عمر مع العلامة الجليل المعمَّر شيخي يوسف القرضاوي رحمه الله

عمر مع العلامة الجليل المعمَّر شيخي يوسف القرضاوي رحمه الله:
د.محمد أحمين
كان شيخي العلامة القرضاوي مَعلَما من معالم دوحة الخير، ومُعلِّما من معلميها في آن واحد، ولهذا كان قبلة لطالبي المعالم والمعارف معا من أهل قطر وخارجها، ولهذا لما أقمت في قطر كان شيخي الجليل معلِِّما لي، بل هو المعلّم الأول لي في العلم الشرعي، مع أن شيخي الجليل لم يكن له تدريس للعلوم الشرعية في المساجد بعد أن تقاعد من كلية الشريعة، وذلك بسبب اختياره التأليف الذي على ينتشر عن التدريس الذي ينحصر في قلة قليلة وقلة قليلة من هؤلاء أذكياء . وهو اختيار نصره ابن الجوزي وفضله في كتاب “صيد الخاطر”.
وهذا الابتعاد عن التدريس للعلوم التقليدية بعد تقاعده الجامعي ربما هو ما يفسر اتجاه شيخنا الجليل إلى التأليف ذي المنحى الجديد المستقل، أكثر من دون الشرح والتحشية على المتون التراثية التي عادة ما تصدر ممن يتصدون لشرحها في الدروس العلمية.
ولكن محاضراته العامة بين الفينة والأخرى، وخطبه كل جمعة التي كانت بمثابة محاضرة علمية تستغرق 45 دقيقة، وكذلك دروس في التفسير لمدة نصف ساعة بين التراويح، وكذلك كتبه ومقالاته، والبرامج الإعلامية التي يشارك فيك، والزيارات الخاصة له، كل ذلك كان موردا عذبا لطلاب العلم يجدونه عند هذه القامة العلمية السامقة.
وأول ما تعرفه في الشيخ الجليل رحمه الله عندما تلتقي به هو حسن خلقه، ولهذا لا أنسى أنه في بداية علاقتي به سنة 1994م، لا أنسى أنه العالم الوحيد يومها الذي حفظ اسمي الشخصي من أول لقاء بيننا، وظل يخاطبني به دائما كلما رآني قائلا “يا شيخ محمَّد”، وقد كان رحمه الله من العظماء الذين عندما تجلس إليهم يجعلك تشعر بأنك عظيم وبأنك ذو قيمة، وكان شديد الاحترام لمن حوله وللناس، ولهذا لم يعجبه إساءة شيخ لشيخ آخر محتقرا له في وسائل الإعلام، وقال لي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال “كفى بالمرء إثما أن يحقر أخاه المسلم”، ولهذا فحسن أخلاقه ودماثة أدبه سمة بارزة فيه بشهادة الجميع، وألسنة الخلق أقلام الحق.
وكان رحمه الله له عاشقا للإسلام، فهو محبوبه الأول، وعليه يدندن، وهو دمه الذي يسري في عروقه، وهو عنده يعلو على ما عداه ولا يعلى عليه.، وعليه يصبح ويمسي، ومن أجل يصالح ويخاصم، ويقيم ويسافر.
وعشقه للإسلام جعله أيضا عاشقا للأمة، فقلبه ودعاؤه وبيته يسع جميع المسلمين ويكتب ويفتي لجميع المسلمين، لا لبلد معين، ولهذا حيثما حل حظي بحفاوة بالغة في البلاد التي كان يزورها، وقد ازداد إشعاعه ووصوله إلى الشعوب الإسلامية بعد إطلالته الأسبوعية من خلال برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة، وطبع عدد من كتبه طبعات كثيرة نظرا لكثرة الطلب عليها. ولهذا السبب لما أسس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين حضر فيه مئات العلماء وطلبة العلم من مختلف البلاد الإسلامية وبلدان العالم، حتى أن أحد العلماء الحاضرين في الجمعية التأسيسية الأولى للاتحاد في لندن استغرب كيف استطاع الشيخ القرضاوي جمع كل هؤلاء الحضور الإسلامي المتنوع.
ومن أسرار هذا القبول الكبير لشيخي العلامة القرضاوي هو احتسابه في أعماله العلمية والدعوية، وهنا لا يعرف الكثيرون أن الشيخ الجليل كان له عهد بينه وبين زوجته أن الأموال والجوائز التي يحصل عليها بسبب الدعوة والعلم والإفتاء والبرامج الإعلامية تكون لأعمال الخير والبر والوقف، وهذا احتساب وزهد عزَّ نظيرهما في النخبة العلمية في عصرنا.
أما علمه الموسوعي الذي حباه الله به، فهو عندما يكتب ويخطب ويتحدث كان رحمه الله يغرف من بحر، كيف لا وهو الألمعي الذكي ابن الأزهر من نعومة أظفاره، وتشهد على ذلك أعماله الكاملة التي بلغت مائة مجلد. ومما يشهد لذلك ما قاله لنا رحمه الله أنه أحيانا يذهب لخطبة الجمعة التي كانت تنقل على الهواء في تلفزيون قطر، ولا يكون في باله موضوع محدد، حتى أنه قد يستفتح الخطبة، وحينها يقرر الموضوع، ولكن عندما تسمع له تراه يأتي به مترتبا في عناصره ثرا في معلوماته وشواهده، وصدق من قال العلم في الراس لا في الكراس.
ومما يميز شيخنا الجليل رحمه الله عاطفته الجياشة، تلاحظها في فرحه كما في ألمه، وفي شعره وخطبه ودروسه، فكلماته لا تخرج من عقله فحسب، بل من قلبه أيضا، ففي ليلة من ليالي التراويح وهو يفسر في مسجد الشيوخ بالدوحة قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [الصف: 14]، صاح في المسجد: هل أنتم أنصار الله، فلم يكن التفاعل معه قويا، فصاح مرة أخرى حتى اهتز المسجد يهتاف: نحن أنصار الله.
وفي الختام لا بد من القول بأن العلامة القرضاوي هو كذلك حسنة من حسنات دولة قطر للإسلام والمسلمين، فهي التي آوته وفسحت له ليبلغ دين الله وينشر الوسطية والاعتدال في العالم.
اللهم إن شيخي العلامة القرضاوي كان من ورثة أنبيائك فارزقه درجة أنبيائك واجمعنا به ووالدينا ومشايخنا وأهلينا وأصحابنا وجميع المسلمين في فردوسك الأعلى يا أكرم الأكرمين.