مجالات الشورى
مجالات الشورى
هذه قد تكون أهم قضية تظهر فيها أهمية الشورى، ومدى اتساع نطاقها وتأثيرها، خاصة وأنها هي التي يتحدد على أساسها من هم أهل الشورى، أي شورى من؟ ومع من؟.
فما هي المجالات والقضايا التي تدخلها الشورى وتكون مطلوبة فيها وجوبا أو ندبا، أو استحبابا وفضيلة؟ وهل هناك مجالات وقضايا ليس فيها شورى؟.
1ـ المجال السياسي الدنيوي
هذا هو المجال المعروف للعمل بالشورى، ويقترن ذكره بذكرها. قال الحافظ ابن حجر: “وقد اختلف في متعلق المشاورة: فقيل في كل شيء ليس فيه نص. وقيل في الأمر الدنيوي فقط. وقال الداودي: إنما كان يشاورهم في أمر الحرب مما ليس فيه حكم، لأن معرفة الحكم إنما تلتمس منه…” ([1])
وقال القاضي ابن عطية: “ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحروب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد، فتلك قوانين شرع. “ ([2])
وعلى العموم فإن من أبرز المجالات الشورية التي يكثر ذكرها وذكر أمثلتها، مجالين اثنين هما: المجال السياسي والمجال العسكري أو الحربي. ويمكن جمعهما معا تحت اسم “التدبير السياسي” بشقيه المدني والعسكري. ويدخل في ذلك التشاور لاختيار الخليفة، أو الحكام عموما. ثم تشاور الحكام والقادة السياسيين والعسكريين، مع مستشاريهم ومساعديهم، في رسم الخطط وتنفيذها، واتخاذ القرارات في مختلف الإشكالات والنوازل السياسية والحربية، بما في ذلك عقد السلم، أو إعلان الحرب، أو إجراء الصلح…
هذا ما يتركز عليه الحديث والتمثيل حين ذكر مجالات الشورى.
وعند التوسع في العبارة يقال: الشورى تكون في الأمور الدنيوية. وأما الشورى في قضايا الدين وأحكامه ، فقليل من يقول بها، وكثير من ينازع فيها.
وإذا كانت المجالات السياسية ـ المدنية والعسكرية ـ حاضرة بقوة ووضوح في كل حديث عن الشورى ومجالاتها، حتى ليمكننا اعتبار هذه المجالات مجمعا عليها، فإني أريد التركيز على غير هذه المجالات، لأجل إبرازها ولفت الانتباه إليها.
2ـ قضايا الشورى بين التعميم والتخصيص
ولعل أول ما يحتاج إلى تثبيت وتوضيح، هو العموم الوارد في النصوص المتعلقة بالشورى، وخاصة في الآيتين: )وأمرهم شورى بينهم(، )وشاورهم في الأمر(، فإن “الأمر” الذي يكون محلاًّ للشورى، جاء عاما ومطلقا غير مقصور ولا مقيد. والأصل في العام إجراؤه على عمومه حتى يثبت التخصيص، فإذا ثبت التخصيص بشيء بقي العموم سارياً فيما سوى ذلك. وكذلك القول في الإطلاق.
وبناء عليه، فالأمور التي تدخلها الشورى ـ وجوباً أو ندباً ـ تشمل جميع المجالات وجميع أصناف القضايا. هذا هو الأصل فيها، وهذا هو مقتضى عمومها. إلا أن هذا العموم يخصصه قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) ([3])
فما قضى فيه الله ورسوله بحكم قاطع لا احتمال فيه يكون خارجا عن الشورى ولا خيار فيه من حيث أصله. فما دام المتشاورون إنما ينظرون في الخيارات الممكنة والاحتمالات الممكنة، أي أنهم ينظرون في خيارات واحتمالات متعددة لترجيح أحدها والأخذ به، فلا مشاورة لهم ولا خيار أمامهم فيما حكم فيه الشرع حكما قطعيا لا غبار عليه ولا خيار فيه.
3ـ الشورى في تنزيل الأحكام القطعية
على أن الحكم الشرعي القطعي ـ رغم ذلك ـ يبقى محلا للشورى من حيث التنزيل والتنفيذ، وما يتصل بذلك من شروط وكيفيات وآجال وعوائق أو موانع، فيمكن التشاور بشأنه من هذه النواحي لا من حيث المبدأ. وهذا ما نبه عليه أبو عبد الله بن الأزرق في النوع الثاني مما يستشار فيه بقوله: “المستشار فيه (أي ما تقع فيه المشاورة) نوعان:
أحدهما: ما هو من أمور الدنيا وخفي وجه الصواب فيه فيطلب العثور عليه بالمشورة.
الثاني: ما هو من مقاصد الدين، ولم يتعين في الحال، أو أشكل فيه التلبس بالعمل به، باعتبار أمر خارج عن ذاته. ” ([4]).
ويمكن أن أدرج هنا المثال الذي سبق ذكره، وهو مشاورة إبراهيم عليه السلام لولده بقوله (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى). وقد كنت منذ سنين طويلة استشكل هذا الموضع وهذه القولة الإبراهيمية، وكنت أتساءل: كيف جعل إبراهيم عليه السلام هذا الأمر الإلهي الواضح المحسوم محل نظر لولده؟ وأتساءل عن مغزى قوله: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)؟ وما عساه يرى مع أمر الله؟!.
واليوم يتسع نظري لأدرك أن هذه المشاورة لا تتعلق بالقبول والرفض، ولا تتعلق بالامتثال أو عدمه، بل قد يكن لها تعلق بكيفية التنفيذ، أو بزمانه، أو مكانه. وقد تتيح الفرصة لإسماعيل لطلب مهلة، أو ليتوجه إلى ربه لطلب العفو ورفع الحكم أوتعديله…ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بعد إشارة وتنبيه من موسى عليه السلام ـ قد راجع ربه وتوسل إليه حتى جعل الخمسين صلاة خمساً…
وهكذا يمكن أن نجد أنفسنا بحاجة إلى الاجتهاد والتشاور في مسائل تتعلق بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعض أحكام الحج والصيام ومصارف الزكاة وإقامة الحدود…، مع أن هذه كلها أحكام منصوصة قطعية. ولكنها ـ وغيرها ـ قد تعتري تطبيقها ملابسات وإشكالات وموانع ومستجدات، تحتاج إلى نظر وتناظر، وموازنة وحسن تدبير.
4ـ الشورى في الأحكام الاجتهادية والخلافية
ومما يحتاج إلى نظر وتناظر وتشاور ـ وهو غير بعيد عما سبق ـ الأحكام الشرعية القائمة أصلا على الاستنباط والترجيح بين مقتضيات الأدلة ودلالاتها.
ويدخل كذلك في مجالات الشورى ـ ومن باب أولى ـ الاجتهاد في أحكام ما ليس فيه نص، مما سبيله القياس والاستحسان والاستصلاح…
فهذه كلها مجالات دينية شرعية، ومع ذلك فالشورى فيها بين أهل العلم والنظر والاجتهاد، هي سنة الصحابة والخلفاء الراشدين، بل هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.
روى ابن عبــد البر بسنده([5]) إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله: الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض منك فيه سنــة؟ قـال: اجمعوا له العالمين ـ أو قال العابدين ـ من المؤمنين، اجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد.” ([6])
وأخرج الأئمة حديث ابن عمر في سن الأذان، وفيه: “كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتلكموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود. فقال عمر: ألا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال، قم فناد بالصلاة.” ([7])
قال القاضي أبو بكر بن العربي: “وفي هذا الحديث دليل على أصل عظيم من أصول الفقه، وهو القول في الدين بالقياس والاجتهاد. ألا ترى إلى مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في الأذان، ولم ينتظر في ذلك من الله وحياً ولا طلب منه بياناً، وإنما أراد أن يأخذ فيه ما عند أصحابه من رأي يستنبطونه من أصول الشريعة وينتزعونه من أغراضها…” ([8])
وهذا القول لابن العربي، ينقض قوله في «أحكام القرآن»: “قال علماؤنا: المراد به ـ يقصد آية آل عمران ـ الاستشارة في الحرب. ولا شك في ذلك، لأن الأحكام لم يكن لهم فيها رأي بقول، وإنما هي بوحي مطلق من الله عز وجل، أو باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، على من يُجَوِّز له الاجتهاد.” ([9])
وقد نقل الحافظ ابن حجر قول الداودي “ومن زعم أنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ كان يشاورهم في الأحكام، فقد غفل غفلة عظيمة… للاتفاق على أنه لم يكن يشاروهم في فرائض الأحكام.”
قال الحافظ “وفي هذا الإطلاق نظر، فقد أخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان، من حديث علي قال: “لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) الآية، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى؟ دينار؟ قلت: شعيرة. قال: إنك زهيد. فنزلت (أأشفقتم) الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة”، ففي الحديث المشاورة في بعض الأحكام.” ([10])
“وروى ابن سعد في (الطبقات) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق عليَّ: فقال له تميم الداري: ألا أعمل لك منبراً كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه…” ([11])
وإذا كانت المشاروات النبوية للصحابة في استنباط الأحكام قليلة أو نادرة، فلأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينزل عليه الوحي بها، وهو أصله ومرجعه فيها، وإنما كان يستشير في ذلك ليسن لمن بعده ولما بعده. فالاحتياج الحقيقي للشورى في هذا المجال إنما هو بعد غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي. قال ابن العربي: “فأما الصحابة ـ بعد استئثار الله به علينا ـ فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة.”([12])
وممن ناقشوا هذه المسألة كذلك أبو بكر الجصاص الذي يرى أن الشورى تكون في كل ما ليس فيه نص، دنيويا كان أو دينيا. فقد ذكر من يرون أن الشورى التي أُمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي في أمور الدنيا خاصة، ثم قال: “وقال آخرون: كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى، وفي أمور الدنيا أيضا، مما طريقه الرأي وغالب الظن.
وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى، وكان كذلك من أمور الدين.” ([13])
ثم انتصر لهذا الرأي فقال: “ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلى الله عليه وسلم بالمشاورة، وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا…” ([14])
وفي خلافة عمر رضي الله عنه، ثار الاختلاف والنقاش بين الصحابة حول الجماع الذي تتحقق به الجنابة ويوجب الغسل منها، هل هو الذي يحصل فيه نزول المني، أو هو كل جماع التقى فيه الفرجان، ولو لم ينته إلى إنزل؟ وقد وجِد من الصحابة من يقول بهذا ومن يقول بهذا، ولكل سنده وفهمه من السنة النبوية، فكان لا بد من التشاور والنظر فيما عند كل طرف، لأجل الوصول إلى الصواب في المسألة.
وقد أورد ابن القيم خلاصة النقاشات والمشاورات التي دارت بين الصحابة في هذه المسألة، وما استقر عليه الأمر فيها، نقلا عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال: “حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، عن يزيد ابن حبيب عن معمر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان عن عبيد بن رفاعة عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليَّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر فقال عمر: أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلت، وكنت سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به: من أبي أيوب، ومن أبيّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليَّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك، إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل([15]) أن يغتسل؟ قال: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فقال عمر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: ما أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فجُمِعوا، فشاورهم فشار الناس أن لا غُسل، إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم، فمن بعدكم أشد اختلافاً، فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه. فأرسلَ إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة فقالت: «إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا.»([16])
فقد أسفرت هذه المشاورات عن أن الحكم الذي استقر عليه العمل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، هو الغسل من التقاء الختانين، سواء وقع إنزال أو لم يقع. وبذلك انعقد إجماع أو شبه إجماع في المسألة، بفضل التشاور والبحث المشترك عن الصواب وأدلته.
والحقيقة أن الذين يقصرون الشورى ـ أو يركزون فيها ـ على الشؤون السياسية والدنيوية، ويتركون شؤون الدين وأحكامه لآحاد الفقهاء والمفتين والولاة والقضاة، إنما هم في النهاية يعظمون الأولى ويهونون أمر الثانية. فالأمر الذي يسند النظر فيه إلى جماعة، يتباحثون ويتناظرون ويتشاورون قبل البت فيه، يكون ـ بدون شك ـ أكثر حرمة وأعلى منزلة، وأحظى بالسداد والرشاد، من الذي يوكل للأفراد واجتهادهم الفردي.
5ـ الشورى في القضاء
القاضي يظل يحكم في الأموال والدماء والأرواح والفروج، وغيرها من المصالح والتظلمات والنزاعات، ويحكم على الأفراد والجماعات، وربما على الدول والحكومات. وإذا كان الفقيه أو المفتي يجتهد لاستنباط الحكم من أدلته، فإن القاضي يفعل هذا، ثم يجتهد مرة أخرى في النازلة المعروضة عليه وفي أدلة كل طرف من أطرافها، وحقيقة خفاياها وملابساتها. فهو يجتهد مرتين. ولهذا فحاجته إلى المشاورة في حمكه،هي أشد وآكد من حاجة الفقيه في فتواه، وخاصة في القضايا المعقدة، والنوازل الكبيرة. فما يروى من الأحاديث والآثار في المشاروة للنوازل التي ليس فيها كتاب ولا سنة، منطبق بالضرورة وبالدرجة الأولى على النوازل التي كانت ترد على الخلفاء وغيرهم من الصحابة للفصل فيها بين المتنازعين. وهو ما ينطبق على جميع المنتصبين للحكم والقضاء بين الناس.
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عيه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، فإن لم يجد في كتاب الله نظر أكانت من النبي سنة؟ فإن علمها قضى بها، فإن لم يجد خرج فسأل الناس… وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به.” ([17]) وروي عن الشعبي قال: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر، فإنه كان يستشير.” ([18])
وعن عمر بن عبد العزيز قال: “لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي بملامة الناس.” ([19])
وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة: “كتبت إلي تسألني عن القضاء بين الناس. وإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي.” ([20])
وإذا كان بعض الفقهاء قد جعلوا المشاورة للقاضي على الندب لا على الوجوب، فهذا يمكن أن يقبل في القضايا البسيطة، الواضحة والمتكررة، أما القضايا المعقدة والملتبسة والجسيمة فلا يصح فيها إلا القول بالوجوب واللزوم، وهو قول جمهور الفقهاء. قال أبو عمر بن عبد البر: “وقد ذكر الشافعي في كتاب أدب القضاة أن القاضي لا يجوز له أن يقضي ويفتي حتى يكون عالما… مشاوراً فيما اشتبه عليه. وهذا كله مذهب مالك وسائر فقهاء المسلمين في كل مصر، يشترطون أن القاضي والمفتي لا يجوز أن يكون إلا في هذه الصفات.” ([21])
وهكذا يظهر جليا أن اشتراط صفة المشاورة في القضاة وإلزامهم بها ليس شيئا عارضا أو طارئاً، أو دخيلاً، كما يشير إلى ذلك كلام الدكتور قحطان الدوري في قوله: “بل إن الفقهاء تأثراً منهم بمبدأ الشورى وأهميته سحبوه إلى السلطة القضائية، فقالوا بوجوب أو ندب المشاورة للقاضي قبل أن يصدر حكمه.” ([22])
وهذا ناشئ عن الاعتقاد السائد، وهو أن الشورى مسألة سياسية، يعمل بها في المجال السياسي لدى السلطة السياسية، التشريعية والتنفيذية. فالشورى ـ حسب هذا الاعتقاد ـ تحيل مباشرة على “مجلس الشورى” وعلى رئيس الدولة ومن معه.
وهو ما أعمل على تصحيحه في ثنايا هذا البحث بحول الله تعالى.
6ـ الشورى في تنظيم الشورى
من القضايا التي أصبحت جلية ومسلمة، كون الإسلام أرسى مبدأ الشورى وأمر به وحث عليه، ونوه بفضله وأهميته، ثم ترك تنزيله وتنظيمه مرسلاً مفوضاً للاجتهاد والتدبير والتكييف، بما يناسب كل زمان أو مكان ، أو مجال أو ظرف. وبهذا أستطيع أن أقول إن التفاصيل والكيفيات التطبيقية للشورى هي نفسها مجال من مجالات الشورى، ومثلها كافة الشؤون التنظيمية والإدارية للدولة والمجتمع والجماعات. فهي داخلة في قوله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”. فهي كلها من أمورنا التي يجب أن نبتّ فيها وننظمها ونعدِّلَها ونلائمها شورى بيننا. وهو ما سأعود لتوضيحه لاحقاً إن شاء الله.
وإجمالاً فإن كل ما يتطرق إليه الاحتمال والاستشكال، ويدخله الاجتهاد البشري، وكل ما يثير عادة الخلاف والتنازع، وكل ما سكت عنه الوحي، وكل ما هو مشترك بين الناس من واجبات وحقوق ومصالح، ففيه مجال للشورى، وجوباً أو ندباً، حسب أهمية كل مسألة وحجم انعكاساتها على الناس، في دينهم ودنياهم وعلاقاتهم.
([4]) بدائع السلك في طبائع الملك 1/316ـ 317
([5]) بغض النظر عما في هذا السند من ضعف، فإن مضمون الحديث مشهود له بالصحة والتسليم.
([7]) صحيح البخاري، كتاب الأذان، والترمذي، أبواب الصلاة
([8]) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 1/194ـ 195
([17]) موسوعة فقه أبي بكر، ص 155