ما قل ودل: أحلى الشعرِ أكْذَبُه… وكذلك شأن الصحافة
ما قل ودل: أحلى الشعرِ أكْذَبُه… وكذلك شأن الصحافة
أ.د أحمد الريسوني
هوية بريس – الإثنين 11 ماي 2015
رغم ما للشعر من رسالة ووظيفة أدبية فنية ثقافية سامية وبناءة، كغيره من الفنون والآداب، فقد قالوا فيه قديما: “أحلى الشعرِ أَكذبُه“؛ بمعنى أن الشعر الذي يجتذب الناسَ بقوة، ويستهويهم ويجدون فيه لذة وحلاوة أكثر من غيره، هو ما كان أكثر كذبا وافتراء، وأكثر إيغالا في الخيال والإغراب. والشعر بهذه الصفة يكون نوعا من الفرجة والإمتاع، والناس يحبون الفرجة ويهرعون إليها ويتحلقون حولها ويتابعون أطوارها، بغض النظر عن مضمونها وأثرها.
على أن المضامين الكاذبة للشعر قد تكون مقبولة إذا لم تمس ناسا معينين ولم تنصبَّ على وقائع محددة، بمعنى أنها تكون من نسج الخيال المجرد عن الأعيان.
أما حين يتجه الشعر إلى الكذب على الأشخاص لهجائهم وتشويههم وإذايتهم، والكذب في الوقائع المشخصة، باختلاقها أو تحريفها أو النفخ فيها، أو حين يتجه إلى المدح الكاذب والإطراء الزائف، تملقا وتكسبا ونفاقا، فحينئذ يكون الشعر من أقبح القبائح وأفحش الفواحش. وكان أكثر ما يتجسد هذا في شعر الهجاء، الذي كان حرفة قذرة لبعض الشعراء العرب قديما. فكانوا ينسجون قصائد هجائهم لفائدة من يطلبها ويدفع ثمنها، محاربة منه وتشويها لخصمه ومنافسه…
كثير من الوظائف والخصائص الشعرية القديمة -النبيلة والقذرة معا- آلت اليوم إلى الصحافة والصحافيين. فالصحافة عند أهلها الشرفاء عمل إصلاحي ثقافي واجتماعي جليل. ولكنها عند البعض مجرد استرزاق وتكسب وابتزاز. وهنا تأتي حاجتهم إلى صناعة الكذب والتحريف والتهويل والاستباق والاختلاق. وهنا يصدق أن يقال: “أحلى الأخبار الصحفية أكذبها وأغربها“. ولذلك يتعلم الصحفيون منذ البداية أن الخبر الناجح ليس هو أن تقول: كلب عض رجلا، وإنما هو أن تقول: رجل عض كلبا…
ليس مهما أن الناس سيصدقون الخبر الأول دون الثاني، ولكن المهم هو أن الخبر الثاني سيجتذبهم أكثر، وسيجدون فيه حلاوة ولذة أكبر.
ومثل هذا تماما يحصل في المأكولات والمشروبات، فرغم أن جميع الناس في الأصل يأكلون ويشربون لأجل غذائهم وصحة أبدانهم، فإن أكثر الناس إنما ينجذبون إلى بعض الأطعمة والأشربة، بل يدمنون عليها، بناء على ما فيها من توابل وملونات ومواد إضافية، هي في الغالب تضر ولا تنفع، وقد تكون أساسا لإخفاء ما في الطعام والشراب من رداءة وفساد.