة ماسة إلى فكر نضالي منضبط ومتمذهب باختياراتها، وقد أصبحت اليوم مدعوة وملزمة بأن تكون حركة اجتهادية تجديدية، في نفسها وفي مجتمعها، فلذلك أصبحت في أمس الحاجة إلى الفكر الحر وإلى الفكر المبدع، فهي بحاجة إلى أن تطلق وتدفع “حركة الفكر” من غير خضوع وتبعية لفكر الحركة.
إن حركة الفكر إذا فرضت عليها الطاعة والانضباط فقد حكم عليها بالجمود والانحطاط.
وأنا الآن أتذكر حادثة طريفة ومعبرة،أختم بها هذه الحلقة، وهي أن أحد المفكرين المغاربة حكى لي بعد عودته من مؤتمر لإحدى الحركات الإسلامية ماعاناه من تضايق وتضييق وضغط، لمغادرة المؤتمر، بسبب بعض آرائه التي لا تناسب “المقام”. حتى إنه قال لهم غاضبا ومقاطعا: إن النظام المغربي يعطينا من حرية التعبير والنقد أكثر بكثير مما تعطوننا أنتم”!