فقه السياسة وسياسة الفقه..
فقه السياسة وسياسة الفقه
2006/7/11
في مرات عديدة، وبعد التعبير عن بعض المواقف والآراء من مجريات الأحداث، تلقيت مثل هذا السؤال: هل هذه فتوى دينية أو رأي سياسي؟ هل هذا موقف شرعي أو موقف سياسي؟
ويأتي جوابي تلقائيا: هما معا، رأي فقهي سياسي، أو موقف سياسي شرعي.
وعلى سبيل المثال، فقد خضنا بالمغرب منذ بضع سنوات معركة طويلة وحامية حول تعديل “مدونة الأحوال الشخصية”، وفي أي اتجاه وبأي مرجعية يجب أن يكون هذا التعديل.
وكانت المعركة دائرة أساسا بين التيار الإسلامي بمرجعية فقهية اجتهادية، والتيار الحداثي العلماني بمرجعية غربية تقليدية.
وقد انتهى الأمر -كما هو معلوم- بتدخل الملك محمد السادس وتبنيه لمواد وصياغات تراعي لهؤلاء بمقدار ولهؤلاء بمقدار. وقد اعتبرنا أن “مدونة الأسرة” الجديدة، وإن كانت قد خضعت لضغوط لا نرتضيها ولا نقبل نتائجها، فإنها على الجملة لم تتجاوز -أو لم تكد تتجاوز- “الخطوط الحمراء”، مع تضمنها إيجابيات كثيرة من الوجهة الإسلامية التجديدية، فضلا عن الإيجابيات التي لم تكن محل نزاع.
ومن هنا أعلنا قبولها والترحيب بها، واكتفينا بالتعبير عن تحفظات محدودة عليها. وقد كان الآخرون يتوقعون -ويتمنون- أن نعلن رفضها والاعتراض عليها، ولهم في ذلك منافع ومآرب.. لم نمكنهم من تحقيقها.
يومها كان يسألني كثير من الناس: هل قبولكم للمدونة الجديدة موقف شرعي أو موقف سياسي؟
بعد ذلك، كانت لنا معركة أخرى مختلفة تماما في ظاهرها، ولكنها هي هي في باطنها.
فحينما قررت الدولة المغربية الشروع في تدريس اللغة الأمازيغية بصفة رسمية، ظهرت عدة مبادرات -سريعة ومكثفة- لكي تتقرر كتابتها بالحرف اللاتيني، أو على الأصح بالحرف الفرنسي.
وقمنا بمناهضة شديدة لهذا التوجه الذي يريد إبعاد الأمازيغية عن الثقافة العربية الإسلامية وإلحاقها بالثقافة الغربية، وتمسكنا بضرورة اعتماد الكتابة العربية التي كتبت بها الأمازيغية وتآخت معها منذ قرون وقرون.
وسرعان ما حسمت المسألة لصالح حل وسط، وهو اعتماد الكتابة “القديمة الجديدة” المسماة “تيفيناغ”.
وقد سكتنا عن هذا الخيار وسلمنا به، وإن كنا في الحقيقة لا نرتضيه ولا نراه صوابا، غير أنه أراحنا من خطر الفرنسة على اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية.
وهنا أيضا أثير التساؤل: هل هذا الموقف ناجم عن حكم شرعي أم هو سياسة؟
ومؤخرا، حين كتبت مقالا تضمن ما سميته “رؤية فقهية سياسية”، انهالت علي التساؤلات عن طبيعة ما كتبته، وهل هو فتوى دينية أم وجهة نظر سياسية؟ وهل هو موقف سياسي بأدوات فقهية، أم هي فتوى فقهية في ثوب سياسي؟!
“السياسة الحقة هي كل تدبير وكل عمل من شأنه أن يؤمن للناس دنياهم وآخرتهم، ويكونون معه وبه أكثر صلاحا وأقل فسادا، وأكثر عدلا وأقل ظلما، وأكثر سعادة وأقل شقاوة“
الدين
والسياسة
هناك قولة معروفة تروى عن بعض الأئمة
وهي “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق”.
ومعناها أن الخوض في التصوف ومقالاته ومقاماته بدون علم وفقه، وبدون ضوابط علمية فقهية، يوصل إلى التيه والهذيان فالزندقة، كما أن الاشتغال النظري بالفقه ومسائله وأدواته من غير تربية وتزكية والتزام، يفضي إلى التلاعب بالفقه وأحكامه، عبر التحايل والتكسب والترخص بكل وجه.. وذلك هو الفسق، أو تلك أبوابه.
ومنذ نحو عشر سنين، كنت نسجت على منوال هذه القولة عبارة قلت فيها “من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين فقد تعلمن، ومن جمع بينهما فقد تمكن”.
فالتدين المنقطع المتباعد عن السياسة وعن شؤون المجتمع وشؤون الأمة وشؤون الخلق، هو نوع من الرهبانية، والسياسة المنقطعة المجردة من الدين والتدين هي نوع من العلمانية، وإنما الدين سياسة الخلق بالحق.
وقد صنف الإمام الغزالي في “الإحياء” طبقات السياسة والسياسيين إلى أربع مراتب، أعلاها مرتبة الأنبياء وسياسة الأنبياء، ثم سياسة الأمراء، ثم سياسة العلماء، ثم سياسة الوعاظ والدعاة.
وإنما كانت سياسة الأنبياء هي المرتبة الأولى والعليا لأنها جامعة لكل المراتب الأخرى ومتضمنة لها وزائدة عليها، فضلا عن عصمتها وتمام رشدها.
فالسياسة الحقة هي كل تدبير وكل عمل من شأنه أن يؤمن للناس دنياهم وآخرتهم، ويكونون معه وبه أكثر صلاحا وأقل فسادا، وأكثر عدلا وأقل ظلما، وأكثر سعادة وأقل شقاوة.
وقد قرر علماء المقاصد أن الأنبياء إنما بعثوا لتحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
وكل فقه للدين لا يراعي هذه القاعدة الكبرى، ولا ينظر ولا يجتهد من خلالها، فهو قاصر مقصر، ومتنكب لطريق الأنبياء وحائد عن سياستهم التي تقيم الحق وتنفع الخلق.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون”، فالأنبياء هم أول السياسيين وهم قدوة السياسيين.
ومن أشهر الأنبياء الذين ساسوا بني إسرائيل، موسى وأخوه هارون عليهما الصلاة والسلام.
وقد حكى القرآن الكريم جوانب من سياستهما لبني إسرائيل، ومعاناتهما من أجل هدايتهم واستصلاحهم.
من ذلك أنه لما غاب موسى عن قومه لبضعة أسابيع واستخلف عليهم هارون، سرعان ما جنح أكثرهم إلى الشرك والانحراف ومعصية النبي الغائب عنهم والنبي الحاضر فيهم.
وكان على هارون أن يواجه الموقف ويجتهد له اجتهاده ويسوسه بسياسته، على الأقل إلى حين عودة موسى.
وعامة المفسرين على أنه كان أمام خيارين: أحدهما يمثل الصرامة المبدئية وهو أن يواجه المفسدين والمنحرفين، مستعينا بمن بقي معه من المؤمنين الصالحين، وهو خيار يمكن أن يصل إلى حد الاقتتال، مع ما في ذلك من تعميق العداوة والفرقة، وقد كاد المفسدون أن يقتلوا هارون نفسه لمجرد إنكاره عليهم!
والخيار الثاني الذي كان أمامه هو الليونة والمسايسة إلى حين عودة موسى، وفي هذا الخيار المؤقت حفظ للجماعة وحقن لدمائها.
“من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين فقد تعلمن، ومن جمع بينهما فقد تمكن”
وقد اختار هارون المسلك الثاني، وهو الاختيار الذي أغضب موسى قبل أن يشرح له هارون ملابسات هذا الاجتهاد وحكمته، كما جاء في قوله في سورة الأعراف {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني..} وقوله في سورة طه {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}.
ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يخطّئ هارون في اجتهاده وسياسته، ولا موسى في غضبه واحتجاجه عليه ولومه إياه.
والذي يبدو لي -والله أعلم- أن كلا منهما قد فعل ما كان ضروريا في حقه، فهارون حافظ على قومه وجماعته من الاقتتال وتعميق الفرقة والعداوة، بنوع من المهادنة المؤقتة لأهل الباطل “عبدة العجل”، وموسى غضب واحتج وواجه المبطلين، غيرة على الدين وذبا عن التوحيد، تصحيحا وتثبيتا للمبادئ والأصول، خاصة أنه كان الأعلى مكانة والأنفذ كلمة في قومه.
وقد شرح العلامة ابن عاشور وجهة نظر كل من موسى وهارون عليهما السلام، فقال عن موقف هارون “وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة، إذ تعارضت عنده مصلحتان: مصلحة حفظ العقيدة، ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج -وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة- فرجح الثانية. وإنما رجحها لأنه رآها أدوم، فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتي برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل، حيث غيروا عكوفهم على العجل برجوع موسى، بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة، إذا انثلمت عسر تداركها”.
وأما موقف موسى الغاضب الرافض لاجتهاد أخيه وخليفته، فراجع إلى “أن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه، لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع..” (انظر تفسيره لسورة طه).
وفي تقديري أن لا حاجة بنا إلى ما ذهب إليه الشيخ الجليل وغيره من المفاضلة والترجيح بين الموقفين لأن كلا منهما جاء في وقته وأدى وظيفته، فلولا سياسة هارون لما وجد موسى من يغضب عليه ويحتج ولا ما يستدرك، ولولا سياسة موسى لما أبقى السامري أحدا يعبد الله مع هارون.
الربانيون السياسيون
في مواضع متعددة ذكر القرآن الكريم
“الربانيين” باعتبارهم صنفا نموذجيا رفيعا في العلم والعمل. من ذلك قوله
تعالى في سورة المائدة {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين
أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار}.
“الفقه الإسلامي -فقه الأنبياء والربانيين- ليس كما يتصوره البعض، صخورا شامخة صماء، أو صحراء مهيبة جرداء، بل هو فقه المصلحة والحكمة، وفقه الرأفة والرحمة، وفقه الكياسة والسياسة”
وقال أيضا عن بني إسرائيل {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار}، وجاءت صفة “الربانيين” بصيغة الأمر في قوله سبحانه في سورة آل عمران {ولكن كونوا ربانيين}. فمن هم الربانيون؟ وبأي شيء هم ربانيون؟
لا خلاف في أن كلمة “الربانيين” مفردها “رباني”، والرباني، قيل: نسبة إلى الرب، لأنهم يتأسون بصفات الرب في تدبيره شؤون عباده. وقيل: نسبة إلى الربان.
وفي الحالتين فإن مرجع الكلمة إلى فعل ربّ يرب، الذي يعني الرعاية والإصلاح والتعهد.
ولعل شيخ المفسرين واللغويين الإمام ابن جرير الطبري هو خير من نعول عليه في بيان معنى الرباني والربانيين. قال رحمه الله عند تفسير آية آل عمران:
“قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في “الربانيين” أنهم جمع رباني، المنسوب إلى الربان الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ويقوم بها.. فالربانيون إذا هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا.
ولذلك قال مجاهد “وهم فوق الأحبار”، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم”.
وقال رحمه الله عند الآية 44 من سورة المائدة “والربانيون.. هم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم..”.
فالفقه الإسلامي -فقه الأنبياء والربانيين- ليس كما يتصوره البعض، صخورا شامخة صماء، أو صحراء مهيبة جرداء، بل هو فقه المصلحة والحكمة، وفقه الرأفة والرحمة، وفقه الكياسة والسياسة. وإذا كان بعض علمائنا في هذا العصر قد نقل عنه لعن السياسة والسياسيين، فلا شك أنه إنما قصد الساسة الشيطانيين وليس الساسة الربانيين.
المصدر: الجزيرة