ضيف الموقع
الدكتور عبد العلي الودغيري يكتب: على هامش الأحداث
الدكتور عبد العلي الودغيري يكتب:
على هامش الأحداث
كل المراقبين والمحلّلين في المغرب كانوا يتوقعون تراجع حزب العدالة والتنمية في انتخابات 8 سبتمبر 2021، بعد تجربة في الحكم دامت عَقدا كاملا ولولايتين متتابعتين. لكن لا أحد ـــ فيما أظن ــ كان يتوقع أن يكون التراجع بحجم هذا السقوط المدوّي الذي شاهدناه. وبغض النظر عما واكب العملية الانتخابية من انتهاكات وشوائب يقال إنها كانت قوية وفاضحة، كاستعمال المال والمتاجرة في الضمائر الضعيفة وشراء الذِّمَم واستغلال النفوذ، وتزوير المحاضر، وغير ذلك من الأمور التي أصبحت مألوفة، فهناك عاملان أساسيان آخران كنا نتوقع منذ البداية أن يؤديا إلى هذه النتيجة المحتومة، ولو بغير هذا الحجم الكارثي الذي حدث:
أولهما: حرص القيادة الحزبية على التشبّث بالسلطة وكراسي الحكم مهما كانت العواقب، ورفض الإنصات لصوت الشارع ونبض الشعب الذي طالما عبّر عن غضبه من القرارات القاسية واللاشعبية التي اتخذتها حكومتا ابن كيران والعثماني خلال الولايتين الماضيتين، دون جدوى. وكأن هذه القيادة لم تقرأ شيئا من وقائع التاريخ وتجارب الماضي القريب والبعيد داخل المغرب وخارجه، ولم تضع قط أي حساب ليوم التولّي والانكسار. هل كان ذلك ثقة زائدة بالنفس وبالجموع المحتشدة، وغرورًا مفرطًا إلى حد الاعتقاد بأن الدولة لا يمكنها الاستغناء عن الإسلاميين وقوتهم، كما كان يحلو للسيد ابن كيران أن يردد بين الفينة والأخرى، وأن مخزونهم الشعبي لن ينفد أبدًا؟ هل كان ذلك ثقةً عمياء في المخزن؟ أم واقعية سياسية بلغت من المرونة والتشكّل مع الأوضاع والتلوّن بألوان الظروف، حد الانبطاح والتسليم في كل المبادئ والشعارات التي أوصلتهم لسُدة الحكم؟ أم سذاجة سياسية ونقصً كبير في التجربة والنضج؟ أم أن الأمر كان مزيجًا من كل هذه التوابل والبهارات؟
ثانيهما: رغبة المخزن في التخلّي عن تجربة الإسلاميّين في الحكم بعد انتهاء المهمة التي جيء به لأدائها في الوقت المحتاج إليه. علما بأن الأمر لم يكن يخلو من وجود ضغوط قوية، مارستها جهات كثيرة في الغرب والشرق طيلة السنوات الماضية، واشتد وقعُها وزادت وطأتُها في الفترة الأخيرة، من أجل التخلص من عبء هذا التيار الإسلامي (أو الإسلاموي كما أصبح يسمى)، رغم تدجينه واحتوائه بما فيه الكفاية، بعد كل الذي حدث في بلدان المشرق والمغرب العربيّين في ظل «الثورات المضادة» التي أعقبت ربيع 2011. وهذه الرغبة لا شك كانت ملامحهُا بادية للعيان منذ أزمة تشكيل حكومة 2016 التي دامت عدة شهور، وكان رأسُ الحربة فيها السيد أخنوش الذي كوفئ اليوم بالتصعيد إلى الدّرج الأعلى في سلَّم النتائج. ولكن إخوان العثماني لم يفهموا الرسالة جيدا في حينها، ولم يحزموا أمرهم ويملكوا الشجاعة الكافية لاختيار التموقع في صف المعارضة، وكان الوقت وقتَها والظرفُ ظرفَها، فاستمروا في تقديم التنازلات تلو الأخرى، إلى أن وجدوا أنفسَهم خارج اللعبة، وقد كان بإمكانهم استغلال تلك الفرصة لتصحيح أخطاء الولاية الأولى، بدل أن يضيفوا إليها ما أضيف من أخطاء جديدة قاتلة، كالتنازل عن العربية أهم مقومات الهوية بعد الدين، والإذعان لفرنَسة التعليم، والانحناء للتطبيع ولو عن كره وضعف، وتبني سياسة ليبرالية متوحّشة لأطراف مشاركة في الحكومة لا تلقي بالاً لاحتياجات الطبقة الفقيرة والمتوسطة، كما تجلى ذلك في تجميد الأجور لمدة طويلة، واللجوء إلى التعاقد عوض التوظيف، والتفريط في أهم المرافق الاجتماعية كالتعليم والصحة والاندفاع نحو تفويتها للقطاع الخاص الذي أصبحت حباله تلتف أكثر فأكثر حول رقاب الناس بلا رحمة. ولعل آخر الأخطاء القاتلة التي وقع فيها حزب العدالة هي الخرجة الأخيرة غير المتوقعة للسيد ابن كيران في عز الحملة الانتخابية ليصرّح بملء الفم أنه ضد الزيادة في أجور الأساتذة ورجال التعليم التي نادى بها خصمه السياسي السيد أخنوش في حملته الانتخابية الذي قدم وعودا سخية سهَّلت مهمة الاختيار على كل فئات رجال التعليم ونسائه، إضافة إلى جملة وعود بتسهيلات وتعويضات أخرى في مجالي التعليم والرعاية الصحية وغير ذلك من الأمور التحفيزية الأخرى التي سال لها لعابُ فئة عريضة من الناخبين.
لقد استُخدِم الحزب الإسلامي طيلة العشر سنوات الماضية أداةً طيّعة لقضاء كثير من المآرب السياسية وتسوية العديد من الملفات الشائكة كمعضلة التقاعد ورفع الدعم عن المواد الأساسية وإنهاء صندوق المقاصّة وتجميد الأجور وفرنسة التعليم وفرض التعاقد على رجال التعليم، وإفقار الطبقة المتوسطة وإطلاق اليد الطولى لتحكم القطاع الخاص في أهم المجالات الحيوية، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهلم جرا. وفي مقابل كل ذلك، فشل فشلا ذريعاً في الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية للبلاد، والقضاء على الفساد بكل أنواعه، وعلى تحكّم الدولة العميقة في إملاء شروطها وهيمنتها واختياراتها بغض النظر عمن يتصدّر واجهة المشهد.
وإذا كانت قيادة الحزب الإسلامي قد قدمت اليوم استقالتها الجماعية اعترافا بالهزيمة، وتحملاً لمسؤوليتها الثقيلة، فذاك سلوك ديموقراطي تستحق عليه التنويه. لكن إعلانها الانتقالَ الإجباري إلى صف المعارضة الذي لم تجد خيارًا سواه، قد جاء في الحقيقة متأخرا جدا عن وقته المناسب، بمدة خمس سنوات على الأقل. فأحسن قرار يتخذه المرءُ هو ذلك الذي يأتي في إبانه. لا متأخرا عنه ولا متقدما عليه. ولقد سيق لي في تدوينة قصيرة أن كتبتُ ما ملخصه: لو كان حزب العدالة موجودا في صفوف المعارضة خلال مرحلة السنوات الخمس الماضية التي فُرضت فيه على المغرب اختيارات صعبة، لكان لوجوده في ذلك المكان أهمية كبرى ومنفعة عظيمة لمصلحة البلاد العليا. كنا نحتاج إلى معارضة قوية وفعالة ومؤثرة في تلك المرحلة التي آثر العثماني وإخوانه الانصياع لإغراء الحكم مع أنهم كانوا يعلمون أنهم لا يملكون منه سوى ظله المشوَّه، ومشجبه الذي تُعلّق عليه كل المساوئ والأخطاء. أما الحكم الحقيقي، وكراسيه السيادية، ومفاتيحه وقراراته التي يمكن أن تأتي بالتغيير المنشود وتقضي على الفساد المستشري، فقد كانوا يدركون أنهم أبعد ما يكونون عن الوصول إليها. ولذلك أقول إن المعارضة القوية والفعالة والمثمرة هي التي يختارها الإنسان وهو في كامل عنفوانه وقوته ونظافته وعُذريته، ويتخذ قرارها بكل شجاعة عندما يدرك أن تأثيره من موقع الموالاة أصبح معدومًا، وأن واجب الإصلاح يقتضي موقعًا آخر يكون فيه متحررًا وقادرا على المواجهة لفرض التصحيح المطلوب.
ومع ذلك، فإن المعارضة التي تأتي بعد تجربة حمل المسؤولية من الداخل، لا شك أن يكون لها طعمها الخاص، وهي مناسبة لممارسة النقد الذاتي ومحاسبة النفس وتصحيح الأعطاب، وإعادة البناء بعد الاستفادة من الدرس مهما كان قاسيا.