الزلزال الأفغاني 3/3
الزلزال الأفغاني
3/3
محمد الحبيب الدكالي (06/09/2021)
حسابات القوى الدولية (تابع)
يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بكل من الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية وروسيا والصين وإيران والكيان الصهيوني.
الولايات المتحدة الأمريكية:
هي القوة الأعظم، باقتصادها العولمي وبقوتها العسكرية الهائلة وبنفوذها السياسي والدبلوماسي والإعلامي والثقافي الكاسح الذي يتحكم في مفاتيح العلاقات والسياسة الدولية، والعنوان الكبير لهذه القوة هو الهيمنة والتحكم والقدرة على ممارسة الضغوط للإخضاع والتوجيه والإملاء، عبر رسم وصياغة السياسات الدولية في قضايا الحرب والسلم (أي السلم الذي يخدم مصالحها أولا وأخيرا). وإلى جانب مؤسساتها التشريعية والتنفيذية بما فيها المؤسسات الأمنية والعسكرية الهائلة، تتحكم الولايات المتحدة إلى حد كبير في المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ووكالاتها والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وفي الاتفاقيات الدولية كاتفاقية التجارة العالمية..إلخ.
فما هي أهمية العامل الأفغاني بالنسبة للولايات المتحدة بصفتها أعتى قوة استعمارية على الأرض وفي التاريخ الإنساني؟
لنعد إلى الوراء وتحديدا بعد انهيار العملاق السوفييت في بداية 1991. لقد شكّلت الشيوعية والاتحاد السوفياتي الواجهة والمبرر والعنوان لسياسات التدخل وشن الحروب وتدبير الانقلابات لتنصيب أنظمة دكتاتوية والسيطرة الاقتصادية والسياسية في كل مكان في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 (حروب كوريا، فييتنام، جنوب شرق آسيا،كوبا، أمريكا الجنوبية..).
وبعد سقوط جدار برلين والانهيار الشامل للأنظمة والأحزاب الشيوعية في آسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية (وليس اللاتينية لكون هذا الإسم يعكس عقلية الاستعمار الثقافي فالقارة الأمريكية وسطها وجنوبها ذات حضارات محلية عريقة لا صلة لها في الأصل بالثقافة الأوروبية إلا صلة الاستعمار وإبادة الحضارات الأصلية)، اشتغل منظرو اليمين الأمريكي المتطرف على صياغة إيديولوجية جديدة تمجّد العنصرية البيضاء وتعزز ثقافة الاستعمار والهيمنة الاقتصادية والعسكرية والاقتصادية والثقافية للولايات المتحدة بمفاهيم طاغوتية على أعلى درجات الاستعلاء والغطرسة، وتكسبها شرعية مطلقة تقوم على مبدإ القوة العمياء الكاسحة، فقط وبكل بساطة.
كان لزاما إذا، من إيجاد مرجعية إيديولوجية جديدة تحدد وتوصّف عدوا كبيرا جديدا، فكان هو الإسلام والعالم الإسلامي، وهو ما نظّر له عتاة “الفكر” اليمني المتطرف وأبرزهم هنتينغتون (Huntington) وهو صهيوني عريق معروف بولاءه الأعمى للكيان الصهيوني. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حددت الإدارة الأمريكية في عهد ريغن تحديدا، الذي أتيحت له الفرصة ليبهدل غورباتشيف بعد انهيار الإمبراطورية الروسية خلال زيارته الشهيرة لأمريكا، أفغانستان كقاعدة ارتكاز كبرى لتنفيذ استراتيجية هائلة لسحق ما عرف في دوائر البحث الغربية بـظاهرة “الإحياء الإسلامي” (Le revivalisme islamique) وهي الظاهرة التي شغلت مراكز التفكير الغربية (think tanks) منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت هناك تحضيرات مبكرة، خلال سنوات الغزو السوفييتي لأفغانستان التي امتدت لعقد كامل (1979-1988)، لترتيب وتوظيف عدد من المعطيات على الأرض لصالح استراتيجتها لمواجهة انتشار وصعود الحركات الإسلامية في عموم العالم الإسلامي، ومن أهم هذه المعطيات تدفق مئات الشبان العرب على أفغانستان دعما لجهاد الأفغان ضد الروس وأغلبهم كانوا من تنظيمات الإخوان المسلمين والقريبين منها من باكستان وبلدان آسيا الوسطى وحتى من جنوب شرق آسيا. ومن الناحية العملية لم يكن لهؤلاء المتطوعين أي دور حقيقي ومؤثر في المعارك ضد القوات السوفييتية، بل كان يدخل في باب الإسناد المعنوي فقط، مع ملاحظة أن معظم هؤلاء المتطوعين جاءوا إلى أفغانستان بعد خروج القوات السوفييتية. ومع بروز قيادات “مهاجرة” إلى أفغانستان، تبلور عندها فكر يرى أن تلك المرحلة التاريخية، بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي المذلّة، هي الفرصة السانحة لإعادة الاعتبار إلى مفهوم “الجهاد” الشامل بغرض تحرير العالم الإسلامي وصولا إلى فلسطين من الاستعمار والصهيونية. كان أسامة بن لادن ود. أيمن الظواهري من أبرز قادة هذا التوجه الذي سيتحول سريعا إلى تنظيمات نشطة في عدد من البلدان العربية والإسلامية.
هذه المعطيات شكلت بيئة وفرصة مثاليتين لأجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية وعدد من أجهزة المخابرات العربية، لإحداث اختراقات واسعة في صفوف هؤلاء المتطوعين، وصولا إلى الإشراف المباشر على تشكيل وتنظيم عديد من الخلايا التي تدربت في معسكرات بن لادن والظواهري كما سيبدو جليا فيما بعد في مصر والعراق وسوريا والأردن، وقد رفض هذان القياديان رفضا باتّا طلبات القيادات الأفغانية (رباني، سيّاف، مسعود، وحتى عبد الله عزام الذي تمت تصفيته) بالتوقف عن استخدام الأراضي الأفغانية لتدريب الشبان العرب للقيام بعمليات في الخارج.
وستشكل “القاعدة” بإديولوجيتها التي تقوم على فكرة “الجهاد المسلّح الشامل” لتحرير العالم الإسلامي، ومعها مجموعات أخرى تتبنى نفس التوجه، وتدمير البرجين في نيويورك بطريقة هوليودية في 11 سبتمبر 2001، العوامل الأبرز بالنسبة للولايات المتحدة لتبرير وتنفيذ استراتيجيتها الهجومية الهائلة، مستغلة جو الفتنة الداخلية والفوضى التي عمّت أفغانستان بسبب قصر نظر بعض القادة وبشكل خاص حكمت يار، وتصفية أحمد شاه مسعود الطرف القوي الذي مثّل دائما الاتجاه العقلاني بعيد النظر للأوضاع في بلده، دون أن ننسى تسهيلات الأمريكيين لسيطرة حركة طالبان في نسختها الأولى على أفغانستان وتجربة نموذجها “الإسلامي” في الحكم على الأرض وصولا إلى تصنيفها ضمن “المنظمات الإرهابية”.
لم يكن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان باستخدام حجم نيران لم يسبق له مثيل حتى في الحرب العالمية الثانية هو الهدف النهائي لاستراتيجية أمريكا مستعينة بحلف ناتو لسحق ظاهرة “الإحياء الإسلامي” بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية، بل كان مجرد بداية انطلاق من نقطة ارتكاز مناسبة، وسيأتي احتلال العراق بعدها مباشرة وبطريقة همجية نادرة كضربة هائلة لتشتيت وإضعاف المنطقة العربية بشكل لم يسبق له مثيل إحكاما لسيطرتها وخدمة للعدو الصهيوني. لقد تعلق الأمر، في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة، بمنظومة كاملة من الاستراتيجيات القطاعية شملت حملات إعلامية ضخمة معادية ومشيطنة للإسلام عبر العالم بأسره، وترسانة كاملة من التشريعات والقوانين والمتابعات ضد الحركات الإسلامية والمنظمات الخيرية الإسلامية التي اتهمت بالأصولية والتطرف وتمويل “الإرهاب الإسلامي”، وحملات أمنية واسعة النطاق في داخل البلدان العربية والإسلامية وضغوط قصوى على الأنظمة العربية للخضوع للإملاءات الأمريكية في عديد من القضايا.
كان لزاما إيراد هذه الخلفيات في استعراض سريع لفهم أهمية أفغانستان، كنقطة ارتكاز، بالنسبة لأمريكا في تنفيذ استراتيجيتها الشاملة. والآن، بعد هزيمتها الشنيعة التي تحدث الآن ارتدادات قوية جدا في الداخل الأمريكي وفي أوروبا، يمكننا أن نستشفّ خطوطا عريضة لارتدادات الزلزال الأفغاني على نفوذ، بل ومستقبل الإمبراطورية الأمريكية، وما يقال عنها يقال على المجموعة الأوروبية بشكل أو بآخر، ولعل مصدر خوف هذه الأخيرة يكمن، بالدرجة الأولى، في الخوف من تدفق المهاجرين الأفغان إلى البلدان الأوروبية بما يعنيه من زيادة أعداد المسلمين المستوطنين وأبناءهم وأحفاهم في القارة العجوز وهي التي تعاني أصلا من كابوس الزيادات الطبيعية لأعدادهم على المدى الطويل.
يمكن إذا اختزال هذه الارتدادات على الولايات المتحدة كما يلي :
- فمن جهة، خسرت أمريكا نقطة الارتكاز هذه بشكل نهائي، وهي خسارة استراتيجية من العيار الثقيل، مع خسارات بشرية جسيمة ومالية وسياسية هائلة، لتعود الأوضاع في أفغانستان بشكل ما، إلى نقطة الصفر.
- اعتراف المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين على أعلى المستويات، بفشل مريع في قدرات أجهزتهما الأمنية والعسكرية، وهي الأذرع الأهم من بين كافة المؤسسات الأمريكية، في التحليل والتقدير والفعل الاستراتيجي. ومن اليسير إدراك صدى فشل هذه الأجهزة العاتية في الداخل الأمريكي عبر الأخبار المتداولة، وفي أوروبا التي ترتفع فيها الآن صيحات على رؤوس الأشهاد تطالب بفك الارتباط مع الولايات المتحدة في السياسة الدولية وبالذات في قضايا الأمن والدفاع بالدعوة إلى تشكيل قوات دفاع وردع أوروبية، والتصريح، بدون مواربة أو مجاملات دبلوماسية، أن الأوروبيين لا يمكنهم التعويل من الآن فصاعدا على الحليف الأمريكي بعد اجتثاث نفوذه في أفغانستان، في قضايا الأمن والدفاع. كما يمكننا أن نتصور المراجعات العميقة للاستراتيجيات الأوروبية تجاه العالمين العربي والإسلامي التي ستحدث من الآن فصاعدا نتيجة لخيبة أمل الأوروبيين في حليفهم. وفي واقع الأمر، تعمّق هذه المواقف الأوروبية الجديدة تجاه الحليف الأمريكي شروخا كبيرة موجودة أصلا من شأنها أن تسمّم العلاقات بين الطرفين بشكل أكبر.
- عودة الإسلام القوية كدين وكمشروع حضاري إلى الواجهة الدولية، فقد اعتقدت القوى الغربية ومعها روسيا أنهم نجحوا في ضربه ضربات مميتة بعد أربعين عاما من العدوان والاستعداء العالمي وجرائم بشعة واسعة النطاق في أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين.
- بروز قوى عربية وإسلامية صاعدة يبدو أنها قادرة على الفعل والتأثير في قضايا إقليمية ودولية، وأثبتت حتى الآن، قدرتها النسبية في الدفع في اتجاهات تحقيق مصالح كبيرة للأمة في ملف كبير ومعقد كأفغانستان (تركيا، قطر، باكستان ويمكننا أن نذكر كذلك الفرص الكبيرة المتاحة مع ماليزيا وإندونيسيا مثلا ودول عربية وإسلامية أخرى وقد بدأت العدوى الأوروبية تفعل فعلها في بعض هذه الدول).
- يمكن أن يؤدي نجاح حركة طالبان وحلفاءها من البلدان العربية والإسلامية وتأمين استقرار الأوضاع وتشكيل حكومة قوية قادرة على بناء مستقبل البلاد، إلى تشكّل تكتّل بشري وسياسي واقتصادي كبير عربي إسلامي لا بد وأن يؤدي، تلقائيا بالحساب المنطقي، إلى توفير فرص تاريخية لتعزيز انعتاق الأمة من الهيمنة الغربية وبناء كتلة اقتصادية وسياسية متعاونة ضخمة قادرة على الشروع في بناء البديل الحضاري لصالح الأمة والإنسانية، والتأثير في ميزان القوى العالمي في اتجاه تحقيق القسط بمعناه الإلهي بين الأمم، وهذا الهدف الأخير عبر عنه رجب طيب أردوغان بشكل واضح في مناسبات عديدة. لا يمكن، مع وبعد هذه التحولات الكبيرة ممّا تحقق منها حتى الآن وما هو متوقّع حدوثه، إلا أن تكون على حساب الهيمنة الأمريكية في مناطق كبيرة الأهمية من العالمين العربي والإسلامي، بل يذهب كثير من المحللين الغربيين إلى أن هزيمة أمريكا في أفغانستان هو إيذان بانهيار الإمبراطورية الأمريكية نفسها (حول هذه النقطة الأخيرة أنصح بالاطلاع على الإصدارات الأخيرة للمعهد المصري للدراسات وهي ترجمة لسلسلة من المقالات التحليلية الهامة لعدد من كبار المحللين الغربيين (eipss-eg.org). ومما لاشك فيه، أن دوائر القرار في الغرب وروسيا والصين، تدرك هذه الأبعاد تمام الإدراك.
أما بالنسبة للدب الروسي، فقد عاد إليها شبح التهديد من جهة بطنها الرخو في آسيا الوسطى، فنجاح المشروع النهضوي في أفغانستان لابد وأن تنتقل عدواه إلى تلك الجمهوريات، وهو ما سيشكل مهدّدات استراتيجية كبيرة للروس، ليس بفقدانهم للنفوذ في هذا الإقليم الحيوي بالنسبة لروسيا، بل يمكن أن تمتد هذه المهددات إلى منطقة القوقاز الحيوية كذلك بالنسبة لروسيا.
بالنسبة لإيران، لابد وأن يطول التحليل هنا، لكن بالإمكان اختصار توقعات نتائج الزلزال الأفغاني على الجار الإيراني، الذي لعب طويلا في المسرح الأفغاني لتحقيق مصالح سياسية وطائفية ضيقة، عبر مستويين استراتيجيين: الأول يتعلق بإيران كدولة وكنظام سياسي. فإيران، تجد نفسها الآن في وضع جيوسياسي جديد، فقد استفادت من الوجود الأمريكي في أفغانستان كجار محتل ومحطم وضعيف غير قادر على ممارسة أية تأثيرات على السياسات الإقليمية الإيرانية في المنطقة، لكنها تجد نفسها الآن أمام تكتل إقليمي “سنّيّ” يوشك أن يقلب المعادلات الإقليمية في اتجاهات لا تخدم السياسات الإيرانية القائمة على التوسع والهيمنة السياسية والطائفية، وهذا التكتّل الجديد المحتمل يشمل أفغانستان وباكستان وتركيا، وسيكون من الصعب على إيران تجاهل وزن وتأثيرات مثل هذا التكتل على سياساتها ونفوذها في جنوب غرب آسيا وفي آسيا الوسطى الذي عملت طويلا على بناءها مستفيدة من السياقات الدولية والإقليمية في المنطقة. أما المستوى الثاني فيتعلق بتأثيرات الزلزال الأفغاني على خطط وبرامج إيران في المنطقة العربية، إذ تمددت سياسيا وعسكريا واستخباراتيا بشكل مريح جدا وعميق في العراق الذي تسلّمته على طبق من ذهب من الولايات المتحدة (؟!)، وفي سوريا التي نسجت مع نظامه الدموي علاقات تحالف قوية منذ عهد الطاغية حافظ أسد وصولا إلى وجود عسكري كبير عبر جيشها ومستشاريها العسكريين والأمنيين وعبر حزبها اللبناني قوي العدد والتسليح، وقامت بدور رئيسي في سحق ثورة الشعب السوري إلى جانب المحتلين الروس، وتدمير المدن وتهجير ملايين السوريين.. كما نجحت، تحت أنظار الأمريكيين والإسرائيليين (؟!)، في تحويل لبنان إلى قاعدة ارتكاز قوية في المنطقة، وصولا إلى اليمن للمساهمة، مع الأمريكان وحلفائهم، في تفتيته على أسس طائفية وهو ما شكّل جرحا نازفا خطيرا في المنطقة العربية. ليس مستبعدا أن تكون للتحولات الحاصلة في أفغانستان الآن تأثيرات مباشرة على السياسات الإيرانية في المنطقة العربية، وتشكّل تكتّل “سنّي” قوي على حدودها لابد وأن يشكل عامل ضغط قوي على إيران يمكن أن يساهم في لجم، وربما في جعل حد لسياساتها السلبية جدا في المنطقة العربية.
أما بالنسبة للكيان الصهيوني، الذي عاش طويلا ويعيش في ظل الهيمنة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي ويقتات من نتائجها الفاسدة دوما، فهو يتطلب تحليلا أعمق. لكن وبعجالة، ساهم الكيان الصهيوني إلى جانب الولايات المتحدة، عبر استراتيجيات طويلة المدى، في خلق و/ أوتشجيع الصراعات والحروب الأهلية في البلدان العربية، ودعم الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة والتآمر لإجهاض محاولات الشعوب العربية للانعتاق وتحقيق الاستقلال الحقيقي. وبحسابات منطقية كذلك، فإن أية خسارات للنفوذ الأمريكي في العالمين العربي والإسلامي تعتبر خسارة تلقائية للكيان الصهيوني وعنصر قوة إضافي للتكتّل العربي الإسلامي الصاعد، وعامل دفع معنوي هائل للشعب الفلسطيني ولمنظمات المقاومة الفلسطينية.
أما بالنسبة للصين التي أثبتت في قضايا دولية عدة أنها تعرف من أين تؤكل الكتف، فقد سارعت لانتهاز فرصة الاندحار الأمريكي لملء مساحة ما من الفراغ الحاصل عبر التقرب من النظام الجديد في كابل بإبقاء سفارتها، واستعدادها للاعتراف بأية حكومة جديدة والمساهمة في كعكة إعادة الإعمار، وهو تجاوبت معه حركة طالبان عبر تصريحات في هذا الاتجاه. لكن المسألة ليست بهذه السهولة بالنسبة للصين التي تدرك تماما أن قضية مسلمي تركستان الشرقية (إقليم شينغ يانغ) ستكون موضوع مساومة بينها وبين النظام الجديد في كابل بدعم من تركيا وقطر لوضع حد للسياسات الإجرامية الصينية التي تمارسها ضد مسلمي الإيغور، كما أن وجود حدود لأفغانستان مع الصين في أقصى الشمال الشرقي، يتيح للصين تطوير مشروعها الهائل المعروف بـ”طريق الحرير الجديد” وهو ما يشكّل ورقة تفاوضية إضافية حول قضية تركستان الشرقية.
الكرة في ملعب طالبان
ماذا تعني حركة طالبان كحركة إسلامية في السياق العام لظاهرة الإحياء الإسلامي؟ هل هي نسخة من أحد النماذج الموجودة في الأمة، أم هي نموذج مختلف عما هو سائد (المدرسة الإخوانية، الاتجاهات السلفية المعاصرة، حزب التحرير، حركات الجهاد والتكفير، الحركات الصوفية..)؟ وإذا كانت حركة طالبان تشكل نموذجا مختلفا وهو ما يبدو أنه الأرجح، فما هي فرص نجاح الحركة في قيادة مشروع نهضوي في أفغانستان؟
إن الإجابة على هذا السؤال الأخير تحدّد بدرجة كبيرة، قدرة العامل الأفغاني على أن يتحول إلى عنصر قوة بأبعاد استراتيجية لترجيح التأثيرات الإيجابية العميقة وطويلة المدى كالتي تمّ استعرضتها آنفا.
هناك شروط ومتطلبات يمكن مع توفّرها تعظيم فرص نجاح حركة طالبان في تحقيق مثل هذا المشروع النهضوي خصوصا مع وجود فرص نادرة للدعم، دون إغفال للمخاطر التي يمكن أن تعصف بهذه التجربة الفريدة النادرة.
بشكل عام، تعتبر الحركة الوحيدة من بين كافة الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم كحركة تحرر وطني. وبالنسبة لخلفياتها الفكرية، نجدها مزيجا من التوجهات الصوفية والمدرسة الفقهية الشافعية (أنصح بقراءة دراسة مركّزة ممتازة حول حركة طالبان بعنوان “تجربة طالبان: قراءة خلدونية سوسيولوجية في جذور وظهور طالبان” لكرم الحفيان صادرة عن “مركز المجدّد للبحوث والدراسات almojaded.com) كما لم تتأثر بالاتجاهات التكفيرية، فرغم أن قادة طالبان في نسختها الأولى رفضوا تسليم بن لادن وأيمن الظواهري عندما وصلوا إلى الحكم سنة 1996، إلا أن علاقاتها بداعش والحركات “الجهادية” التكفيرية المماثلة (ولاية خراسان) كانت دائما علاقة صدام وقتال لاقتناع قادتها بعدم شرعية ومشروعية وجدوى هذه التوجهات، لكن الحركة لم تضع القضاء على هذه التنظيمات ضمن أولوياتها، بل كان تحرير أفغانستان من الاحتلال الأمريكي هو أول وأهم أولوياتها.
ومع حرص الحركة الآن على تبني خطاب تصالحي في الداخل الأفغاني، وإعلانها المتكرر عن رغبتها وحرصها على تبني سياسات خارجية تقوم على السلام وحسن الجوار والتعاون مع دول العالم، يبقى التساؤل مطروحا حول مدى استعداد الحركة، وهي التي لا تتوفر سوى على تجربة سياسية في إدارة الحكم غير موفقة عندما حكمت البلاد سابقا، لإظهار درجة عالية من العقلانية والحكمة والمرونة لاستيعاب الفرص المتاحة أمامها. كما لا يعرف ما إذا كانت الحركة تتوفر حاليا على نخب قيادية متعلمة من خارج المدرسة الطالبانية التقليدية، وهذا شرط ومتطلب أساسي لإدارة الحكم والشأن العام، وفي جميع الحالات لا يمكن للحركة أن تستغني عن القيادات الوطنية التي اكتسبت خبرات في هذه المجالات في ظل الحكومات السابقة، ولا شك أن الحركة صارت الآن أكثر وعيا بهذه المتطلبات بعد سيطرتها على العاصمة واستلامها للحكم.
أما الفرص المتاحة أمامها فهي كبيرة ونادرة. فمن جهة، عندها رصيد قوي من التقدير كونها نجحت في إجبار أمريكا على سحب جيشها وجيوش حلفاءها من أفغانستان، وأمامها فرص دعم ثمين يكاد يكون بلا حدود من طرف قطر وتركيا وباكستان في كل المجالات التي يحتاج إليها بناء الدولة وتنمية المجتمع.
لكن، ومع كل هذا، تبقى هناك مخاطر حقيقية ماثلة يمكن معها أن تضيع هذه الفرصة التاريخية من بين يدي قيادة الحركة إذا لم تحسن الاستفادة من الفرص المتاحة أمامها. ولعل أكبر المخاطر يتمثل، رغم خطاب قادة الحركة الذي يبدو منفتحا، في استحكام رؤية منغلقة لديها لمفهوم الشريعة، وفي عدم قدرتها على تبني رؤية تجديدية عميقة لهذا المفهوم وقصورها في استيعاب فقه الواقع وبسط هذه الرؤية في أوساط القيادات الميدانية وقواعد الحركة. وبالمقابل، ليس متوقعا أن تستنكف الولايات المتحدة والقوى الدولية المعادية للمشروع النهضوي الإسلامي عن الاستمرار في محاولات تخريب مساعي حركة طالبان وحلفاءها لبناء مستقبل أفغانستان وإشعال الفتن، فهذا خط ثابت في سياسات الأمريكان وحلفاءها، لكن المسؤولية عن معالجة وإجهاض هذه المخاطر تبقى على عاتق الحركة بالدرجة الأولى، وسيحكم التاريخ لها أو عليها.