عَمَى القلوب في ظل فوضى “التنوير”
عَمَى القلوب في ظل فوضى “التنوير”
بقلم الدكتور خالد علمي
انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة “موضة” انتقاد الإسلام والطعن في التراث الإسلامي، وهي “موضة” لم تخرج من صالونات الموضة، بل من أفواه من يسمون أنفسهم بـ”التنويريين” الذين يستعملون الفكر والحداثة لتسويق هذه الموضة بين المعجبين، واضعين أنفسهم في أعلى قمة العقل وفوق عقول باقي الخلق القاصرين حسب تصورهم-، وتعتبر لافتة “الرؤية الجديدة للتعامل مع التراث” اللافتة التي يرفعها هؤلاء “التنويريون” كمنطلق لإثبات نظرياتهم، فيستحضرون كل مقولات “العقلانية” لإثبات ما يسمونه “خرافة المرويات التاريخية” ويحاولون جاهدين القفز في الآيات القرآنية لنسخ ولصق أفكار القدرية والجهمية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والصوفية والسلفية…، وجمعها في بوتقة واحدة، ليتم الأخذ والرد والنفي والإثبات لما يتناسب مع نظرياتهم، معتبرين الملتزمين بالكتاب والسنّة النبوية تشريعاً واعتقاداً وفهماً وكذلك باقي المسلمين في العالم، مجموعة من “الحمقى”، “الغوغائيين”، “الجهلة”، “الرجعيين” أو “الكهنوت” المرتبطين بالتراث “الخرافي.-حسب تصورهم-.
ومعلوم أن حق الانتماء الفكري للبشر يعتبر حقا مكفولا في القوانين الشرعية (قوله تعالى في سورة يونس :أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وفي القوانين الوضعية (الدستور والمواثيق الدولية)، إذ لا يُمكن جَبْل الناس على دين واحد ومذهب واحد وفهم واحد، لكن المؤسف في خطاب البعض من هؤلاء “التنويريين” لم يقتصر على طرح الأفكار ومناظرتها مع الأفكار المخالفة، بل تعدى الأمر إلى القذف والسب والعنف اللفظي اتجاه صحابة رسول الله والنابعين والعلماء والفقهاء ومن يسير في نهجهم، حتى وصل الأمر بأحدهم -مؤخرا- إلى المساس بقداسة الذات الإلهية على الهواء مباشرة بقوله :”هاد الله مالو”، وهو تعبير يقصد به التحقير في العامية المغربية -تعالى الله عما يقول علوا كبيرا-، متجاهلا بنود الدستور المغربي المتعلقة بالمقدسات وكذلك مشاعر أزيد من مليارين من المسلمين.
فما هي أهم ملامح هذه النسخة من التنوير في العالم الإسلامي؟ وكيف يمكن فهم مواقف أصحابه الاستفزازية اتجاه ثوابت الدين؟
استنساخ التجربة الغربية
خلال القرن الثامن عشر الميلادي، استطاع مجموعة من العلماء والمفكرين الغربيين إطلاق حملة قوية نحو إعادة بناء التصورات عن الكون والحياة والمجتمع والدولة بعيدًا عن إملاء الكنيسة ورجال الدين، كان من أبرزهم العالم الفيزيائي “إسحاق نيوتن”. وقد كانت هذه الحملة من بين أسباب ظهور حركة فلسفية تدعو إلى إعادة بناء النظم السياسية والفلسفية وحتى الدينية على أساس العقل واستبعاد ما سواه، وكان من زعماء هذه الحركة مجموعة من الفلاسفة، أمثال “فولتير”، “ديفيد هيوم” و”كانط”. ونظرا لما كانت تعانيه أوروبا من استبداد سياسي وطغيان كنسي يستند إلى الدين في تبرير أفعاله، فقد استقر عند هذه الحركة خلاصة أن الدين هو أساس الفساد والظلم، وأنه لا سبيل للتقدم إلا إذا تم إقصاؤه من الحياة العامة وجعله حبيس دور العبادة والمجال الشخصي، وقد عُبِّر عن هذا الموقف في الشعارات المعادية للدين التي كانت ترفع خلال الثورة الفرنسية –المُبَلْوِرة لحركة التنوير- من قبيل “اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين”. وهكذا يمكن القول أن التصورات النهضوية والتقدمية لحركة التنوير الغربي كانت قد بنيت في الأصل على أساس العداء الشديد للدين وإقصاء رجال الدين واستبعادهم عن شؤون الدولة والمجتمع.
أما في العالم الإسلامي، فقد ذكر المؤرخون ظهور بعض التيارات التي يمكن تسميتها ب “التنويرية” مابين القرنين الثاني والرابع الهجري كحركة “ابن الراوندي”، إلا أن انبعاث الحركة التنويرية بشكلها الحديث جاء مع الاستعمار الإمبريالي الغربي الذي نهج سياسة الإخضاع الثقافي والهيمنة الفكرية وإرساء التبعية، حيث عمل على تصدير الفكر التنويري إلى مستعمراته الإسلامية، مستفيدا في ذلك من تفشي الشعور بالهزيمة الثقافية وانكسار الاعتزاز والانبهار بالمدنية الغربية عند الشعوب الإسلامية المستعمرة. فمنذ هزيمة المماليك أمام جيوش “نابليون” والتحول الواضح في موازين القوى، شهدت مصر أولى ملامح دخول الفكر التنويري إلى الأدبيات الإسلامية، وقد ساعدت البعثات التعليمية نحو أوروبا عند نشوء الدول الوطنية الحديثة في مصر وباقي العالم الإسلامي في انتشاره. ومع توالي الهزائم والإحباط تطورت حركة التنوير في العالم الإسلامي وكثُر عدد رموزها وصارت أطروحاتها مع الوقت أكثر جرأة في مهاجمة تراث المسلمين وتاريخهم وهويتهم، حتى صار من الطبيعي جدًا أن تجد من ينسب نفسه للإسلام وهو في نفس الوقت يسوق لشعارات وأطروحات تحمل مضامين مناقضة لقيم الإسلام جملة وتفصيلًا. وقد ظهرت أسماء عديدة لمفكرين ومثقفين ينتسبون للتنوير ويزعمون تجديد الخطاب الديني ليتلاءم مع متطلبات العصر، يمكن ذكر أبرزهم كالتالي: -“طه حسين”، وهو الأديب المصري الملقب ب”قيدوم العقلانيين العرب” والذي درس في كل من مصر وفرنسا وتنوعت دراساته بين الأدب والتاريخ والجغرافيا والحضارة الإسلامية وعلم النفس، وقد عُرف بنقده للكثير مما جاء في التراث الإسلامي وانبهاره بالحضارة الغربية وطرحه للعديد من الأفكار الحداثية التي صاغها في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، -“حسن حنفي”، وهو مفكر مصري وأحد منظري ما يسمى “اليسار الإسلامي”، والذي حاز على شهادة الدكتوراه قي التراث من جامعة “السوربون” الفرنسية، وقد عرف عنه دعوته للتنويريين للتخفي بقناع الدفاع عن الإسلام وتجديده لتمرير الأفكار التي تؤدي في نهاية المطاف إلى خلع بريق الإسلام بالكلية، -“نصر حامد أبو زيد”، وهو أكاديمي مصري تخصص في الدراسات الإسلامية واشتهر بمعاداته للتراث الإسلامي والدعوة إلى إسقاط المناهج الفكرية الغربية على النصوص الشرعية الإسلامية، وكذا الدعوة للتحرر مما سماه “السيطرة الثقافية للنص” كما جاء في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية”، وقد اعتمد في مشروعه الفكري على مجموعة القواعد والمناهج التي كانت تُستخدم في الغرب لفهم واستخراج المعاني الخفية والباطنية في النصوص الدينية في اللاهوت المسيحي والتي تم تطويرها لتشمل دراسة النصوص في العلوم الإنسانية، -“محمد أركون”، وهو أكاديمي ومؤرخ جزائري، عمل أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة بجامعة “السوربون” الفرنسية، ويعتبر من أبرز المفكرين الذين دافعوا عن الطرح التنويري الحداثي المنتقد للإسلام، على الرغم من اتهامه بالتمويه والخداع والمراوغة من طرف الكثير من أتباع التيار التنويري، وقد كان من الداعين لتحويل النص القرآني إلى كتلة هلامية لا تنضبط بمعنى ولا تُحد بدلالة. -“محمد شحرور”، وهو حاصل على شهادة مهندس ميكانيكي من جامعة موسكو، وقد تركزت اهتماماته ومسيرته التأليفية حول القراءة المعاصرة للتراث الديني والتي دشنها بكتابه “الكتاب والقرآن”، كما اشتهر بالكتابة والحوارات على الفضائيات والبرامج التلفزيونية واحتوت مؤلفاته على العديد من الأفكار العجيبة والغريبة حول الفقه والعقيدة والنقد للثوابت المعروفة.
يتخذ التنويريون مسارا نفسيا في بلورة موقفهم الفكري من التراث عبر مراحل، تبدأ بمرحلة الإعجاب بالأنموذج الغربي على مستوى الممارسات في ظل التخلف الاجتماعي والاستبداد السياسي والضعف العسكري والتقني والخدماتي وغياب العدل والحرية والكرامة في المجتمعات الإسلامية، ثم مرحلة الإعجاب بالفكر المؤطر للتركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول الغربية، ثم مرحلة القبول بمرجعية هذا الفكر الغربي ومواجهة مناهج التفكير والتصور في المنظومة الإسلامية، ثم مرحلة صدام المفاهيم، كمفهوم الهوية الذي يستبعد مفهوم الأمة المسلمة الواحدة ويسلم بدله بالكيانات القطرية، ومفهوم العلاقة مع الآخرين الذي ينفي التصنيف الديني “مسلم وغير مسلم” ومفهوم التشريع الذي يكرس سيادة الشعب فوق سيادة الشرع، ثم أخيرا تأتي مرحلة المواجهة المباشرة مع النص الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة وما يرتبط به من نصوص اجتماعية وتربوية وعقدية، وتشكل الظواهر المشتركة بين أصحاب التيار.
وكنتيجة طبيعية للنقد الممنهج للتراث الإسلامي وتبني مبادئ تنتمي لأيديولوجيات كالليبرالية والإنسانوية والعلموية، تكونت عند التنويريين مجموعة من الأطروحات المتصادمة مع الأصول الإسلامية الكبرى، ويمكن سرد الأصول الناظمة لهذه الأطروحات كالتالي:
-أولا، تاريخية النص الشرعي، بمعنى أن النص الشرعي هو عبارة عن إفرازات بيئة معينة وسياق ثقافي وحضاري مخصوص، وبالتالي يجب على الناس أن يقرؤوا النص الشرعي ضمن بيئتهم وسياقهم الثقافي والزمني وألا يتقيدوا بأفهام الأجيال السابقة وألا يُقيِّدوا بأفهامهم الأجيال اللاحقة، وبما أن تحديد خصائص البيئة الثقافية واللحظة التاريخية يخضع لقدر كبير من النسبية، يصبح النص الشرعي كتلة هلامية سائلة يمكن لقارئه أن يشكله كيفما أراد حسب أهوائه الشخصية ونوازعه النفسية والفترة الزمنية، وهذا ما يصب -ضمنيا- في اتجاه نزع القداسة عن النص الشرعي،
-ثانيا، تسييس التراث الإسلامي، بمعنى إحالة حركة تطور العلوم بكل ما تحمله من إنتاجات أو اختلافات إلى العامل السياسي، أي أن علماء الإسلام وفقهائه ومحدثيه كانوا ينتجون علومهم ويبنون مؤلفاتهم إما على رغبة إرضاء نظام سياسي معين والتقرب منه أو على معارضة آخر والسعي للإطاحة به بما يتماشى مع مصالحهم، وهي أطروحة تنسجم مع ما ذهب إليه الكثير من المستشرقين ك “نولدكه” و”جولدزهر”،
-ثالثا، استيراد التراث الخارجي، وتعني القول بأن العلوم الإسلامية هي في حقيقة الأمر مقتبسة من الإنتاجات المعرفية للأمم السابقة، وفي هذا السياق ذهب بعض التنوريين إلى القول أن الفقهاء والعلماء المسلمين نبذوا القرآن وراء ظهورهم واستبدلوه بأقوال الآباء والأجداد ونتاج الحضارات القديمة،
-رابعا، الهجوم على السنة النبوية وهدمها، وهي التي تشكل سورا منيعا لحماية القرآن الكريم ببيانها للمتشابه والمفصلة للمجمل من الأوامر والشرائع التي وردت في القرآن الكريم، وذلك بالتشكيك في ثبوتها وحجيتها وحشد الطعونات ضدها من ناحية رواية الصحابة والتابعين وتابعيهم ومناهج النقد والتوثيق لدى المحدثين وحتى من ناحية متون الأحاديث نفسها، إما لمخالفتها -حسب قولهم- للقرآن الكريم أو للعقل أو للعلم.
ومن الجدير بالذكر هنا أن المفكرين التنويريين يختلفون في درجة عدائهم للتراث ومهاجمتهم للثوابت الدينية، وقد تصل الاختلافات فيما بينهم -أحيانا- إلى درجة التشاحن والعداء، لكن الخيط الجامع بينهم هو محاولة تفريغ الإسلام من مضامينه وصلابته وتحويله إلى كتلة سائلة تقبل التشكل في أي قالب وُضع له، ففي هذا الإطار، يمكن رصد “تنويرات” ـ إن صح التعبير ـ لا تنويرا واحدا، فكون التنوير في العالم الإسلامي نشأ استجابة للتنوير الغربي لا يبرر التعامل معه كقطعة واحدة وجمع دعاته بخلفياتهم ومنطلقاتهم في سلة واحدة، وهذه “التنويرات” تختلف في حدودها وسقوفها واتجاهاتها واستراتيجياتها، فعلي العموم، نجد الشكل البارز الذي يستنسخ التنوير الغربي العلماني المتطرف الداعي لخطاب القطيعة المعرفية مع الدين والتراث والإيمان المطلق بالعقل الطبيعي والعلم التجريبي، ونجد الشكل الأقل تطرفا الذي ينسجم مع النسخة الناعمة من التنوير الأوروبي التي لا تعادي الكنيسة والذي تعتبر الدين داخلا في الحيز الفردي لا الجمعي، بدون سلطة ولا أي مساهمة في النهضة والتقدم -أي قيمة أخلاقية فردية لا مجتمعية-، و أخيرا، نجد الشكل العقلاني الإصلاحي الأكثر شيوعا والذي يشتبك مع الموروث الديني لبعث التنوير من داخله، ويقوم على إعادة قراءته قراءة إنسانية علمية وفق آليات وأدوات تحليلية ومنهجية عصرية.
تتسم الحركة التنويرية في العالم الإسلامي باستنساخ التجربة الأوروبية وإسقاطها على السياق الإسلامي، لأنها ترى أن واقع العالم الإسلامي اليوم و أسباب انحطاطه يشبه الحالة التي كانت عليها شعوب أوروبا في القرون الوسطى، ومن ثَم فإنه ما من سبيل نحو النهضة إلا سبيل إتباع الخطوات التي قامت بها أوروبا للخروج من تخلفها، فيشبهون مناهج وقواعد الفقهاء بالكهنوت الكنسي ويعتبرون تخلف الأمة في العلوم الكونية نتيجة لجمود التراث الديني تمامًا كما حدث مع الهيمنة الكنسية، ولتفادي المقاومة الشعبية المُتسمَة بالتدين والغيرة على الثوابت، غالبا ما تعمد الحركة إلى إخفاء العداء للدين، كادعاء منكرو السنة -مثلا- أنهم في إنكارهم ذلك يدافعون عن النبي وعن الدين الإسلامي، وكمادة علمية يمكن الاعتماد علبها، تقوم الحركة بإعادة إحياء تراث المستشرقين الذين كانت عند أغلبهم خلفية صليبية استعمارية وكانوا يسعون إلى تشويه الإسلام.
طَيْف عَقَدي متباين
من بين القضايا التي يتناولها بعض التنويريين قضية صحة كتاب “صحيح البخاري”، حيث يتم نفي صلته بمؤلفه والطعن في الأحاديث الواردة فيه لاعتبارات وشواهد ظهرت لهم وعلى رأسها عدم وجود نسخة أصلية للكتاب، وهذا ما يجرهم -بنفس الحجية- إلى تناول دائرة القرآن الكريم نفسه، لأن نسخته الأصلية نفسها غير موجودة، وبالتالي متى أنكروا هذا الصحيح المنسوب للبخاري لزم عليهم أن ينكروا القرآن الكريم كذلك، لكنهم يدركون أنه ليس في استطاعتهم الاقتراب من القرآن الكريم -ولو في الوقت الراهن- بسبب عظم قداسته عند عامة الناس، وبالتالي سيكون أمامهم إما خيار أن يسلموا بتهافت نظريتهم والتراجع عنها، أو أن يرتموا في حضن اللاإكترائية كردة فعل تبعد عنهم حرج التراجع، وإما أن يمضوا إلى أبعد الحدود، فينكروا حتى القرآن الكريم، وبالتالي لن يبقى ما يربطهم بالدين وقد ينتهي الأمر بهم إلى القطيعة مع الإيمان والسقوط في أحضان الإلحاد. وهذا المثال المجسد لما يمكن أن يقع فيه التنويريون من انتقال في الاعتقاد “المعلن” من الإيمان إلى الإلحاد، يمكن أن يقدم لطيف المواقف التي تظهر عند مجموع التنويريين في مسألة الإيمان على شكل مذاهب متباينة ومختلفة تمتد من المذهب الأولوهي أو الديني بمفهومه العام إلى المذهب الإلحادي، وهي كالتالي:
-أولا، الألوهية، وهي الإيمان بلزومية وجود الذات الإلهية الكاملة الصفات، لأن عدم وجودها يؤدي إلى محالات عقلية ممتنعة الوقوع، أو ما يصطلح عليه في الكتابات الفلسفية والكلامية بـ “واجب الوجود”. ويندرج في إطار هذا المذهب كل من يعتقد بالديانات السماوية الثلاث والديانات التعددية الصريحة. وهذا الإله اللازم وجودا يتواصل مع خلقه من خلال الوحي لخواص أنبيائه أو الإلهام والكشف لأصفيائه، والذي يدور حول مواضيع كالغاية من الخلق، العبادة، الشرائع والأخلاق، وهنا تبرز أهمية النبوة وسنتها عند المتدينين،
-ثانيا، الربوبية: وهي التي تقوم على أصل الإيمان بخالق واحد وأزلي للكون، نظم عمل الكون بقوانين آلية مستغنية عن التوجيه والتعديل، فالكون في الربوبية هو المصدر الوحيد لمعرفة الله وصفاته، ولذلك فالربوبي يستغني بحقائق العقل ودلالات الكون الطبيعي عن الوحي المنزل على الأنبياء، وينكر الوحي وتواصل الإله الخالق مع أي أحد من البشر ويعارض الأديان، كما ينكر وقوع المعجزات ويعتبر مدعي خلاف ذلك خرافي لا يعقل أو ماكر يتخذ قصص المعجزات سبيلا لخداع الناس. هذا ويعتقد الربوبي أن غاية الحياة تحقيق السعادة في هذه الدنيا وأن على الإنسان أن يلتزم بالأخلاق التي يهديه إليها عقله، والتي عامة تكون أخلاقا كونية يدركها الإنسان في كل بيئة لأنها من صميم طبيعة الإنسان وفي متناول الإدراك العقلي، أما في مسالة الآخرة والمعاد فهناك اختلاف بين الربوبيون بين إنكار البعث بعد الموت والحساب وحدوثه،
-ثالثا، الشيئية، وهي قريبة من الربوبية، وتعني إنكار الإيمان بالإله كما تعرفه الأديان والإيمان بشيء ما غير مادي لا يمكن التعبير عنه، كقوة عظيمة تتجاوز المخلوقات بعظمتها وتقترب في مفهومها من مفهوم “الرب” عند الربوبية و مفهوم الملائكة أو الطاقة. وبالرغم من أن إحصائيات التصنيف الديني -غالبا- ما تستثني أصحاب هذا المذهب كتوجه عقدي مخصوص، إلا أنهم يشكلون غالبية سكان الدول الغربية بما في ذلك الدول الأكثر إلحادا كالسويد.
-رابعا، اللاأدرية، وهو مذهب يرى أنه لا يمكن الجزم بوجود الله أو عدمه ويعلق الحكم في هذا الموضوع، وذلك بسبب استواء حجج الملحدين والإلهيين واستحالة الترجيح بينها، أو بسبب الاعتقاد أن الإنسان غير مهيأ ذهنيا ومعرفيا لأن يجزم في هذا الموضوع، وكنتيجة لذلك يتصرف الإنسان كما لو أنه لا يوجد إله. وقد عرف هذا المذهب بما قاله الدارويني الشهير “توماس هكسلي”: “إن الأمور الميتافيزيقية لا سبيل لإثباتها أو دحضها”، وإن كان استعماله لمصطلح “اللاأدرية” وصفا لمنهج عدم الحسم في غياب الأدلة القاطعة وليس بالمعنى المستعمل اليوم في شأن الحكم في أمر وجود الله. هذا ويذهب عدد من أعلام الإلحاد في القرنين الأخيرين إلى نسبة أنفسهم إلى “اللاأدرية”، فهم يقرون أنهم لا يعلمون إن كان الإله موجودا أم لا، لكن لاأدريتهم لا تتخذ صبغة الحياد المعرفي المطلق، وإنما تميل إلى كفة الشك في وجود الإله،
-خامسا، الإلحاد، ويقصد به إنكار أي حقيقة من حقائق الدين وخصوصا إنكار وجود الرب الخالق، فيكون الكون عند الملحد أزليا يتكون من مادة وطاقة وحركة عمياء، وهو عالم فاسد بما فيه من شر وقيم وحقائق أخلاقية نسبية، الحياة فيه بلا غاية والموت بلا حكمة. ويتخذ الإلحاد شكلين مختلفين: إلحاد “قوي” يؤمن -جزما- أن الله غير موجود”وإلحاد “ضعيف” لا يؤمن بوجود الله وأن حجة المؤمن غير مقنعة. وقد كان الإلحاد حالة استثنائية ونادرة على مدى التاريخ البشري، غير أنه مع ظهور تيار “Theothanatology” الذي يدعو إلى استغناء الكون عن مبدأ تفسيري ومعنى أصيل وغاية نهائية، أصبح الإلحاد عقيدة لها أتباع ومؤسسات ومنابر، وقد عرف هذا التيار ازدهارا كبيرا على مدى النصف الأول من القرن العشرين وبداية النصف الثاني عندما وقع المجال الأكاديمي في الغرب تحت سلطانه بصورة تكاد تكون كلية، وهو ما أتاح له أن يفرض رؤيته على الخطاب الإعلامي ومنافذ التأثير، وفي أواخر القرن الماضي بدأت بوادر ظهور الخطاب المضاد للإلحاد من جديد في المجال الأكاديمي مع كتابات الفيلسوف “ألفن بلا نتنجا”، عبر عنه أحد أشهر دعاة اللادينية في أمريكا “مايكل شرمر” بمقولته الشهيرة “إننا: لا نشهد -فقط- أن الإله لم يمت، وإنما نشهد أيضا أن الإله لم يكن أكثر حياة منه اليوم”. أما فيما يخص الإلحاد في العالم الإسلامي، فقد أشار المفكر المصري “عبد الرحمن بدوي” في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام” إلى أن الإلحاد كفكرة كانت قد رصدت كذلك في البلاد الإسلامية، خاصة بين القرنين الثاني والرابع للهجرة حين ظهرت بعض الجماعات التي كانت تسعى لهدم فكرة النبوة وإنكار الله، وخلافا للإلحاد الذي يكون فيه الله هو المقصود مباشرة، ترك الملحدون في البلاد الإسلامية فكرة الألوهية جانبا، واتجهوا صوب فكرة النبوة والأنبياء، فإذا كان الإلحاد الغربي -مثلا- هو ذاك الذي يعبر عنه قول الفيلسوف “نيتشه”: “لقد مات الله”، وإذا كان الإلحاد اليوناني هو ذاك الذي يقول إن “الآلهة المقيمة في المكان المقدس قد ماتت”، فإن الإلحاد بصيغته في التاريخ الإسلامية يقول: “لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء”، وذلك لأن فكرة النبوة التي تشكل عصب الدين وجوهره، يكون إنكارها وسيلة عملية لقطع السبيل إلى الألوهية،
-سادسا، الإلحاد الجديد، مع بداية القرن الحادي والعشرين (خصوصا بعد أحداث 11 شتنبر بأمريكا)، وصدور كتاب “وهم الإله” للبيولوجي “ريتشارد داوكنز”، ظهر ما يعرف ب “الإلحاد الجديد” كنمط إلحادي يتميز عن الأنماط الكلاسيكية بمجموعة من الخصائص، منها: -استعمال العلم الطبيعي لتبرير القول باستغناء العقل عن الإله لفهم العالم، -الدعوة إلى إقامة الحياة كلها على أساس العلم الطبيعي، -اختزال الإنسان في طبيعته المادية، -نهج اللغة العدوانية تجاه الأديان، لدرجة أن رموز هذا التيار تم وصفهم بكارهي الله “Miso-theists”، -اعتبار الأديان مصدر القتل والفوضى والدمار في العالم، -اعتبار التدين خطراً على المجتمع وجبت محاربته وحماية الجيل الجديد والأطفال منه، -تسويق الإلحاد على أنه فكرة نبيلة وجب الدفاع عنها، -بعد اللغة الشعبوية المستعملة في هذا الخطاب عن الخطاب الفلسفي النخبوي لمن سبق من أعلام الإلحاد. -جهل أعلام الإلحاد الجديد بالمعارف الدينية بسبب انشغالهم بنقد الدين،
-سابعا، اللاإكتراثية، وهو موقف عملي من قضية وجود الله يتمثل في عدم الاهتمام بها وبعواقبها نظريا وسلوكيا والعيش كما لو أنه لا يوجد إله، حيث يكون سؤال الوجود الإلهي غير مركزي ولا أهمية له في صياغة فهم الإنسان للعالم أو قيمه أو فعله، مما يجعل أصحاب هذا المذهب ينغمسون -غالباً- في طلب متع الدنيا فقط. وهذا النمط من الاعتقاد الشائع في الدول الغربية يتشكل في مستويات، منها ما هو محض الجهل بالتفسير الديني للوجود، ومنها ما هو انشغال عن التفسير الديني بهموم الدنيا وإغراق في تفاصيلها، ومنها ما هو نفور من التفسير دون الدخول في خصومة معه.
وأمام هذا التنوع العَقَدي، لا يمكن اعتبار التيار التنويري نسقا واحدا، بل طَيفا من الأنساق التي تتفاوت في معتقداتها وجرأتها على الثوابت الدينية. حسب الظروف الفكرية والاجتماعية والنفسية والتربوية للأشخاص وحسب السياقات الاجتماعية والسياسية.
نحو تنوير إيماني بَنَّاء
أصبح ما يسمى ب”التنوير” يُصاغ في مظهر الدعوة لإعمال العقل بالنقد دون الأخذ في الاعتبار ضرورة استكمال أدوات النقد التي تراعي الطبيعة العلمية للمسألة التي يقوم حولها النقاش، فأصبح حديث “التنويريين” عن ضرورة إعمال العقل في فهم الدين كمن يطالب أميا أو مهندسا معماريا ببحث الرأي الطبي في كيفية معالجة السرطان، وهو عين العبث، وذلك لغياب الأصول العلمية التي تقوم عليها أرضية المباحثة، وهذا خلل علمي يقع فيه من يزعم إعلاءه من شأن العلم ويدعو لجعله حكما على كل شيء، حتى على ما يخرج عن قدراته العقلية كالغيبيات، وبذلك يكون المجتمع في حالة من الفوضى الفكرية التي يستعمل فيها التفسير الخاطئ وغير المنضبط بمنهجية علمية مستقرة للانتقاص من الدين والتطاول عليه، فالإقرار بوجوب النقد الدائم يجب أن يتلازم معه الإقرار بوجوب الحفاظ على ضوابط النقد.
من ناحية أخرى، يعد بناء الشخص لمنظومات برهانية عقلانية سببا رئيسيا في امتلاكه لمعتقدات صحيحة، وارتقاء المعتَقَد إلى مستوى المعرفة يستلزم أن يكون المعتقد راسخا، وإذا كان اعتقاد المؤمن راسخا فإن رؤيته لما حوله ستكون أوضح ولن يكتنفها الشكوك والضبابية، ولذلك يستوجب رسوخ الإيمان وجود أسباب عقلانية مؤصلة للإيمان وحجج استقرائية -تاريخية، علمية وكونية- للحقائق الدينية، حتى يتوازى برهان الدين مع البرهان العلمي. وقد يفشل المرء في تبرير معتقده بسبب وجود خلل في معاييره الخاصة أو انعدام السعي في البحث عن الحقيقة، ذلك أن من يسعى لتكوين معتقدات صحيحة، لابد له أن يسعى وراء تكون معتقدات عقلانية من خلال البحث والتحقيق الكافيين، والحقيقة أن هذا ما يتوافق مع رؤية العلماء والفلاسفة المسلمين الذين رأوا أن العلم والمعرفة والبحث أمور ضرورية لتحقيق الإيمان، فالإيمان لا يقوم على التقليد، ولكن على الاقتناع، وقد كان الإمام “أبو حامد الغزالي” يقول أن المُعْرِض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثله كمثل من يتعرض لنور الشمس وعيناه مغمضتان، فليس بينه وبين العميان فرق، وأن العقل مع الشرع نور على نور، معتبرا أن الشك أولى درجات اليقين، ومع هذا يبقى الإيمان نفحة مستقرها القلب، قد يساعد العقل على إشعالها، لكن الإيمان يسمو على أدوات العقل ومناهجه الاستقرائية، فللعقل حدود، ومن العقل معرفة حدود العقل وإمكاناته في إثبات البرهان والتحري عن الحجة الصحيحة، والفكرة تجد تجلياتها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومنها قول الله تعالى في سورة الحج “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”,