العمل الإسلامي بين الصِّيَغ التنظيمية والمبادرات العفوية..
العمل الإسلامي بين الصِّيَغ التنظيمية والمبادرات العفوية
الرجوع إلى الأصل أصل
* جاء الإسلام [كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ]. فنحن هنا أمام شجرة لها من أصولها وجذورها، ثم تمتد
فروعها في السماء، ثم تؤتي ثمارها كل حين بإذن ربها.
* وهذه الشجرة وقع التعبير
عنها بصيغة أخرى، أو بمرَكّـب آخر، يضم :
ـ الإسلام، وتحته الأركان
الخمسة المعروفة.
ـ والإيمان، وتحته أركانه
المعروفة كذلك .
ـ والإحسان، وهو يمتد في
كل ما سبق: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيئ …) كما جاء في الحديث النبوي
الشريف.
* وحين نستحضر ما جاء في
حديث ( بني الإسلام على خمس … )، ندرك أن الإسلام عبارة عن بناء، يقوم على هذه
الخمس.
* والأركان الخمسة
(الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج)، هي أركان الدين عموما، ولكنها تمثل
ـ بصفة خاصة ـ أركان الفروض العينية وأمهاتها. فكل واحد من هذه الأركان يُعتبرمستوى أساسيا ومحوريا في جـنسه، ثم
يأتي بعده مستوى آخر دونه، ولكنه يكمله ويُحصِّـنه ويحوم حوله، ويشمل هذا المستوى
الثاني كثيرا من التكاليف والأحكام، بعضها واجبات، وبعضها مندوبات، وبعضها مستحبات.
مما يميز هذين المستويين
عن بعضهما، كون المستوى الأول يُطلب أداؤه دائما بصفة إلزامية، وجماعية، ومنظمة.
وقد يُعترض هنا بكون (الشهادة) لا تؤدى على هذه الصفات، فهي عمل فردي، وليس له نظام معين
ولا وقت معين. والجواب أن هذا الاعتراض إنما يصح عند الدخول الأول في الإسلام،
فلكل واحد لحظة إسلامه الخاصة به، أو عند الأذكار الفردية . لكن إلى جانب ذلك، فإن
الشهادة تؤدى أيضا بشكل جماعي منتظم، في كل من الأذان، والإقامة، والتشهد في
الصلاة . فالأذان موجه للجميع ويتجاوب معه الجميع في أوقات موحدة، والإقامة تعم في
آن واحد جميع المصلين في أي مسجد، فهي تتم لهم ونيابة عنهم . والتشهد يكون مرة أو
مرتين في كل صلاة . ويكفي أن اسمه مأخوذ من الشهادة. فالتشهد إنما هو أداء
للشهادة. ومع هذا، فإن الصفات الثلاث المذكورة، ( اللزومية والجماعية والتنظيم )،
تبقى ثابتة ومطردة بشكل أكثر وضوحا، في أداء الأركان الأربعة الأخرى. ولا يُعـفى
من ذلك سوى ذوي الأعذار والضرورات.
وغير خاف أن الأداء
الإلزامي والجماعي والمنظم، هو الذي يعطي هذه الأركانَ الخمسة رسوخها ودوامها
وفاعليتها، ويجعلها ((تؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)) . وهو
الذي يمَكِّن الدينَ والتدين من هذا التجذر والتجدد، على مر العصور وتوالي
الأعاصير.
وبعد ذلك، فإن هذه
الفرائض، بطبيعتها الإلزامية والجماعية والمنظمة، هي التي تثمر وتحرك غيرها من
الأعمال، من نوافل وتطوعات ومبادرات وزيادات. على نحو ما يشير إليه الحديث القدسي:
(وما تقرب إليّ عبدي بشيئ أحبَّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه …”
فالنوافل والتطوعات بدون
فرائض، إنما هي بناء بغير أساس وفرع بدون أصل، فهي ـ لهذا ـ لاتسمن ولا تغني من
جوع. كما جاء في الحكمة العامِّية، ومعناها : ” كم تحتاج من التسبيح طيلة
الليل إذا بِـتَّ بدون صلاة العشاء ؟! ” . فمن سبح الليل كله ليعوض صلاة
العشاء لا يكفيه ذلك.
وأصح من هذا وأصرح، ما
جاء في الحديث الصحيح :”مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ“.
وقـلْ مثل هذا فيمن
يُكثرون الصدقات والنفقات ولكنهم لا يزكون، ومن يكثرون العمرة والزيارة ولكنهم لا
يحجون، ومن يحيون ليالي الذكر ثم ينامون عن صلاة الفجر …
فالفرائض هي المعول عليها
أولا وأساسا، وهي الأحب إلى الله، والأسرع تقريبا إليه . وما ذلك إلا لكونها فرائض
لازمة، ومنتظمة دائمة، وجماعية حازمة .
ولنا أن نفكرونتصور: لو
أن هذه الفرائض جُرِّدت من صفاتها الثلاث، وخاصة لو جردت صفتي الأداء الجماعي
والأداء المنظم، كيف يكون حالها ومآلها، وكيف يصير وضع الدين والتدين …؟؟ الجواب
عندي بلا شك هو : التبعثر والتلاشي .
والشاهد الفعلي على ذلك
هو ركن الزكاة. فالمسلمون ما زالوا يعرفون أنها الركن الثالث من أركان الإسلام،
وأنها الشقيقة التوأم للصلاة. وما زالوا يسمعون ويقرؤون الآيات والأحاديث والأحكام
المتعلقة بها… ومع ذلك فإن وجودها الفعلي، وأداءها الفعلي، وأثرها الفعلي، هو ما
نعرفه ولا يخفى على أحد، فكل ذلك يوجد في حالة تبعثر وتلاش. والسبب هو أنها، في
معظم الدول الإسلامية، قد جردت من عناصر القوة والفاعلية والنفاذ. أي جردت من
الأداء الإلزامي الجماعي المنظم . فالذين يؤدونها ـ ممن تجب عليهم ـ يتناقصون، وهم
يؤدونها كيف شاؤوا ومتى شاؤوا ولمن شاؤوا. فأصبحت الزكاة صدقة تطوعية كبقية
الصدقات التطوعية . فقدت عنصر الإلزام والمحاسبة، وفقدت عنصر الأداء الجماعي في
مواسم منتظمة ومتتابعة ومتوازنة على مدار العام. وفقدت قوتها الكَمِّية الموحَّدة،
فلم تعد كتلة مالية ضخمة ومؤثرة.
إذا أمكن أن نقول اليوم:
إن أركان الصلاة والصوم والحج، تحافظ على تسعة أعشار فاعليتها وتأثيرها، فإن
الزكاة ربما فقدت من ذلك تسعة أعشار أو أكثر. والسبب هو أن الأركان الثلاثة ما
زالت تتمتع بخاصية الأداء الجماعي المنظم، بخلاف الزكاة .وسبب السبب، هو أن الأداء
الجماعي المنظم للصلاة والصوم والحج، يرجع بالدرجة الأولى إلى الجمهور نفسه، بينما
الأمر في الزكاة يرجع إلى الدولة. ودولنا اليوم ـ وهي كثيرة والحمد لله على كل حال
ـ معظمها يتخذ سياسة الامتناع أو المنع، من الأداء الجماعي المنظم للزكاة. فلذلك
أفقدوها قيمتها وأهميتها، وجعلوا منها (الركن المعاق).
بين الفرائض العينية
والفرائض الكفائية
تحدثت آنفا عن أمهات
الفرائض العينية ومدى تأثرها ـ سلبا وإيجابا ـ بطريقة الأداء وصفاته. وأما الفرائض الكفائية،
فأُمَّهاتُها ترجع إلى خدمة الدين وحفظ مصالح المسلمين . وأركانها هي: الولايات
العامة (الدولة ومؤسساتها)، والوظائف العامة (الدعوة، العلم والتعليم، الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، الوقف … ) . وهي كلها تتداخل وتتشابك فيما بينها. كما تتداخل فيها مؤسسات الدولة
ووظائفها، مع مؤسسات المجتمع ووظائفها. وهذا هو الوضع السوي والصحي.
ما يعنيني الآن هو قضية
الأداء الإلزامي الجماعي المنظم، للفرائض والوظائف الشرعية، عينية كانت أو كفائية.
وقد وضحت نبذة عن ذلك فيما يخص فروض العين. وأما فروض الكفاية، فأقل ما يقال عنها هو ما قيل عن شقيقتها ونظيرتها
العينية. بل هي في الحقيقة أشد احتياجا إلى الصفات المذكورة. غيرأن الشرع لم يضع
لها صيغا محددة للإلزام والأداء الجماعي المنظم، على غرار الفرائض العينية. وتلك
حكمة بالغة. ذلك أن فروض العين المذكورة تتعلق أساسا بالثوابت، والتغير فيها وفي
وسائلها محدود جدا. أما فروض الكفايات المذكورة فتتعلق أساسا بالمتغيرات، مضمونا
ووسيلة. والثبات فيها وفي وسائلها قليل جدا. فلذلك ناسبها أن تكون أكثر مرونة
وأوسع مجالا للاجتهاد والتدبير البشري، بما يلائم الظروف والأحوال المتغيرة.
ومع ذلك فقد نص الشرع ـ
من حيث المبادئ ـ على اعتماد الأداء الإلزامي الجماعي المنظم فيها. قال الله عز
وجل (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ).
فهنا نجد ـ أولا ـ فروض
العين وفروض الكفاية في سياق واحد وخطاب واحد . وكلها ـ ثانيا ـ تعتمد على
المسؤولية الجماعية للمؤمنين والمؤمنات، ويجب عليهم ـ ثالثا ـ أن يكون بعضهم لبعض
ظهيرا ووليا ونصيرا، وخاصة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال الإمام الطبري في
تفسير قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) قال: “يعني بذلك جل ثناؤه: ولتكن منكم أيها المؤمنون، أمة،
يقول: جماعة يدعون الناس إلى الخير، يعني إلى الإسلام وشرائعه“.
والجماعة ـ لكي تكون
جماعة ولكي تبقى جماعة ـ تحتاج إلى تنظيم وتدبير والتزام وإلزام. وكل ذلك منوط
بالتداول والتشاور، فلذلك جاءت قاعدة [ وأَمرُهُم شُورَى بَيْنَهُم ]
وفي الجهاد القتالي ضد
الأعداء قال تعالى ( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتلونَ في سبيلِهِ صَفّاً
كأنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصًٌ)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سيَّر أصحابه
إلى عمل جهادي يقول لهم : “َنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ
عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي،
وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي“.
وحتى في الجهاد التربوي،
أمر الله تعالى بالانخراط في الجماعة ولزومها. قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا). وهذا النوع من الجهاد، هو أعظم أباب الجهاد وآكدها في دين
الله. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ” وأَفْرَضُ الجهاد جهاد النفس، وجهاد
الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا. فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله
سُبُل رضاه الموصلة إلى جنته.”
وخلاصة الأمر
أن إقامة الدين وخدمته،
وإقامة أركانه وفرائضه، لاتكون ولا تنجح ولا تصمد، إلا بالأساس المتين والحصن
الحصين، وهو العمل الإلزامي الجماعي المنظم. وعلى جنبات هذا العمل وفي ثناياه تأتي
المبادرات والأعمال الصالحات، للأفراد والمجموعات. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
وليتسابق المتطوعون. وهذا المستوى وهذا النوع من الأعمال له أهميته البالغة، في
تعزيز العمل الأساس وإنجاحه . وأيضا في تحقيق مستوياتٍ وملء مساحات من التدين
والبناء والإصلاح، لا تكتمل ولا تنهض إلا بسريان روح التطوع والمبادرة، في عموم
جسم الأمة، أفرادا ومجموعات .
جدة في 25 ربيع النبوي
1428
12 أبريل 2007
أ.د / أحمد الريسوني