الحلقة الأخيرة من النظرات الجديدة في نظام الإرث للعلامة عناية الله سبحاني
د.عناية الله سبحاني
حكم ابن الابن مع الأعمام
وهنا يأتي سؤال: إن مات رجل- مثلا- وترك من خلفه خمسة بنين، وبنتين، وولد ابن مات قبله، فماحكم ولد الابن؟ هل يكون من الوارثين، أم يكون من المحجوبين؟
الرأي السائد المشهور بين الفقهاء والمفسرين، أن ابن الابن يكون محجوبا بالأبناء، ولا يرث معهم. ولعل الذي ذهب بالناس إلى هذا الرأي، هو ما رواه البخاري من قول زيد بن ثابت، قال: “وَلاَ يَرِثُ وَلَدُ الاِبْنِ مَعَ الاِبْنِ” (1)
فإن كان قول زيد هو حجة القائلين بحجب ابن الابن، بالابن أو بالأبناء، فقول زيد لا يفيد ذلك بهذا الإطلاق. وإنما الذي يفيده قول زيد أن ولد الابن لا يرث مع أبيه، فإنه من القواعد المعلومة في اللغة، أن المعرفة إذا أعيدت، كانت الأولى عين الثانية. فالابن الثاني هو الابن الأول، وهو أبو الولد. وهذا لا إشكال فيه، فإن الأب إذا ورثه، فكأنما ورثه الابن. وليس من حق الولد أن يرث جده مرتين، مرة بواسطة الأب، ومرة أخرى مباشرة بدون واسطة.
وإنما الإشكال فيما إذا كان أبوه قد توفي قبل جده، ولعل جده هو الذي كان يعوله، ويعنى بأمره في حياته، ويهمه أمره بعد وفاته، ولعل أباه هو الذي كان أحب أبنائه إليه، فهل يرث هذا اليتيم المفجوع المبتلى، جدّه مع أعمامه، ويأخذ نصيب أبيه، أم يذوق الأمرّين: مرارة اليتم، ومرارة الحرمان؟!
حينما نرجع إلى آية الميراث، ونمعن النظر في سياقها، ومناسبة نزولها، نجد أن هذا اليتيم، وإخوته، وأخواته أولى الناس بميراث جدّهم، وليس هناك أي مانع من توريثهم مع أعمامهم.
حكم ابن البنت مع الأخوال
ومثل ذلك يقال في ابن البنت، أو بنت البنت، فإن البنت إذا ماتت، وتركت من خلفها ذرية ضعافا، فالجدّ هو الذي يعولهم، ويُعنى بأمرهم عادة، فإذا مات هذا الجد، فهل يرثه هؤلاء الضعاف مع من يرثه، ويأخذون نصيب أمهم المتوفاة، أم يحرمون ويحجبون؟
الرأي السائد المعروف أنهم يُحرمون ويُحجبون. وما الذي يقضي عليهم بالحجب والحرمان؟ لا شيئ غير أنهم من أولي الأرحام، ومن هم أولو الأرحام؟
قال ابن الأثير: ذوالرحم هم الأقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب، ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء. (2)
وهل تكون غضاضة على الأقارب، إذا كانوا من جهة النساء؟ حتى يحجبوا ويحرموا الميراث، والله سبحانه وتعالى يقول:
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
فالله سبحانه وتعالى لم يفرق بين الرجال والنساء في الميراث، وجعل لهن نصيبا، مثل ما جعل للرجال نصيبا، سواء قلّ المال أوكثر، وجعل للجميع نصيبا مفروضا، فليس لأحد أن يقدم فيه، أو يؤخر، أوينقص شيئا أو يزيد.
ثم الآيات التي جاءت في تفصيل المواريث، نرى فيها الاهتمام بأمر النساء أكثر وأشدّ. انظر معي تلك الآيات:
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
فالذكر، وإن جعل له مثل حظ الأنثيين، ولكن السياق يتنفس في ذكر أنصبة البنات، و يتنفس في ذكر أنصبة الأخوات، ويفصل حقوقهن تفصيلا، ويوجد في أمر النساء اهتمام أكثر وأشدّ مما يوجد في أمر الرجال، حتى لا تطغى أنصبة الرجال على أنصبة النساء.
تفضيل وتقديم بدون مبرر!
فمن أين جاء الفرق بين الأقارب من جهة الرجال، والأقارب من جهة النساء حتى جعل الأقارب من جهة النساء ذوي الأرحام، وجعل الأقارب من جهة الرجال، ذوي الفروض، ثم قدّم ذووالفروض، وأخّر ذووالأرحام؟
يقول الشيخ أسلم الجيراجي الهندي:
” ليت شعري بأي برهان يجعل فقهاؤنا العم، وابنه، وابن الأخ عصبة، ويورثونهم، ولايورثون العمة، وبنت العم، وبنت الأخ، ويعدّونهن ذوات الأرحام. وهكذا أم الأم عندهم ذات فرض، ترث من أولاد البنات، وأبو الأم من ذوي الأرحام، لايرث إلا إذا لم يكن هناك أحد من ذوي الفروض والعصبات، فيفرقون بين المرء وزوجه مع وحدة القرابة! (3)
ولا يبعد أن يكون هذا التقسيم نظرا إلى الرواية التي رواها ابن جرير وغيره من رجال الحديث والتفسير، وهي كما يلي:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:…وفيه: “قال: وذكر لنا أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إنّ الآية التي أنزل الله في أول”سورة النساء” في شأن الفرائض، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها “سورة النساء”، أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها “سورة الأنفال”، أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرَّت الرحِم من العَصَبة. (4)
ولكن النظرة الفاحصة في سند هذه الرواية ومتنها تجعلنا نشك في صحتها.
أما سند الرواية، فمن رواتها يزيد، وهو يزيد بن زريع، قال عنه الذهبي:
يزيد بن زريع. شيخ رملي. لا يكاد يعرف. يروى عن عطاء الخراساني.
ضعفه ابن معين، والدارقطني. (5)
ويزيد بن زريع روى عن سعيد، وهو سعيد بن أبي عروبة، وقيل فيه ما يلي:
قال أبو نعيم: كتبت عنه حديثين، ثم اختلط، فقمت وتركته.
وقال بندار: حدثنا عبد الاعلى السامى – وكان قدريا – قال: حدثنا سعيد – وكان قدريا – عن قتادة – وكان قدريا.
عن مسلم بن إبراهيم قال: كتبت عن سعيد التصانيف فخاصمني أبى فسجرت التنور وطرحتها فيه. وقال أبو عمر الحوضى: دخلنا على سعيد بن أبى عروبة أريد أن أسمع منه، فسمعت منه كلاما ما سمعته.
وقال أحمد بن حنبل: كان قتادة، وهشام، وسعيد يقولون بالقدر، ويكتمونه. وقال أحمد: لم يسمع سعيد من الحكم، ولا من حماد، ولا من عمرو بن دينار، ولا من هشام بن عروة، ولا من زيد بن أسلم، ولا من إسماعيل بن أبى خالد، ولا من عبيد الله بن عمر، ولا من أبى بشر، ولا من أبى الزناد.وقد حدث عنهم كلهم – يعنى يقول: عن، ويدلس. (6)
وقال أبو بكر البزار: يحدث عن جماعة لم يسمع منهم. وقال الازدي: اختلط اختلاطا قبيحا. (7)
والذي روى عنه سعيد، هو قتادة، ولقد أسلفنا عنه قول الشعبي: قتادة حاطب ليل!
تلك حال السند، وأما المتن، فهو أيضا لا يخلو من آفات، منها: أن لفظ أولي الأرحام في الآية ما جاء في مقابل ذوي الفرائض، كما تقول الرواية، وإنما هو في معنى ذوي القرابات عموما. قال الزمخشري:
(وَ أُوْلُو الارحام) أولو القرابات أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة. (8)
وقال ابن كثير:
وليس المراد بقوله: {وَأُوْلُوا الأرْحَامِ} خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة، بل يُدْلون بوارث، كالخالة، والخال، والعمة، وأولاد البنات، وأولاد الأخوات، ونحوهم، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات. (9)
ثم ليس فقط أن الآية الأولى في شأن الفرائض، بل الآية الثانية، بالإضافة إلى الآية الأخيرة، و هي آية الصيف، أيضا في شأن الفرائض. وإذاً فأمارات الوضع بادية على الرواية، ولا يمكن أبدا أن يكون ذلك من كلام سيدنا أبي بكر!
وبالجملة، فهذه التقسيمات الشائعة في علم الميراث، لا بد أن يعاد فيها النظر، فليس هناك أساس من علم، أو أثارة من علم، للفرق بين الذ كور والإناث في شأن الميراث.
وكلما توسع نطاق الميراث، وكثر عدد الوارثين، كان ذلك أقرب إلى طبيعة القرآن، فربنا سبحانه وتعالى لا يحب أن يكون المال دُولة بين الأغنياء، ولا يحب تكدّسه في أيد قليلة من الأقربين، وأما إذا كان هناك في الطابور يتامى، مثل ابن الابن، وبنت الابن مع الأعمام، أو مثل بنت البنت، أو ابن البنت مع الأخوال، فحجبهم من الميراث، ليس من القرآن في شيئ. وفيه حيف شديد لا يقره الإسلام!
لطيفة من لطائف النظم
وقبل أن نقفل حديثنا عن آيات الميراث، نحب أن ننبه إلى لطيفة من لطائف النظم في تلك الآيات. وهي أن الله سبحانه وتعالى ذكر أنصبة البنات، فقال:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وذكر نصيب الأبوين فقال:
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
وذكر نصيب الزوجين، فقال:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
وذكر أنصبة الأخت والأخوات، فقال:
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَك.َ
الشيئ الذي نلاحظه في تلك الآيات أن الله سبحانه وتعالى قال في سياق البنات: (فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) مرة واحدة.
وقال في سياق الأبوين: (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) مرة واحدة.
وقال في سياق الزوج: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) ثم قال مرة ثانية:
(فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ)
وقال في سياق الزوجة: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) ثم قال مرة ثانية:
(فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّاتَرَكْتُمْ)
وقال في سياق الأخت:(فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)
وقال في سياق الأخوات: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَك)
خلاصة الكلام: أن القرآن يركز في أمر الزوج والزوجة على أن يكون نصيبهما دائما مما ترك الميت، من غير أن يطرأ عليه نقص، لابد أن يكون نصيبهما كاملا غير منقوص.
فإذاكان للزوج النصف، فهذا النصف يكون نصف ما ترك الميت، وإذا كان له الربع، فهذا الربع يكون ربع ما ترك الميت.
وكذلك الزوجة، إذاكان لها الربع، فهذا الربع يكون ربع ما ترك الميت، وإذا كان لها الثمن، فهذا الثمن يكون ثمن ما ترك الميت.
وأما غير الزوج والزوجة فلم يذكر لهم لفظ (ما ترك) إلا مرة واحدة،كما رأينا في الآيات. وفيه إشارة إلى أن أنصبة الآخرين أيضا تكون مما ترك الميت، ولكن إذا حدثت أية مشكلة في توزيع السهام، فلا مانع من أن يكون توزيع السهام مما تبقى من المال، لا مما ترك الميت.
وهذا الذي فعله سيدنا عمر فيما إذا ماتت المرأة عن زوج، وأب، وأم: فجعل للزوج نصف ما ترك الميت، وللأم ثلث ما تبقى بعد نصيب الزوج، وجعل للأب الباقي أى ثلثي ما تبقى. (10)
فإن الأم لو أخذت ثلث ما ترك الميت، نقص نصيب الأب من نصيبها، فإن الذي يتبقى للأب يكون أقل من الثلث، وهذا خلاف الأصل.
وهكذا يكون الأمر إذا اجتمع الصنفان من الإخوة: إخوة لأب وأم، أو إخوة لأب مع الإخوة لأم، حيث يكون التوزيع فيهم هكذا، أى: تدفع إلى ذوي الفرائض فرائضهم، ثم الباقي يوزع بين الإخوة، فإن كان أخ لأم، أخذ سدس ما تبقى، وإن كانا اثنين أو فوق الاثنين، أخذوا ثلث ما تبقى، والباقي يكون للإخوة الآخرين.
لطيفة أخرى من لطائف النظم
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أمر الوصية أربع مرات، مرة في الآية الأولى من آيتي الميراث، حيث قال تعالى:
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
وثلاث مرات في الآية الأخرى، حيث قال:
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍيُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
(مِنْ بعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
هذا الوضع إن دل على شيئ، فإنما يدل على وجوب الوصية، وأهميتها في دين الله، بل جاء الوجوب في سورة البقرة، ولقد أسلفنا الحديث عنها، وأما هذه السورة، ففيها ترغيب، وتحريض، وتشجيع وتأكيد للقيام بواجب الوصية.
وإن تعجب فعجب قول الذين قالوا: إن آية المواريث نسخت آية الوصية!
قال الشوكاني: “وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟…وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) (11)
وقال الماوردي:
“واختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية، فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجباً قبل فرض المواريث لئلا يضع الرجل ماله في البُعَدَاء طلباً للسمعة والرياء، فلما نزلت آية المواريث في تعيين المستحقين، وتقدير ما يستحقون، نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنّة من جوازها للورثة.” (12)
فإن كانت آية المواريث ناسخة لآية الوصية، فما بالها تؤكد تنفيذ الوصية، لا مرة واحدة، بل أربع مرات؟ وفي آية واحدة ثلاث مرات!
وسبق أن فصلنا القول، وبينا المناسبة بين آية الوصية وآية المواريث، بمافيه كفاية بإذن الله.
والآن نزيد فنقول:
أمر الله المؤمنين في آية الوصية في سورةالبقرة، أن يوصوا للوالدين والأقربين، ولكن أمر الوصية للأقربين، مع مراعاة القسط، وتجنب الجنف كان جدّ عسير، فكان من رحمة الله سبحانه، أن أنزل آية المواريث حتى يعلّم المؤمنين، كيف يوصوا، وسماها وصية من الله، فبعد نزول آية المواريث وجب على المؤمنين أن يوصوا حسب وصية الله، حتى يؤدوا الحقوق إلى أهلها، ويضعوا الموازين القسط، كما أراد الله.
ومما يعرف بطبيعة الحال، أن الله سبحانه حينما وصى للوالدين والأقربين، لم تعد حاجة أن يوصى لأحد منهم مرة أخرى، ومن هنا قال النبي عليه السلام:
“إن الله عز وجل قد أعطى كل ذى حق حقه، ألا لا وصية لوارث”. (13)
ولم يكن ذلك نسخا لأي حكم، وإنما كان بيانا لما يفهم ويستنبط من النص، إذاجمعنا الآيتين.
وبعد ما تولى الله أمر الوصية للوالدين والأقربين، أفسح المجال أمام المؤمنين، حتى يوصوا لمن شاؤوا من إخوانهم المؤمنين، سواء من أولي الأرحام أو من غير أولي الأرحام، وكان المؤمنون يتمنون ذلك، وكانوا يحبون أن يخصصوا جزءا من أموالهم لإخوانهم الذين كانت تربطهم بهم آصرة الإيمان، دون أواصر القرابة والأرحام. أو فوق أواصر القرابة والأرحام، وليس من شأن المؤمن أن تكون أمواله حكرا على أولي الأرحام، على أساس الأرحام، بل لا بد أن يكون للصالحين المهاجرين المجاهدين فيها نصيب!
وعسى أن تكون إليه الإشارة في قوله تعالى في سورة الأحزاب:
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
فالمعروف هاهنا: يشمل، فيما يشمل، الوصية لهؤلاء المؤمنين المهاجرين.
وكان من فضل الله سبحانه وتعالى، أنه فصل وبيّن سهام الوالدين والأقربين، التي كانت مظنة الجنف والإثم، وترك للمرء أن يوصي فيما لا يخشى فيه الجنف والإثم، وإنما هو برّ وإحسان خالص.
ثم قيل في ختام تلك الآيات، آيات الوصية والمواريث:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
هذا الختام يدل على أن الأمر جدّ، والغفلة عن تطبيق تلك الأحكام كما أرادها الله، ذنب لا يغفر، والذي يتهاون بها، ويستبدل بها غيرها، يعرّض نفسه للعذاب المهين، ويعرض نفسه لنيران الجحيم!
فكان لزاما علينا، أن نتدبر تلك الآيات، كلمةً كلمةً، وندرسها دراسة دقيقة واعية، ثم نطبقها تطبيقا كاملا صارما، ولا ننصرف عنها لأجل روايات، تصرفنا عنها، نسأل الله أن يسدد خطانا، ويقوّم أمرنا، ويجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه.
هذا ما فتح علينا ربنا في تأويل تلك الآيات، فلننظر كيف جمع، سبحانه، بكل دقة و إيجاز، عيون مسائل الوصية والمواريث في ثلاث آيات، وكيف وضع في نظم الآيات، ما تحل به المشاكل، وتحل به المعضلات، التي يواجهها الناس في قسمة الميراث. فلك الحمد يارب على ما فتحت علينا من كنوز تلك الآيات. وكم نحصي ثناء عليك، فأنت كما أثنيت على نفسك.
هذا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المراجع:
- صحيح البخاري،(من موسوعة الحديث الشريف، الكتب الستة، باب ميراث ابن الابن إذالم يكن ابن، ص: 563، دارالسلام للنشروالتوزيع، المملكة العربية السعودية.
- تاج العروس: رحم
- الوراثة في الإسلام، الأستاذ أسلم الجيراجي:33، مكتبة الجامعة الملية الإسلامية بالهند
- تفسيرالطبري:6/ 49-50
- ميزان الاعتدال:4/422
- ميزان الاعتدال:2/152
- تهذيب التهذيب:4/64
- تفسيرالكشاف: 2/240
- تفسيرابن كثير: 2/436، دارالإشاعة ديوبند الهند، الطبعة الأولى 1423- 2002
- انظر:المغني لابن قدامة :6/279، المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني
- فتح القدير:1/201
- النكت والعيون: 1/232، دارالكتب العلمية بيروت لبنان
- السنن الكبرى للبيهقي:6/244