رجع كيوم ولدته أمه
رجع كيوم ولدته أمه
من سلسلة من تساؤلات قارئ المتأمل
سفيان أبوزيد
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه
وعن أبي هريرة قال سمعت النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ
يرجع الحاج كيوم ولدته أمه..
وفي رواية:
عن أبي هريرة (من أَتَى هذا البيتَ فلم يَرفُثْ ، ولم يَفسُقْ رَجَع كما ولَدَتْه أمُّه) متفق عليه
وفي رواية للترمذي : ( غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه )
وفي رواية:
من حجَّ هـذا البيت، فلم يرفُث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمُّه».
لماذا يرجع الحاج كيوم ولدته أمه؟
لماذا جاء التعبير بالفعل الماضي (رجع) ؟
هل هذا الرجوع لازم حتمي أو مشروط ؟
إلى غير ذلك من التساؤلات….
نستشف من لفظ الحج التركيز لأنه قصد وتوجه ومحاولة استدبار لكل ما هو ليس بحج، فالحاج ينزع ثيابه ويترك طيبه حتى بلغ درجة الشعاثة والاغبرار كما جاء في الحديث الٱخر (أتوني شعثا غبرا) وذلك ليس طلبا للشعاثة والاغبرار، وإنما لقوة ذلك التركيز، وذلك الانتباه، فنسي وسامته وأناقته مستغرقا في الالتزام بذلك التوجه والقصد، فيتجه بجسده وعقله وقلبه إلى تلك الوجهة، التي يرجو فيها ومنها ما يرجو، ويدعو فيها بما يدعو مستحضرا شريط حياته من ألفه إلى يائه، إنه الحج، فأول محطات الحج التركيز والحضور والاستحضار واليقظة والانتباه والتنبه..
في حجه يقصد ملاذه ومرجعه ومأواه الحقيقي الذي خلقه ورزقه، وبيده كل شأنه صغيره وكبيره، يقصد الذي يعلم السر وأخفى، والظاهر والباطن، يقصد من بيده ملكوت كل شيء، يقصد القوة المطلقة، والرحمة الواسعة، والكمال المطلق، والعفو الواصل، يقصد ربه لطرق بابه والحديث إليه، والشكوى له، والاعتراف بين يديه، والاغتراف من معينه، والانكسار والاستسلام أمامه..يقصده رجاء غفران ما مضى وتسديد ما بقي..
هذه كلها وغيرها من مقاصد هذا القصد، فهو لا يرى في هذا القصد إلا عظمة ربه مقابل عجزه، وقوته مقابل ضعفه، وغناه مقابل فقره، وعزته مقابل ذله، وملاذه مقابل تشرده، وأمنه مقابل خوفه، ورحمته مقابل استغاثته، ونجاته مقابل هلاكه، وكرمه مقابل لهفته، ومٱله مقابل تيهه، وصلاحه مقابل فساده..
فهو في قصده يتبرأ من أوهام حوله وقوته، ويتجه إلى الحول والقوة الحقيقيين القاضيين الفاعلين..
فهو في قصده يرجو تغييرا وتبدل حال ويوقن بألا دافع لذلك، ولا ميسر له ولا معين عليه ولا مسدد له إلا هو..
هذه بعض معاني ذلك القصد وذلك الحج، لذلك جاء بيان وجهة ذلك الحج بأنها (لله) اللام هنا للاختصاص أي خص قصده بالله وفي الله ولله وعلى الله ومن الله، فهو يتجه إليه متوكل عليه مستمدا منه متدبرا متعمقا في تفاصيل ذلك التوجه، وذلك القصد..
هذا القصد وذلك التوجه هو الذي عبر عنه القرٱن بالفرض، (فمن فرض فيهن الحج) هو لم يفرض عليه، وإنما فرضه على نفسه، بتلقائية ورغبة لأنه يعلم قيمة ذلك الفرض وحاجته الملحة لذلك الفرض، لأن من عادة الإنسان أنه لا يحب الفرض ولا يفرض على نفسه، إلا إذا علم قيمة ذلك المفروض وجزاء ذلك الفرض، وحاجته وضرورته له، ذلك الفرض الذي يستدعي منه حضورا وتركيزا وتنبها ويقظة، فهو يغالب نفسه ليقوم بذلك الفرض..
هذا التوجه وهذا القصد له خصوصية، إذ قد يقصد العبد ربه في أي زمان ومكان، إلا أنه هنا كان توجها وقصدا في مكان معين، في أقدس بقعة على وجه الأرض لذلك جاء في الحديث (من أتى هذا البيت) هنا عمومان، عموم في الٱتي، وعموم في زمن الإتيان، فالعموم الأول باق على عمومه من حيث التشخيص، فأي ٱت يمكن أن تتحقق له ثمرات ذلك الإتيان، بغض النظر عن لونه أو عرقه أو نسبه أو مستواه العلمي أو الثقافي، كل يمكن أن يستفيد من هذا العرض، ولكنه مقيد من حيث شروط ذلك الاتيان كما سيأتي معنا..
والعموم الثاني وهو زمن الإتيان، فالذي يفهم من الحديث أن ذلك الإتيان يمكن أن يكون في أي زمن، إلا أنه مقيد بلفظ الحج في الرواية الأخرى، فتكون هذه الخصوصية لإتيان البيت في زمن الحج مع استحضار معاني القصد، ولا يمنع أن يكون عموم إتيان البيت فيه من الفضل والخير والبركة ما فيه، لأن غالب من يقصده ويتجه إليه إلا لتحقيق تلك المقاصد السابقة أو بعضها..
إذن فمما يزيد قوة ذلك التركيز هو كونه إلى ذلك البيت، والإشارة إليه إشارة تعظيم وتحقق وخصوصية (هذا البيت)..إضافة إلى ذلك القصد الجماعي الذي لا يدع للإنسان فرصة للغفلة أو الشطط أو الزيغ..
هذا القصد ينبغي أن تهيئ له أجواؤه وأحواله وهدوءه واستقراره ووسائله، وليس أن يصبح البيت محطة تجارية تلصق عليه كل شعارات الماركات العالمية، ويحجب بناطحات بل منطوحات، لأن من حجب البيت فهو منطوح وليس بناطح، وأن يحاط البيت بهيشات الأسواق، وبمظاهر التخلف السلوكي والأخلاقي، والملاحقات للمظلومين من المشردين والمحتاجين هنا وهناك، واستغلال الحجيج ماديا ومعنويا، وجعل الحج فرصة لاستدرار الأموال، وجعل الحاج رقما أو عملة ينبغي اقتناصها، بيد أن خدمة الحجيج في زمن الصناديد قبل الإسلام، كانت تطوعية تعتبرها القبائل دينا لا يمكن التخلف عنه أو التنازل عليه !!!
هذا كله يشتت بوصلة ذلك التركيز، وذلك القصد، خاصة إن لم يكن هناك إعداد داخلي سابق لمواجهة ذلك التشتت والتشتيت المقصود..
هذا القصد له بنود وشروط يجمعها أصلان جامعان مانعان:
عدم الرفث
عدم الفسوق
الرفث يشمل الانصراف اللفظي.
الفسوق يشمل الانصراف الفعلي.
والرفث والفسوق هما أصلا أي تشتت أو انحراف عن ذلك القصد، فالحج ترك واستدبار لغير ما هو حج، ويدخل في صميم الحج، وهو عبادة جماعية، وانتقال لبيئة أخرى، ولقاء مع أجناس مختلفة، وحركة وعيش، هذا كله قد يدعو إلى الرفث وهو سيئ القول، من خصام أو مراء أو جدال أو خلاف أو سباب أو شتم أو دفاع أو منابزة أو معايرة أو لغو أو نميمة أو كذب أو غيبة أو استهزاء أو سخرية أو بهتان، أو اي جرم لساني قد تدعو له تلك الأجواء، لذلك عبر بالرفث الذي قد يدخل فيه المباح وهو ما يناجي به الزوج زوجته في الفراش، ليبتعد عن المحرم والمكروه منه، سدا لذريعة اللفظ،
ثم جاء سد لذريعة الفعل، وهو النهي عن الفسوق، وهو أي فعل خارج عن المشروع سواء كان لازما أو متعديا، وقدم النهي عن الرفث لأن اللفظ بريد الفعل، فإذا تطهر القول ساهم ذلك بشكل كبير ومتوقع في تطهر الفعل، وعبر بالفسوق مناسبة لحملة التركيز، فالحاج حاضر يقظ أن يفسق أحد أفعاله أو حركاته أو تصرفاته ويخرج عن دائرة المشروع..
وجاء النهي عن الجدال في الٱية وإن بصيغة الإنشاء (ولا جدال في الحج) لسد ذريعة الذريعة، فالجدال وإن كان محقا، يجذب من بين شفتي الحاج الرفث، وينزع من فعله الفسوق، لذلك جاء النهي عنه..وهو من مشتتات ذلك التركيز لأن المجادل يخرج عن طوره وينصرف عن غرزه ويضيع ويتيه بين انتصاره لنفسه، وتفوقه على مجادله..
وللإشارة جاء فعلا الرفث والفسوق مضارعين للدلالة على المحاولة والمجاهدة والمعاودة والاستمرار وعدم الاستسلام، والتوبة والأوبة..
لذلك جاء نفي جنس الرفث والفسوق والجدال في الحج (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) هذا نفي لجنس تلك المشتتات لذلك التركيز، وجاء نفيا إنشائيا لا خطابيا، للدلالة على أن من مقتضيات تلك المحطة وذلك القصد، وذلك الجو الابتعاد عن أي رفث أو فسوق أو جدال، لذلك فمنطقة البيت ينبغي أن تكون بعيدة كل البعد عن أي ضوضاء أو صياح أو تجارة أو استهلاك أو مول أو ملهيات، ينبغي أن تعمها السكينة والوقار والهدوء والأنس حتى نبعد الحاج عن أي لون من ألوان الرفث أو الفسوق أو الجدال..
على ألا يكون الابتعاد عن الرفث والفسوق والجدال نقطة ضعف تستغلها بعض الجهات كتجار أو بائعي تلك الديار، أو مؤسسات تلك البلاد، أو الجهة المسؤولة عن الجاح المتمثلة في وزارة الأوقاف، فيستغلون الحاج ويهضمونه في أبسط حقوقه متكئين على ذريعة (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وهنا نتوجه للحاج بالقول، بأن المطالبة بالحق بطريقة حضارية وقانونية لا يدخل في الرفث والفسوق والجدال، بل هو من التقوى ومن القول الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
أضف إلى ذلك استغلال بعض الجهات خاصة الوطنية منها، أمر الحاج بالصبر والتحمل وأن الحج ميدان للشعاثة والاغبرار، منتهزين ذلك في عدم القيام مسؤوليتهم تجاه الحاج، والقيام بشؤونه التي هي من حقوقه..!!!
إذا حقق الحاج وتحقق بهذه الشروط والبنود، وحاول جاهدا رغم المثيرات والمغريات والملفتات والمشتتات والصارفات التي أصلها (الرفث والفسوق والجدال) (رجع) فعل ماض دال على التحقق، أي أن هذا الرجوع محقق منجز ووعد واف مستوفى لا تخلف فيه ولا عنه، وهو في نفس الوقت قرار من الحاج نفسه كما سيأتي..
(كيوم ولدته أمه) أو (كما ولدته أمه) هذا تشبيه مستوف لكل عناصر التشبيه ومحقق الشبه، اي رجع على الهيئة التي كان عليها حين ولدته أمه، وهنا لابد من تأمل عميق لنستجمع مفردات التشبيه المقصودة هنا..
فالإنسان حين يولد يكون على صفات خاصة ومعينة، ولا شك بأنه ليس مقصودا هنا في هذا التشبيه، كل تلك الصفات، لذلك لابد من فرز والتمييز وإبراز لتلك الصفات المقصودة..
فالإنسان حين يولد يكون طفلا غير عاقل ولا ناطق ضعيفا فقيرا محتاجا لأدنى حنو، فلا أظن أن شيئا من هذه الصفات مقصود في هذا التشبيه..
ولكن هناك صفات أخرى تعتبر فرصة سانحة ومرغوبا فيها وفي العودة إليها..من ذلك:
صفاء صفحته وسريرته
صفاء فطرته
وهاتان الخصلتان والخاصيتان تعتبران غاية من غايات المومن يرجو العودة إليهما، والمرور بهما في جميع محطات حياته المثقلة بالعوائق والعلائق والدواخل والتراكمات والذنوب والمعاصي والمرهقات والغفلات والسقطات والزلات وردود الأفعال غير المحسوبة والاضطرابات… هذا كله يجعل المؤمن راغبا ومتمنيا لذلك الصفاء في الصفحة إذ لا سيئة، وفي السريرة إذ لا حقد ولا رذيلة وفي الفعل إذ لا إيذاء ولا اعتداء، وفي الفطرة إذ لا غلو ولا ميوعة ولا إفراط ولا تفريط ولا قلب ولا خلط..
هذه الرغبات وتلك المتمنيات يحصل عليها بهذا الحج والقصد والتركيز لأيام معدودات، لذلك هذه الجائزة العظيمة تستدعي تركيزا وعملا عظيما ودقيقا ويقظا يفوق أي تركيز سابق، هذه الجائزة فيها جانب منحي وجانب تكليفي..
فالجانب المنحي هو فضل الله وتوفيقه واختياره لك لتكون من الحاجين القاصدين، إذ يسر لك السبل وصرف عنك الموانع وما أكثرها في هذا الزمان، – أناس وضعت أمامهم عقبات وموانع ظلما وعدوانا لراي رأوه أو اجتهاد اجتهدوه والله المستعان وأجر نيتهم مكتوب إن شاء الله – فهذا جانب يستحق الشكر والحمد والثناء لله المتفضل الكريم..
وجانب تكليفي له ما بعد الحج، فالحج يعتبر بداية وانطلاقة لرحلة جديدة في الحياة، ف(لا رفث) أو (فلم يرفث) ينبغي أن تصبح شعارا وقرارا، وأرى بأنها المقصد الأول، وكذلك الأمر بالنسبة (لا فسوق) و(فلم يفسق) و(لا جدال) كل ذلك يعتبر قرارات وشعارات لما بعد الحج لأن فعلها هو الذي عكر صفو تلك الصفحة وتلك السريرة وتلك الفطرة، وبالتالي فالعودة إليها هي عودة إلى ذلك التعكير، لذلك ينبغي على الحاج أن يضع نصب عينيه هذا الأمر لما بعد الحج حتى يرجع حقيقة كيوم أو كما ولدته أمه، فهو تشبيه في الزمان والحال، (كيوم) تشبيه في الزمان و(كما) تشبيه في الحال فهو تشبيه مكتمل الأركان..
وقد جاء تفسير هذا التشبيه في رواية أخرى وهي (غفر له ما تقدم من ذنبه) وهذا ليس حصرا في التفسير بل هو تنويه إلى أهمه وأهم مقاصد ذلك الحج والقصد، وهو غفران الذنوب، وإلا فهذا التشبيه يشمل صفاء الصفحة والسريرة والفطرة..
وبهذا يباهي الله ملائكته في ذلك اليوم المشهود يوم عرفة أن عباده أتوه شعثا غبرا لانهماكهم في تحقيق ذلك القصد والتركيز فيشهدهم أنه قد غفر لهم، ومن هنا كانت دعوة الحاج العائد إلى بلده مستجابة فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن (اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له للحاج)
وحري بالإنسانية أن تهتم بهذه العودة وبترتيباتها السابقة واللاحقة المحققة لها، فهي عودة لإنسان جديد فريد نقي تقي صالح مصلح صافي من معظم الشوائب، صالح لوطنه ولوظيفته ولأسرته ولأمته..