الفقه السياسي الإسلامي ومدى حاجته للمراجعة
الفقه السياسي الإسلامي
ومدى حاجته للمراجعة
مما لا شك فيه أن الفقه الإسلامي – عموما – هو اجتهاد بشري وصياغة بشرية، يزدوج فيها الفهم والاستنباط من نصوص الوحي، مع النظر في الواقع تكييفا له وتنزيلا للأحكام المستنبطة عليه. فالفقه إذاً يتشكل من ثلاثة عناصر: الوحي أو الشرع المنزل، والواقع المعيش، وذات الفقيه المستنبِط.
وإذا كان الوحي معصوما في نصوصه وأحكامه ومقاصده، فإن فهمه والاستنباط منه ليس عملا معصوما، بل هو اجتهاد وكسب بشري يصيب ويخطئ .
وكذلك – ومن باب أولى – فإن الواقع المعيش تتفاوت في إدراكه وتشخيصه وتكييفه عقولُ الناس وتقديراتهم، بمن فيهم الفقهاء. وتبعا لذلك يتحدد الكثير من اجتهاداتهم وفتاويهم المرتبطة بالواقع والمتأثرة به. ومن هذا الباب قال ابن القيم بلسان الفقهاء: “فصلٌ في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد…”[1]
من جهة ثالثة فإن الفقهاء متفاوتون في ذواتهم وقدراتهم الفكرية ومراتبهم العلمية ومسالكهم المنهجية. ولكل واحد من هذه الأمور تأثيره في اجتهاداتهم ونتائجهم. بل حتى أخلاقُهم وطِباعُهم قد يكون لها تأثير في ذلك.
ومن هنا فالمنتوج الفقهي الاجتهادي عموما يحتاج إلى مراجعات مستمرة، سواء في حينه وأوانه، أو في الأزمنة اللاحقة، وهو آكد وأحرى. وقد نص الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في نازلة، ثم بعد مدة عُرضت عليه نازلة مماثلة، فعليه أن يجدد الاجتهاد لها ولا يكتفي باجتهاده السابق.
فهذا عن الفقه بصفة عامة.
أما الفقه السياسي على وجه الخصوص، فهو يشتغل ويجتهد في مساحات وأقضية هي دوما متحركة متغيرة، ثم هو يخضع لمؤثرات إضافية، وهي مؤثرات أشد وطأة مما في المجالات الفقهية الأخرى.
في جانب الأدلة الشرعية، نجد أن النصوص والأحكام المتعلقة بهذا المجال قليلة، أكثرها يتسم بالعموم والكلية، ويشمل هذا المجالَ وغيرَه؛ كالنصوص الآمرة بالشورى، وبالعدل والإحسان، والحكم بما أنزل الله، والرد إلى الله ورسوله عند التنازع، وطاعةِ أولي الأمر، ولزوم الجماعة، والوفاء بالعهود، وأداء الأمانات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم… وكالنصوص الناهية عن الظلم، وعن غش الرعية، والاحتجاب دونها، وأكل أموال الناس بالباطل، وعن الـمَـكس، والخيانة، واتباع الهوى، والشطط في استعمال السلطة…
ويلحق بهذه النصوص ما استخلصه العلماء من مقاصد وقواعد شرعية يجب على الولاة حفظها والعمل بمقتضاها: مثل حفظ الضروريات الخمس، وقاعدة التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
فهي مبادئ وقواعد عامة، هادية وموجِّهة أكثر مما هي أحكام تفصيلية للسياسة ونظامِ الحكم. ومعنى هذا أن الأحكام والمتطلبات التفصيلية في هذا المجال متروكة – بنسبة كبيرة جدا – للاجتهاد والتجربة والشورى والتعارف[2]. ولذلك قال الجويني: “ومعظم مسائل الإمامة عَرِية عن مسالك القطع، خلية عن مدارك اليقين”[3].
فمن هنا تكون المراجعة الدائمة والاجتهاد المتجدد للفقه السياسي أمرا واجبا، وليس فقط سائغا ومقبولا.
على أن المراجعة لا تعني بالضرورة أن ما نراجعه أو نراجع أنفسنا فيه غير سليم أو غير صحيح، أو فيه خلل أو زلل ويحتاج إلى تصحيح، بل المراجعة تشمل حتى ما هو صحيح في نفسه، صالح لزمانه، ولكنه فقط لم يعد مطابقا لواقعنا، أو لم يعد كافيا لزماننا ومتطلبات أحوالنا.
وإذاً، فالقيام بالمراجعة والتصحيح والتنقيح والتعديل والتتميم لاجتهادات علمائنا السابقين ليس فيه حرج، لا علينا ولا عليهم. بل الحرج كل الحرج إذا لم نفعل.
فصل المقال فيما بين الشرع والتاريخ من الاتصال والانفصال.
في موضوع الفقه بصفة عامة، وفي الفقه السياسي بصفة خاصة، لا بد أن ننتبه إلى أن هناك قضايا وأفكارا ومصطلحات تناولها الفقهاء وكُتَّاب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، وأصبحت مادة متداولة ومتوارثة في تصانيفهم، وهي في الحقيقة ليست أكثر من توصيف وتنظيم فكري ظرفي، للنظم والأعراف التي صاغتها وصنعتها الممارسة الفعلية لحركة التاريخ. ففي هذا الصنف من القضايا والأفكار يمتزج التاريخ بالشرع، أو بالأحرى يمتزج تاريخ المسلمين وتصرفات المسلمين، بالمرجعية الإسلامية والثقافة الإسلامية. وقد يكون نصيب التاريخ وتأثيرُه فيها أكثر من نصيب الشرع وأدلته.
فهذا يصدق – بتفاوت – على معظم ما تضمنته كتب السياسة الشرعية وأبوابها في المؤلفات الفقهية. نقول هذا عن مؤلفات: ابن قتيبة والجويني والغزالي والماوردي والفراء وابن تيمية وابن جماعة وابن خلدون والطرطوشي والقلقشندي وابن الأزرق وغيرهم.
فهؤلاء العلماء والمفكرون حين يتحدثون ويكتبون وينظرون في قضايا: الخلافة والملك، وأهل الحل والعقد، وعن صلاحيات الإمام وحقوقه وطاعته، وعن الشورى والبيعة، وعن الوزارة والإمارة، والحجابة والكتابة، وعن خلع الإمام وانخلاعه، وعن نظام القضاء ونظام الحسبة، وتدبير المالية العامة، وعن ولاية العهد وإمامة المتغلب، ووزارة التفويض ووزارة التنفيذ، وعن أحكام البغاة، وعن سلطة الحاكم هل هي عن ولاية أم عن وكالة… حين يتحدثون في هذه القضايا وأمثالها من شؤون السياسة والحكم، فإنهم عادة يجمعون ويمزجون بين استلهام الواقع الماثل وما يجسده ويمارسه فعلا، وما يتطلبه إصلاحا وتكميلا، وما يسمح به وما لا يسمح به، من جهة، وبين تقديراتهم وتصوراتهم وتجربتهم المعيشة، من جهة ثانية، وبين التفاتهم إلى المبادئ والأدلة الشرعية وما تسعف به وترشد إليه من جهة ثالثة.
ولا مفر أيضا أن تستحضر ونعترف أن الممارسة التاريخية للدول الملكية الحاكمة عبر التاريخ الإسلامي، فيها الكثير من التأثر والاقتباس والمحاكاة لأنماط الحكم السائدة يومذاك، بما فيها تلك الأنظمة التي أسقطتها الفتوحات الإسلامية. بمعنى أنها حتى بعد أن أسقطتها استمرت تأخذ من أساليبها وتقاليدها القيصرية والكسروية. ومن ذلك هذا التحذير المبكر من عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: “لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سُنَّةُ أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنَّة هرقل وقيصر“[4].
ونحن مدعوون وجوبا إلى التمييز بين هذه المقامات وهذه المكونات المختلفة للفكر السياسي الإسلامي وللممارسة السياسية في تاريخ الإسلام، وإعطاءِ كل مقام ما يناسبه من مقال. فما كان أصله سنة الخلفاء الراشدين له مقامه المعلوم، وما كان أصله سنة هرقل وقيصر فله مقامه المذموم، وما كان من قبيل ما سَنَّه الحكام والولاة بتدبيرهم وتفكيرهم، وصاغه التاريخ بتفاعلاته وصراعاته، وكذلك ما كان من بنات فكر المفكرين والعلماء، ومن تمازجهم وتعاركهم مع قضايا واقعهم وحاجات زمانهم، فهذا كله يعد من قبيل التاريخ والتراث التاريخي، فنتعامل معه كما نتعامل مع التاريخ، بحيث نستفيد منه ونعتبر به، وقد نقتبس منه – فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها – ولكنه أبدا ليس شرعا لنا.
وأما ما كان من باب نظر العلماء والمفكرين الإسلاميين في أدلة الشريعة واستنباطهم منها، فهذا هو الذي يُمَحَّصُ بذاتِ الأدلة وبمناهج الاستنباط، ثم “يؤخذ منه ويرد”. ولا شك أن هذا القسم الثالث أكثره صحيح ومقبول.
فهذا التمييز والفصل بين هذه المقامات، هو ما أعنيه بفصل المقال فيما بين الشرع والتاريخ من الاتصال والانفصال، فهو فصل ضروري حتى لا نخلط شرعنا بتاريخنا، ولا نتخذَ التاريخَ دينا لنا. وهنا أقتبس من ابن القيم فأقول: “هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أَوجبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه، ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به…”
فالفصل بين الشريعة ومكوناتها من جهة، والتاريخ ومكوناته من جهة أخرى، يريحنا ويرفع عنا الحرج في مبدأ المراجعة والغربلة لتراثنا في الفقه السياسي وغيره. ويريحنا ويرفع عنا الحرج حين نأتي إلى عديد من المقولات والمقررات في هذا الفقه فننزع عنها صفة الحجية واللزوم، أو صفة القداسة كما يقال.
المراجعة اليوم..
ذكرت قبلُ أن فقهنا السياسي يحتاج دوما إلى المراجعة، سواء في حينه أو بعد زمانه، وذكرت الاعتبارات التي تحتم ذلك. فإذا أضفننا إليها كونَ فقهنا وتراثنا السياسي، بمعظم مفرداته وقضاياه ومؤلفاته، يرجع إلى ما بين القرنين الخامس والثامن الهجريين، وأننا الآن في القرن الخامس عشر، أدركنا أن المراجعات المطلوبة لا بد وأن تكون عميقة وشاملة، ولا تستثني إلا ما كان شرعا منصوصا، صحيحا صريحا[5]. وإذا استحضرنا أن ما يفصلنا عن ذلك الفقه ليس مجرد مدة زمنية طويلة تعد بمئات السنين، بل تفصلنا عنه أيضا التطورات النوعية الهائلة التي عرفتها مجتمعاتنا والعالم من حولنا، في كافة المجالات والأصعدة: السياسية والتشريعية والاجتماعية والمالية والاقتصادية والإدارية والعلمية والثقافية والصناعية والتواصلية… أفليس هذا وحده موجبا للمراجعة والتجديد والملاءمة، على نطاق واسع؟
ثم نأتي أخيرا إلى الهزة السياسية الكبرى، التي عرفتها المنطقة العربية خلال السنة المنصرمة (1432هـ/2011م)، وما زالت جارية في هذه السنة (1433هـ/2012م)، وستستمر إلى ما شاء الله، وهي الهزة التي أُطلقت عليها أسماء: الثوراتُ العربية، والربيع العربي، والحـَـراك العربي… فنجد أن هذه الهزة قد كشفت عن وجوه مؤسفة من الضعف والقصور والتخلف والخلل في الفقه السياسي لدى الكثير من العلماء الشرعيين ومن القادة الإسلاميين. فانضاف هذا العامل إلى العوامل الأخرى الموجبة للمراجعة الشاملة والعميقة للفقه السياسي الإسلامي، بل الموجبة لإعادة بنائه وصياغته وتحيينه. فإما أن نبادر… وإما أن تتحول تلك العوامل نفسها إلى عواملَ داعيةٍ لإقصائه والاستغناء عنه.
وهنا لا ننكر – وما ينبغي – أن هناك مراجعاتٍ واجتهادات وصياغات معاصرةً لكثير من قضايا الفقه السياسي، قام بها عدد من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين المعاصرين. وهي تشكل رصيدا قيما وبداية جيدة لتجديد “فقه السياسة الشرعية”، أو لتأسيس “الفقه الدستوري الإسلامي”، على غرار ما ظهر من “فقه الاقتصاد الإسلامي”، و”فقه الأقليات”. بل إن الفقه الدستوري هو أكثر أهمية وخطورة، وأجدر بالعناية والمبادرة.
[1] – أعلام الموقعين (3 / 3)
[2] – أعني بالتعارف ما يتعارف عليه الناس بوعي ويختارونه بقصد. فالتعارف بهذا المعنى أخص من العرف. العرف ينشأ ويتقبله الناس ويمضون عليه بصورة تلقائية تدريجية. أما التعارف ففيه تفاهم وتوافق وتراض، وهذا لا يأتي عادة إلا بعد نقاش وتشاور ثم توافق. وعلى هذا الأساس فالعرف الاجتماعي يصلح مرجعا لشؤون العامة في معاملاتهم واصطلاحاتهم، أما في مجال السياسة والحكم فهو لا يصلح ولا يكفي، لأن العرف السياسي قد يصنعه ويفرضه عدد محدود من الحكام ومَن حولهم، بما يخدم دولهم وعائلاتهم الحاكمة، ثم يستتب ويمضي، أحب من أحب وكره من كره. وهذا لا يعطي مشروعية ولا حجية كالتي يعطيها العرف الاجتماعي، فلذلك لا بد في المجال السياسي من “التعارف” لا مجرد “العرف”.
[3] – الغياثي (1 / 35)
[4] – سنن النسائي الكبرى – (6 / 458)
[5] – أعني أنه: حتى الإجماعات والاتفاقات المشكوك في دواعي تشكيلها وسلامة انعقادها، أو في صحة حكايتها ورواجها، داخلة أيضا فيما يجب إخضاعه للمراجعة والتمحيص.