تأملات لقول أ.د أحمد الريسوني: النخب المثقفة صارت مُتَقَّفة، والنخب المسيسة صارت مسوسة..
بقلم سفيان أبوزيد
النخب المثقفة صارت مُتَقَّفة
والنخب المسيَّسة صارت مسوسة
قالها أ.د / أحمد الريسوني حفظه الله
أقف مع هذه الكلمات فيما ظهر لي منها:
لما نتحدث عن النخب فهي فئة من المجتمع بذلت الغالي والنفيس من وقتها ومالها وطاقتها للوصول إلى الحقيقة التي تصون المفهوم وتصحح المسار وتصلح ما فسد وتصون ما صلح، فتسير قافلة التنمية والتطور في طريقها إلى التتويج، ولا يمكن لأي فئة أن تقوم بهذا الدور القيادي إلا تلك الفئة القوية في تصوراتها وثقافتها، والأمينة على مسؤوليتها وتأثيرها..
لهذا تجد الدول التي تحترم نفسها وتريد لنفسها ولشعوبها رقيا وتطورا تهتم بهذه الفئة من حيث التكوين والإعداد، وتحرص على وجودها، ومنحها المجال للتعبير عن رأيها وتفعيل تجاربها، دون تدخل أو قمع أو إلغاء أو تدجين أو شراء أو بيع..وبالتالي تؤتي تلك النخب أكلها ودورها بالشكل المطلوب..
فإذا غابت هذه الأجواء، وسيطرت عليها غيوم القمع والاستبداد، وأقيمت أسواق نخاسة شراء العقول والأقلام، واجتثت جذور النخبوية بإفساد التعليم وإشاعة التجهيل، وتلميع النكرات، وغمر المعارف، وتحرير المفسدين، واعتقال المصلحين، عندها يصبح أمام تلك البقية الباقية من النخب، أربعة مسارات لا خامس لها:
مسار الخبزية والعيش:
حيث تضع تلك النخبة كل معالم القوة والأمانة في الباب وتنخرط في سلك التطبيل، والتصفيق والإعجاب والتسويغ، فتتحدث حيث الحديث مطلوب، وتصمت حيث الصمت مرغوب، وتحضر إذا طلب منها، وتغيب حيث الغياب حيث الغياب مفروض، لا منكر إلا ما رؤي منكرا، ولا معروف إلا ما رؤي معروفا.. هذا لتعيش وتُعَيِّش، لتقوم بدور الإيهام والتوهيم، والتغطية والتزيين..
هنا تفقد الثقة في تلك الفئة، وتوضع على مصداقيتها علامات الاستفهام، فإذا استمرت خبزيتها، حاق بها سيل من الرفض والانتقادات وعواصف من الإلغاء والاعتراضات، من طرف عموم المتابعين والمشاهدين والمتأثرين، بل وعموم السامعين، فإذا زادت خبزيتها، أخذت تلك الجموع المبادرة بالطلب بحقها بعشوائية ودون اعتبارات لأنها فقدت الثقة في كل شيء..
المسار الثاني: هو مسار التتقيف:
وهو مسار لزوم الصمت والتركن والتغيب والإغراق في الجزئي، وغير الضروري، والتغريد خارج السرب، طالبة الأمان والسلامة والحفاظ على بعض مصالحها، متخلية عن دورها الذي جهزت له وشرفت من أجله، فبعد كل تشريف تكليف، فيكون وجودها كعدمها، وصوتها كخرسها، وحركتها كسكونها، لا تسكن متحركا ولا تحرك ساكنا، قد أخذت مقعدها في مدرجات الجمهور المتفرجين، الذين سرعان ما تنتهي المباراة أو المسرحية فيلوي كل منهم إلى حال سبيله..
وهؤلاء يساهمون في استمرار أوحال الفساد وأحوال الإفساد، دون أن يكون لهم أثر ولا تأثير، بل يساهم غيابهم في ترجيح كفة تلك الحال، ويغمرون ويغمزون بهطول من النقمات والانتقادات، وتداس أسماؤهم كما داسوا مسؤولياتهم، فترمى في سلة المفقودين..
المسار الثالث: هو مسار التسويس
نعلم أن السوس حشرة ناخرة للجدور والجذوع، مدمرة للدواخل، فاسحة المجال أمام كل داخل، كالسرطان الممرض لما وصل إليه من الخلايا والأنسجة، فيبقى الجسم صامدا متظاهرا بالعافية، حتى يسقط سقوطا مدويا موجِبا..
هذا ما يحدث لبعض النخب التي حملت لواء السياسة الذي غايته وهدفه الأول هو الإصلاح وتحسين ظروف العيش وضمان ظروف العيش الكريم، والحفاظ على ثوابت المجتمع وحافظات هويته، ومجابهة كل من يمس كل ذلك في يقظة وانتباه، وعدم التطبيع مع الفساد والإفساد الذي وجدت تلك الفئة لمكافحته..
هذه الفئة قد يصيبها سوس التدجين، والإفساد، حتى يخفت صوتها، وتخف حدتها، وتقطع أجنحة قوتها، وتقطع أوصالها، وتفقد مصداقيتها، وتصير لطيفة وديعة منفذة لا اعتراض لها ولا تأثير لفعلها، ويصبح طموحها النظر لمن هو دونها لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه، وتصير غايتها إنهاء مرحلتها بغض النظر عن قيامها بدورها النخبوي وعن نتائج ذلك إيجابا أو سلبا..
المسار الرابع: هو مسار الثبات والإصرار على القيام بالواجب النخبوي، دون تراجع أو تردد، وهذه الفئة منهم من قضى نحبه في مسالك التهميش أو التشويه أو التشويش أو التشتيت، ومنهم من ينتظر دوره مادام قائما بواجبه النخبوي ولم يبدل تبديلا..
وهؤلاء هم الأمل، ومواقفهم هي القدوة، وكلماتهم هي الجذوة التي تنير الطريق، والوقود الذي يملؤ النفوس إيمانا بضرورة الاستمرار..
وهؤلاء يحتاجون إلى التأييد والتسنيد والتسديد، وأن تعتبرهم الجموع الناطق الشجاع الذي استطاع فاه أن يخرج ما في مكنون الجميع من آهات ومطالب ونداءات…وألا تقرأ كلماتهم أو تشاهد مواقفهم كأنها أفلام درامية يسدل عليها بستار باطنه من قبله العذاب، والجموع تهرول إلى الباب..
سفيان أبوزيد