الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب
الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب
د.عصام تليمة
10/12/2021
المتتبع لمعظم المدارس الفقهية العريقة في العالم الإسلامي -مثل الأزهر بمصر، والزيتونة في تونس، والقرويين بالمغرب، وديوبند في الهند- سيجد لها نظامًا علميًّا مُتّبعًا، يحدّد اختياراتها الفقهية والعقدية في ما تتبع. هذا المنهج أو الاختيار الفقهيّ والفكريّ والعقديّ كان أحد أهم عوامل وحدة هذه المجتمعات، لأنّ هناك أساسًا فكريًّا يجمع بينها، وكان المسلمون مِن قبلُ يتمسّكون بذلك، ويحرصون عليه في أوقات قوّتهم، فتلك سُنّة الأقوياء في كلّ زمان ومكان، وهو ما نراه في العالم الغربي من تكتّلات تُبنى على الاقتصاد أو الوحدة الجغرافية أو المصالح المشتركة.
وهو ما نراه في معظم البلاد الإسلامية، حيث يكون لها مذهب في التزامها الفقهيّ، وغالبًا من المذاهب الأربعة المشهورة، وكذلك في قضائها ومحاكمها الشرعية.
ففي بلاد كالمغرب العربيّ مثلًا، لهم اختيارات في الالتزام الدينيّ والتمذهب، وقد كتب الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني كتابًا يشرح فيه بإسهاب هذه الاختيارات سمّاه “الاختيارات المغربية في التديّن والتمذهب”، التي رأى أنها تعتمد على ما يلي:
1ـ قراءة الإمام نافع للقرآن الكريم.
2ـ مذهب الإمام مالك في الفقه.
3ـ مذهب الإمام الأشعريّ في العقيدة.
4ـ طريقة الإمام الجنيد في التصوّف.
وقد سمّاها الريسوني اختيارات، لأنها جاءت عن اختيار إراديّ واعٍ ومتبصّر، ولم تكن نتيجة إكراه أو إلزام، ولا هي جاءت بالصدفة والعفويّة، كما كان منبعها ومنطلقها من مراكز (القرار العلمي)، وهي -بالدرجة الأولى- القيروان ثمّ قرطبة ثمّ فاس ثمّ تلمسان، ففي هذه المعاقل الإسلامية المالكيّة وبإشعاعها، كانت تُصاغ الاختيارات والاجتهادات وتُعتمَد.
قراءة الإمام نافع
ثم بدأ يشرح كلّ محور من هذه المحاور الأربعة، وكيف تمّ اعتماده كاختيار منهجيّ وعلميّ في هذه البلدان، فأمّا عن قراءة الإمام نافع المُتّبعة في الغرب الإسلاميّ، فهو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أصله من أصبهان، لكنّه وُلِد وعاش بالمدينة، ودُفِن في البقيع. وقد عاش نحو مئة عام، قضى معظمها في الإمامة بالمسجد النبويّ، وإقراء القرآن بمختلف قراءاته، ومِن أكابر تلاميذه الذين أتقنوا قراءته ورُويت عنهم وخُلّدت بفضلهم، قارئان اثنان: قالون المدنيّ، وورش المصريّ، وعنهما وعن تلاميذهما أخذ أهل المغرب قراءة نافع.
فأمّا رواية قالون عن نافع، فمعقلها ليبيا، ثمّ البلدان المجاورة لها، كالشرق التونسيّ وشمال السودان وشمال تشاد. ويُقرأ بها في بعض مناطق موريتانيا والسنغال. وأمّا رواية ورش عن نافع، فيُقرأ بها في الجزائر والمغرب وموريتانيا ودول غرب أفريقيا، وفي بعض مناطق السودان وغرب تونس، وبذلك فهي أكثر الروايتين انتشارًا.
أما عن سرّ التلازم عند المغاربة بين التزامهم بمذهب مالك فقهًا وقراءة نافع تلاوة، فذلك راجع إلى أن مذهب مالك هو مذهب أهل المدينة المنوّرة، وقراءة نافع هي كذلك قراءة أهل المدينة. كما أنّ قراءة مالك كانت المُفضّلة للإمام مالك، ومالك ونافع كلاهما تلميذ للآخر وشيخ له، فمالك أخذ القرآن عن نافع، ونافع أخذ الحديث والفقه عن مالك.
أمّا عن الأسباب التي جعلت قراءة الإمام نافع قراءة رسميّة في المغرب العربي، فهي:
1ـ الرحلة إلى الحجاز.
2ـ إيثار مذهب أهل المدينة على غيرها.
3ـ العلاقة بين القراءة والمذهب..
4ـ النقل المزدوج للقراءة والمذهب معًا على أيدي الروّاد.
5ـ تشجيع السلطة الحاكمة وتدخّلها.
6ـ الرغبة في استقلال الشخصية عن المشرق.
7ـ ميل المغاربة إلى الوحدة السياسية والمذهبية والفكرية.
سرّ تمذهب المغرب بالمذهب المالكيّ:
لعلّ ما ذكرناه من علاقة مالك بنافع، يفسّر سببًا رئيسًا من أسباب اعتناق المغاربة للمذهب المالكيّ، وبخاصّة أن قراءتهم المُفضّلة والمُعتمَدة للقرآن الكريم هي قراءة نافع، أمّا عن تمذهب المغرب العربي بمذهب فقهيّ، فقد عرف المغرب مذاهب عدّة، وانتحل مذاهب شتّى، كالحنفي والأوزاعي والظاهري والإباضي وغيرها، ولم يكن مذهب مالك في المراحل الأولى من تاريخ المغرب سوى أحد تلك المذاهب الرائجة في الأقطار المغربية.
لكنْ منذ منتصف القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث، بدأت كفّة المذهب المالكيّ تثقل وترجُح، وعزا بعض الدارسين ذلك إلى أن الحكم والسياسة هما ما فرض المذهب المالكيّ، عند حكم دولة المرابطين بالمغرب الأقصى في منتصف القرن الخامس الهجريّ، وهو كلام لا يصحّ من حيث التاريخ والواقع الذي عاشه المذهب المالكيّ من محن في تلك الفترات وقبلها.
فقد عانى فقهاء المالكية المحنة والتضييق والاضطهاد السلطانيّ في مختلف المناطق المغربية، أكثر من أيّ مذهب آخر، وجرى عليهم ذلك من بعض أمراء الأندلس ودولة الأغالبة في تونس، وأسوأ ما أصابهم وطالت وطأته عليهم كان على أيدي العبيديين في كلّ شمال أفريقيا، وخاصّة في القيروان. بل حاولت دولة الموحّدين بكلّ صرامة وشدّة وبطش إبادة المذهب المالكيّ ومحو آثاره نهائيًّا، بدعوى الاقتصار على الكتاب والسُّنّة، ونبذ الرأي والاختلاف.
فقد انتشر المذهب المالكيّ بتضحيات علمائه، وبجهودهم العلمية والفقهية في نشره، أمّا مثال (المرابطين) الذين أقاموا دولة مالكية صرفة، هي أقوى من أقام المذهب المالكيّ ومكّن له في المغرب، وقد امتدّ نفوذها من السنغال غربًا إلى ليبيا شرقًا والأندلس شمالًا.
لكنّ السؤال الذي يحتاج إلى جواب صحيح ودقيق يرفع اللبس -كما يطرح الدكتور الريسوني- هل الدولة المرابطية هي التي أقامت المذهب المالكيّ ومكّنت له، أم إن المذهب المالكيّ هو الذي أقام هذه الدولة ومكّن لها؟
يقول الريسوني: وللتذكير أيضًا فإنّ (الموحّدين) الذين نجحوا في إسقاط دولة (المرابطين) المالكية، وأقاموا دولتهم على أنقاضها، هم أنفسهم عجزوا عن زحزحة المذهب المالكيّ، الذي بقي سائدًا راسخًا، رغم الحرب الشرسة التي شنّوها عليه.
مذهب الأشعريّ.. وطريقة الجنيد
ويختار المغرب في دراسة العقيدة المذهب الأشعريّ، وهو أحد المذاهب الكلامية، وعلم الكلام هو أحد العلوم التي نتجت عن إعمال العقل الإسلاميّ، نتيجة نقاشات طويلة دارت حول العقيدة، ويُمثّل المذهب الأشعريّ والماتريديّ وأهل الحديث ما أُطِلق عليه: مذهب أهل السُّنّة.
ومال الأحناف في مذهبهم الكلاميّ إلى الماتريدية، وأخذ معظم جمهور المذاهب الإسلامية الأخرى بالمذهب الأشعريّ، وهناك تفاصيل حول هذه المذاهب العقدية وظروف نشأتها، لا يتسع المقام لذكرها.
أمّا طريقة الجنيد، فهي طريقته في التصوّف، والتصوّف مصطلح ذو إشكالات واختلافات، وهو أقسام منه الفلسفيّ وهو ما كانت حوله الإشكالات، ومنه التصوّف السُّنّيّ، وهو ما تُمثّله طريقة الجنيد. والجنيد نفسه يتفق عليه الكثيرون من علماء الأمّة، حتّى من اشتُهروا بنقد التصوّف كابن تيمية، الذي كان يُثني عليه، وعندما يتحدّث عن صوفيّ معتدل ملتزم بالكتاب والسُّنّة، يقول عنه: جنيد زمانه..
وما يجري في المغرب العربيّ من اختيارات في التديّن والتمذهب، يحدث في بلدان أخرى، سواء في اعتماد النظام العامّ في القضاء، أو التمذهب الفقهيّ العامّ. ففي الخليج العربيّ يغلب المذهبان الحنبليّ والشافعيّ، وفي مصر يغلب على الأحوال الشخصية والقضاء المذهب الحنفيّ، وفي تركيا ومعظم البلاد الأعجمية -مثل الهند وباكستان وأفغانستان- يُعتمَد المذهب الحنفيّ. وكان الجميع يتقبّل ذلك، رغم قناعات بعضهم الفقهية المخالِفة، ولم يكن ذلك من باب إغلاق باب التمذهب أو الفكر على هذه المذاهب دون غيرها، بل مع هذه المذاهب وُجِد مَن اعتنق غيرها، لكن ظلّ الإطار العامّ لكل قطر له اختياراته.
الأمر الآخر المهمّ في هذه الاختيارات -في المغرب مثلًا أو غيره- سنجد أنها بُنيت على إطار علميّ، وليس على تعصّب قُطْري، فالمغرب اعتمد قراءة ورش المصريّ، وهو من مصر، ومالك وهو من المدينة، والأشعري والجنيد وهما من العراق. بينما اعتمدت مصر قراءة حفص عن عاصم بن أبي النجود الكوفيّ، وانتشرت فيها مذاهب مثل مالك وأبي حنيفة والشافعيّ، ولم تختر مصر قراءة ورش وهو مصريّ، ولا مذهب الليث وهو مصريّ، وهكذا كلّ بلد اختار ما يتوافق مع قناعاته واختيارات دون تعصّب للقومية والبلد.
ثالثًا: يُلاحَظ في هذه الاختيارات أنها جمعت بين ما يتعلّق بالمذهب الفكريّ المرتبط بالعقل وإعماله، وما يختصّ بالفقه والتشريع وهو المذهب الفقهيّ، وما يتعلّق بالقلب وهو التصوّف.. وبذلك، يكون الاختيار قد جمع بين ما يحوط تكوين المسلم بما له علاقة بدينه من جميع النواحي.
المصدر : الجزيرة مباشر