هل يمكن تجاهل الدين في النموذج التنموي للأمة؟
بقلم الدكتور خالد علمي
منذ سنوات لم يتوقف الغرب، وفي مقدمته النظام الفرنسي، عن مهاجمة الثقافة الدينية عامة والدين الإسلامي بالخصوص. وقد وصلت هذه الحملات العدائية والعنصرية مؤخرا إلى مستويات متدنية من اللامنطقواللاقانون والتناقض حتى مع الشعارات الديمقراطية والحقوقية المعلنة. والمطلع على التاريخ الفرنسي -مثلا- لن يفاجأ بهذه الحملات. فقد كانت الجيوش الفرنسية من المكونات الأساسية للحملات الصليبية في زمن ما. كما كان فيما بعد الاستعمار الفرنسي من أبشع صور الحملات الاستعمارية التي عرفتها البشرية. وقد كان الحقد العنصري “المعلن حينا أو المستتر حينا آخر” على الإسلام والمسلمين هو المحفز لتلك الحملات. وبفعل الإحساس بالضعف أوالانبهار أمام جبروت الأقوى، تماهى مع المنطق الغربي بعض -وليس كل- المنتسبين للشعوب الإسلامية ممن يسمون أنفسهم بالحداثيين أو العلمانيين أو التنويربين … فألصقوا كل مظاهر التخلف في عالمنا الإسلامي بالدين. لكن ومن خلال بعض الاستقراءات للواقع يمكن استخلاص أنه لا توجد علاقة متضاربة بين الدين والتنمية وأن الظواهر السلبية التي تؤدي إلى فشل المشاريع التنموية هي ظواهر مرتبطة بسلوكيات من نتاج الواقع السياسي السائد.
فما هو موقع الدين في المشاريع التنموية للشعوب؟
1-التنمية في الديانات الآسيوية :
إذا حاولنا الاطلاع على بعض النماذج من المجتمعات الأسيوية التي يمثل سكانها نسبة كبيرة من سكان المعمور والتي حققت تطورا مبهرا في مدد زمنية قياسية: اليابان، الصين، كوريا، ماليزيا، سنغفورا، الهند، …، فسنجد أن التدين يمثل في ثقافاتها -كما هو الحال في جميع الثقافات الإنسانية- عنصرا مهما في العمق الاجتماعي. فالديانات الآسيوية تتميز بالتنوع والكثرة لكنها كذاك تتميز بخاصية استيعاب بعضها البعض كما هو الحال مثلا بالنسبة لاستيعاب الديانة الهندوسية للديانة البودية في الهند واستيعاب الديانة البودية للديانة الشنتوية في اليابان. وهذا عكس ماوقع بين اليهودية والمسيحية في الغرب بالرغم من أنهما يعتمدان نفس النصوص المرجعية المقدسة. وقد كانت حملات الإبادة التي عانى منها معتنقي الديانة اليهودية في الغرب المسيحي شاهدة على هذا التعصب الديني. ويخبرنا التاريخ كذاك أن الدين الإسلامي عندما وصل إلى تلك الدول الآسيوية لم يجد أية صعوبة في الاندماج في تلك الثقافات والتفاعل معها لدرجة اعتناقه من طرف العديد من الشعوب. هذا وتتميز الديانات الآسيوية الكبرى بخاصية “العملية” بحيث تجعل من أهدافها تنظيم وإسعاد مجتمعاتها وتستعمل الأخلاق كركيزة أساسية في ممارساتها، كما هو الحال في الديانة الكنفوشية في الصين. وقد استفادت الشعوب الآسيوية كثيرا من هذا الجانب العملي لدياناتها لتحقيق النهضة والتطور الذي وصلت إليه دولها. وتعتمد تلك الديانات على طقوس وممارسات تركز إلى حد بعيد على تطوير الذات في تماه وتفاعل إيجابي مع المحيط الطبيعي والبشري بهدف جعل الإنسان الممارس للديانة أكثر إيجابية ومردودية.
وللإشارة فقد استفادت كثيرا من هذا الجانب مدارس التنمية الذاتية التي انتشرت في الغرب وكذا بعض المدارس الحديثة لعلم النفس كالمدرسة السلوكية المعرفية.
2- التنمية في الديانة الاسلامية :
في ظل النظم اللاديمقراطية وخضوع المؤسسات الدينية بكل توجهاتها للإرادة السياسية في معظم الدول الإسلامية، يتواجه منظورين للعلاقة بين الدين والتنمية: المنظور الأول يقول إن الدين يدعو إلى النمو والارتقاء والتنمية الحقيقية للإنسان بكل أبعاده، والمنظور الثاني يرى أن الدين هو السبب في تخلف العرب والمسلمين بسبب تبنيه مواقف تمنع التغيير والتقدم والارتقاء والقبول بالوضع الراهن من باب التوكل والقناعة والرضا بالمقسوم وعدم التطلع إلى ما متع الله به غيرك.
إن التنمية في المفهوم الإسلامي لا تقف عند حد، فهي عملية مستمرة يقصد بها إعمار الأرض والتغيير المستمر نحو الأحسن والارتقاء بالحياة البشرية. فقد خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض، وهذه الخلافة هي تحمل مسؤولية الإعمار والتطوير والارتقاء وليس للعبث واللهو وتبذير الثروات التي وهبها الله لتكون عونا للبشر في عملية الإعمار هذه. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ» (سورة المؤمنون، الآية 115 من القرآن الكريم). ولم يقتصر مفهوم التنمية في الإسلام على البعد الاقتصادي، بل تعداه إلى البعد الاجتماعي والسياسي والبيئي. ففي الجانب الاجتماعي أكد القرآن في مواقع عديدة أهمية التوزيع العادل للمال على المواطنين كافة لكي لا تظهر في المجتمع فروقات واسعة ويعيش بعض الناس حياة مترفة بينما تعاني جماعات أخرى الفقر والحرمان، فهذا نقيض للتنمية ولا يمكن تبريره بالقول إن الله وزع الأرزاق بين الناس. فهناك فرق كبير بين الرزق الصادر من الكدح وبين ما يخصصه المسؤولون لفئات من الناس محاباة لهم ولقربهم. «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (سورة الحشر، الآية 7 من القرآن الكريم). أما على المستوى السياسي فإن الاستخلاف مكلف به عامة الناس وليست فئة معينة كما قال الله تعالى «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي قريب مجيب» (سورة هود، الآية 61 من القرآن الكريم). إن الجميع مخاطب في الاستخلاف ويتحملون مسؤولية اتخاذ القرار والتصرف بما يخدم الإعمار والمشاركة فيه. فقد حث الإسلام كل فرد على الاهتمام بشؤون المسلمين العامة وجعل أمرهم شورى بينهم. هذا المنهج القرآني في إدارة الشؤون العامة كفيل بأن يخلق المجتمع المتماسك المتجانس الذي يشكل سدا منيعا أمام أي تدخل خارجي أو تآمر بغيض على مصالح الأمة. وبالتالي فإن اشتراط دوام النعمة هو ليس الإيمان فقط بل التقوى في مفهومه العام، وخصوصا الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهو اتباع المنهج القرآني الذي يعتبر الإنسان أعظم المخلوقات وكرمه على سائرها، فأي مساس بأي جانب من جوانب مكونات الإنسان هو حياد عن منهج الله في التنمية وفي توزيع نتائجها بإنصاف وعدل.
3- نافذة في علم الاجتماع :
شكلت علاقة الدين بالتنمية محور نقاشات علمية وفلسفية وسوسيولوجية عبر فترات زمنية ممتدة في العالم الغربي وبحدة أقل في العالم الإسلامي. فإذا كانت المراحل الأولى من هذا النقاش قد سارت في اتجاه القطيعة مع الدين والميتافيزيقا والروحانيات، لأنّها تنتمي لعالم غير علمي وغير عقلاني، ولأنّها تصيب العقل بالعجز والفكر بالاتكالية. وهذا ما نجده خصوصا في أدبيات السوسيولوجيين الفرنسيين الأوائل (أوكست كونت وإميل دوركايم وسبنسر وغيرهم). فإنّه مع تطور الفكر السوسيولوجي، بدأت تبرز أولى الأعطاب حول هذا البراديغمالسوسيولوجي، على يد ماكس فيبر، الذي بين من خلال مؤلفه “الأخلاق البروتستانية وظهور الرأسمالية” أنّ الدين يمكن أن يلعب أدوارا كبيرة في تحقيق التنمية والنهوض الحضاري. وقد اعتبر ماكس فيبر من خلال دراسته أنّ الدين لا يمكن النظر إليه باعتباره “ميتافيزيقا” أو أفكارًا تراثية ماضوية، أو حتى قوة محافظة، كما كان يدعي ذلك الماركسيون، بل أنّه عامل من عوامل التغيير، فماكس فيبر في تتبعه للفكر الديني البروتستانتي وجد أن المذهب البروتستاني المسيحي يدفع أتباعه إلى حب العمل وإلى جمع الثروة وتحقيق النجاح الفردي، على عكس المذهب الكاثوليكي المسيحي الذي ينحو نحو قيم المحافظة والاستكانة والقبول بالأمر الواقع.
إن هذه المراجعة النقدية، في مجال الدين والتنمية، التي قام بها الفكر السوسيولوجي الغربي لمجموعة من مفاهيمه، قد تشكل منطلقا لدراسات مقارناتية في العالم لفهم أسباب تحقق التنمية في البلدان الآسيوية وموقع الدين في العملية التنموية بصفة عامة. ولهذا السبب، وبعدما كانت المراحل السابقة في التاريخ الفكري تركز على محاولة البحث على استنهاض الهمم ونفث تركة الماضي من الاستعمار وغيره، فإن المرحلة الحالية، -خصوصا في ظل الحماسة الكبيرة للدين وللتدين في العالم- تحتاج بالإضافة إلى تجديد الخطاب الديني، تجديدا لعلاقة الفكر بالدين في أفق خلق تفاعل خلاق بين الدين وبين التنمية. وذلك بإقامة قطيعة نهائية مع كل القراءات التي تركز فقط على ما هو طقوسي محض من الدين وتتغافل عن كل ما هو تنموي.
خلاصة القول :
إن التجارب الإنسانية في التعامل مع الدين هي جديرة بالتأمل والاستفادة منها في مقابل أحادية التفكير التي تفرضها علينا الهيمنة الإمبريالية الغربية. فالتبعية العمياء للغرب الرافض لأهمية الدين في العمق السوسيولوجي لشعوب العالم عامة والشعوب الإسلامية خاصة لن يكون إلا عائقا أمام اي مقاربة تنموية تهدف إلى نهضة الأمة.
إن لكلّ أمة خصائص تميزها عن غيرها، ولها تراثها الديني والمعرفي الذي يكون بمجموعهثقافتها الخاصة بها، وبناء على ذلك، فإن العملية التنموية لابد إلا أن تكون نابعة من خصائص ومميزات تلك الأمة، منسجمة مع تراثها الديني والمعرفي، ولا يجب أن تكون مستعارة أو مستوردة، وبعبارة أخرى، فإن عملية التنمية لابد أن تـتم بعيداً عن أي نوع من أنواع التبعية بحيث يصح أن نطلق عليها “تنمية مستقلة” وعليه فإن العالم الإسلامي إذا أراد أن يقوم بعملية تنموية ناجحة وأن يحقق نهضة حضارية فليس من سبيل أمامه إلا التنمية المستقلة التي يعتمد فيها على ذاته لا على الآخرين الذين لا ينتظر منهم إلا تعميقاً لتنمية التبعية ومزيداً من الاستغلال.