خواتيم مكملات لما تقدم من مقالات
خواتيم مكملات لما تقدم من مقالات
أ.د/ أحمد الريسوني
يسألني بعض الإخوة الكرام: إذا أدرجنا حكم الردة في باب التعزير والسياسة الشرعية، فكيف سيكون هذا الأمر؟ وكيف سيطبق؟ وما العمل مع من يرتد ردة مجردة، بدون أي مؤامرات ولا تداعيات؟ هل سيعاقب؟ وبأي عقوبة؟ أم سيُترك حرا طليقا ولا شيء عليه..؟
وأنا أقول لنفسي ولإخوتي: لا تكلفوا أنفسكم بما لم يكلفكم به الشرع، سواء بصفتكم مسلمين مكلفين، أو حتى بصفتكم علماء وباحثين. أريحوا أنفسكم مما أراحكم الله منه.
فالتعازير والتدابير السياسية العملية، إنما يقدرها المكلفون بها، في زمانها، وفي ضوء ملابساتها وتوابعها. وأصحابها – أصحابُ الإيالات – هم الولاة والقضاة، أو المؤسسات المختصة بسَنِّ القوانين.
أما أن يشتغل آحاد الفقهاء والمنظرين، بتقدير التعازير، ووضع أحكام مسبقة لها، وبصيغ تفصيلية، محددة ومؤبدة، ثم يقولون للناس: (تلك حدود الله فلا تعتدوها).. فذلك مجرد تطفل وفضول.
وظيفة أهل العلم أساسا هي بيان ثوابت الدين ومقاصده، والمرابطةُ على ثغورها، وأن يبينوا – للعوام وللحكام – أن هذه أمور لا اجتهاد فيها، إلا بما يخدمها ويرسخها ويعزز مكانتها. وأن يكونوا في طليعة من يجتهد لخدمتها ودفع الشبهات عنها. وأن يبينوا للأمراء والخبراء ما يمكنهم الاجتهاد فيه، والتصرفُ في أحكامه ومتطلباته، من القضايا المرسلة، الدينية والدنيوية، المدنية والجنائية.
أما استدامة تدابير شرعية وقتية، أو اجتهادات فقهية ظرفية، فذلك لا يخدم الدين، بل يضره ويكبله.
ولا شك أن من الأمور الدقيقة والعسيرة في فقه الدين: التمييزَ بين الثوابت والمتغيرات، أي ما يحتمل التغيير والتعديل وما لا يحتمله، والتمييزَ بين مقامات التصرفات النبوية ومقتضياتها التشريعية.
وفي سياق موضوعنا (موضوع الحدود الثابتة والتعازير المتغيرة) أقدم لكم ولأنظاركم هذا المثال وهذه المسألة: مسألة تغريب الزاني غيرِ المـحْـصَن.
ففي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمَرَ فيمن زنى ولم يـُحْصَن بجلد مائة وتغريب عام). وفي صحيح مسلم: (البكر بالبكر: جلدُ مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة والرجم).
وعقوبة الزنا من الحدود المجمع عليها بحق. ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصَّ فيها على الجلد والنفي معا، دون أي تفريق أو تمييز أو تخصيص..
ومع ذلك، فالعلماء فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أن حد الزاني البكر هو الجلد والتغريب معا، للرجل والمرأة. وهو للشافعي وأحمد.
الثاني: وهو عن مالك، أن التغريب للرجل دون المرأة. فهو مثل قول الحنفية في الردة.
الثالث: أن التغريب ليس حدا، وليس جزءًا من حد الزنا، وإنما هو تعزير يقدَّر بحسب المصلحة. وهو قول أبي حنيفة.
ولكن ما يعنيني أكثر، ودلالته أبلغ، في مسألة التغريب، هو ما جاء في (مصنف عبد الرزاق): عن ابن المسيب قال: غرَّب عمرُ ابنَ أمية بنِ خلف في الشراب إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصَّر. قال عمر رضي الله عنه: (لا أُغرِّب بعده مسلما أبدا).
فعمر رضي الله عنه قد ألغى التغريب بعموم وإطلاق. وهو في ذلك إنما يقوم بواجبه في حفظ الإسلام والصف الإسلامي، مقتفيا نهج رسول الله القائل – صلى الله عليه وسلم -: “لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”. فالمغزى واحد، وإن اختلف الموضوعان.
وولاة الأمور حين يتولون الأمور بحق، وعن أهلية وجدارة، فالأمر موكول إليهم وإلى من معهم من علماء ومستشارين ومؤسسات، وهم خير من يقدِّر الأمور الاجتهادية والظروف المتغيرة، وليس الفقهاءُ البعيدون عن الزمان والمكان والميدان.
والآن انظروا معي – حفظكم الله – إلى هذه النماذج من الفقه الفضولي المتطفل، في شأن “حد الردة” وتوابعه..
جاء في كتاب (التشريع الجنائي الإسلامي):
“ويُعتبر المرتد مهدرَ الدم في الشريعة، فإذا قتله شخص لا يعاقب باعتباره قاتلاً عمداً، سواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها؛ لأن كل جناية على المرتد هدر، ما دام باقياً على ردته”.
وزاد أيضا: “وإذا جرح مسلمًا فارتد بعد الجرح ثم مات من جرحه، فلا يسأل الجاني إلا عن الجرح، والنفسُ هدر؛ لأن الفعل أصبح قتلاً أثناء الردة، وقتل المرتد لا عقوبة عليه، ولو قتله مباشرة بعد الردة لم يكن مسئولاً عن قتله، ويرى البعض أنه لا يسأل حتى عن الجرح من باب أولى، ما دام غير مسئول عن النفس”.
ثم قال: “وقتل المرتد يعتبر واجباً في الشريعة الإسلامية على كل فرد، وليس حقاً؛ لأن عقوبة الردة من الحدود، وهي واجبة الإقامة، ولا يجوز العفو عنها ولا تأخيرها. ولا يعفي الأفرادَ من هذا الواجب أن يعهد بإقامته إلى السلطات العامة، ولا يسقط هذا الواجب عن الأفراد إلا إذا نفذته السلطات فعلاً”.
ثم أضاف: “والأصل أن قتل المرتد للسلطات العامة، فإن قتله أحد الأفراد دون إذن هذه السلطات فقد أساء وافتات عليها، فيعاقب على هذا، لا على فعل القتل في ذاته”.
وزاد أيضا: “ويشترط لعقاب قاتل المرتد على افتياته واستهانته بالسلطات العامة، أن تكون هذه السلطات قد اختصت نفسها بمعاقبة المرتد، فإذا كانت لا تعاقب على الردة، كما هو حادث اليوم في مصر وغيرها من بلاد الإسلام، فليس لها أن تعاقب قاتل المرتد باعتباره مفتاتاً عليها؛ لأنه لا يعتبر مفتاتاً إلا بتدخله فيما اختصت نفسها به من تنفيذ أحكام الشريعة، فإذا كانت قد أهملت تنفيذ حكم من الأحكام فأقامه الأفراد، فليس لها أن تؤاخذهم على إقامته بحال من الأحوال”.
إنه فقه صوريٌّ، تتولد فروعه وتتسلسل لوازمه في الذهن المجرد، بمعزل عن الواقع، وفي غفلة تامة عن مآلاته وما يفتحه من أبواب للفوضى والدماء..
ولكن المؤلم أكثر هو أن يصدر هذا كله – ونظائـرُ كثيرةٌ له – باسم الشرع، وباسم حدود الله، وباسم تطبيق الشريعة!