من تساؤلات القارئ المتدبر: يسارعون فيهم.. / سفيان أبوزيد
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن ياتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين..
تاملا للسياق الذي ورد فيه هذا النهي (لا تتخذوا) نلاحظ هنا عموما وشمولا لمقتضى هذا النهي، فجاء بعد ذكر لحال المسارعين في الكفر وهو نوع من الولاية العقدية والفكرية، وكونهم (سماعون) وهو لون من الولاية الإعلامية والثقافية، وكونهم (أكالون للسحت) وهي إشارة إلى الولاية الاقتصادية والمعاشية، ثم ذكر إعراض أهل الكتاب عن الحكم بما أنزل الله والذي ترتب عنه كفر وظلم وفسق، وهو إشارة إلى الولاية السياسية والاجتماعية، وتخصيص للولاية القضائية في قوله تعالى ( السن بالسن …)
إذن فهؤلاء الذين نهي عن ولايتهم قد فشلوا في هذه المحطات، وانحرفوا عن سبيل الرشاد والعدل والتقوى فيها، ولا زالوا منحرفين، لأنهم جعلوا المصلحة، والتقدير البشري سفينة لهم واساسا لاعتباراتهم، بعيدا عن إرشادات وتوجيهات الوحي الذي يعلم السر وأخفى، فقد تظهر مصالح توجهاتهم، ونظرياتهم ولكنها سرعان ما تتخطفها المصالح الشخصية الخاصة ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) وسرعان ما ينهدُّ ذلك الصرح الحضاري الجميل الأخاذ المبدع لأنه بني على شفا جرف هار..
إذن فالمقصود من الولاية هنا، هو الانسياق الحضاري مع تعطيل الإمكانات، ومكامن القوى التي لازالت خاما عندنا، ولا زالت محفوظة محصنة، متمثلة في الوحي والإرشاد الإلهي، بعد أن اضاعوا ما استحفظوا عليه وحرفوه وبدلوه وأهملوه حينا وفقا لنظرهم الضيق ومصالحهم الدنيوية المادية القاصرة، فتسمع في العالم الذي يقودونه (الاتحاد والمتحدة) وهم اول السعاة للتفرقة، الخادمة لاتحادهم. وتسمع حقوق الإنسان وهم أول المنتهكين لحقوق انسان غير إنسانهم القابع في حياضهم، عالم تطغى فيه المصلحة على الحق، والسياسة على العدل، والمادية على المشاعر، والجشع على الرحمة والإيثار والفضل، عالم ديست فيه القيم الحقيقية المتجردة ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا)، ولا قيم ولا تجرد حقيقيا إلا بميزان الوحي الحق، وليس المستخدم، لتكريس ذلك العلم الظاهر..
ولهذا جاء الأمر موجها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا النداء، بالحكم بما انزل الله، لأنه هو الكفيل بضبط لهط الانسان خلف مصالحه، وترسيخ القيم الحقيقية، وتفعيل التجرد الحقيقي، والصراط الواسع لاستباق الخير بين أفراد هذا العالم الفسيح، مع التخفيف من منسوب الظلم والاعتداء وتغول المصالح، ولي اعناق النصوص، الذي يقود إلى حكم الجاهلية، التي هي نسبة أو مصدر صناعي من الجاهل، الذي يجهل حقائق الأمور وموازينها، فلا يدرك حقائق المصالح والمفاسد، وإن أدركها، فلا يدرك مقاييسها وموازينها، وإن أدركها فلا يستطيع تنزيلها وتفعيلها، لأن ذلك يحتاج إلى رسوخ قيم وتجرد، وحيُ الله هو الكفيل بالقيام بذلك على أتم وجه وأحسنه واصلحه ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) فما عليك إلا اليقين، وهو ما فقده واضاعه اولئك وهؤلاء المسارعون.
ثم جاء النداء بعد هذا البيان والبرهان، هذا نداء لأهل الإيمان، فالنداء يدل على القصد، قصد المنادى وقصد الشأن الذي من أجله نودي عليه، ويدل على التنبيه وطلب الانتباه، و(الذين آمنوا) أي الذين تحققوا بالإيمان أو يسعون إلى تحقيقه، فالفعل عموما، يدل على الحركية فهو إيمان فعلي فيه بحث وتنقيب واجتهاد، والفعل الماضي يدل على التحقق..
(لا تتخذوا) لم يقل (لا تجعلوا) لأن الاتخاذ فيه زيادة معنى الاختصاص والخصوصية كما اتخذ الله إبراهيم خليلا، فهو سبحانه لم يخالله فقط، وإنما اختصه بخلة خاصة، فكذلك الأمر هنا، وفيه معنى الإمعان في الجعل، والإخلاص فيه، لذلك لم يقل ( لا توالوا ) فلا تتخذوا آكد تعبيرا من لا توالوا وأولياء جاء نكرة في سياق نهي للدلالة على عموم الولاية، وجاء جمعا للدلالة على شمول النهي لصنوف الولاية، فهو نهي عام لكل معاني الولاية، شامل لمجالات عديدة من الولاية..
ستقول لي: كيف يأتي النهي عن ولايتهم بهذا الشكل العام الشامل، وقد ورد بأن الحكمة ضالة المومن، وورد ما يدعو إلى التعايش معهم والمتاجرة معهم والزواج من إناثهم؟
الجواب: الولاية في الأصل تدل على القرب، وفيها معنى القيام بالشؤون، والوكالة والكفالة والرعاية والإصلاح والإدارة، فهذا القرب وتلك المعاني التابعة له، قد يكون ماديا حسيا وقد يكون معنويا، وهو قرب مطلق، فهل نهينا عن الاقتراب من اليهود والنصارى؟ الجواب: لا..
إذن فهذا نهي عن قرب وولاية خاصة، تنبعث منها وتتولد عنها ولايات أخرى، هذه الولاية الخاصة هي ما سبق أن اشارت إليه الآيات السابقة لهذا النهي، ومفادها أن اليهود والنصارى ليسوا أهلا لقيادة العالم، وذلك لأنهم استدبروا روح الوحي وإرشاداته الذي فيه هدى ونور، والذي يدل على الحقيقة ويضبط الميزان والقدر المناسب في جميع المجالات، ويرسخ القيمة ويفعل التجرد.. هذه المعاني لا يمكن ان تجدها في منهج أو نظام أو فلسفة غير وحي الله تعالى، فهم استدبروا كل ذلك وتبعوا أهواءهم ومصالحهم الخاصة وحرفوا نصوص الوحي ولووا أعناقها، خدمة لمصالحهم، وداسوا على القيم وابتعدوا على معاني التجرد، فبنوا صرحا ظاهره الجمال وباطنه الضلال، لذلك فهم غير مؤهلين للقيادة ولا للولاية المستمرة الخالدة..
وما ذكر في التساؤل، الوان من الولاية الفردية، والمنهي عنه هنا، هو الولاية النظامية المنهجية التي ترسم الطريق وتبني الحضارة..فلا مانع من التعامل والاستفادة ولكن دون تعطيل للإمكانات والوحي الإلهي، ودون تطبيع وذوبان، وسير خلفهم، دون تفكير او تحليل أو اعتراض..
فهذه الآية استنهاض لهمم الذين آمنوا، وتشجيع لهم للسعي في دروب الفتح والبناء الحضاري والصعود في سلم الإبداع والتطور المبني على ترسيخ القيم والعمل بالوحي والتجرد، وهذا ما فقده وضيعه اليهود والنصارى…ولهذا نهي أهل الإيمان عن ولايتهم…
ستقول لي: وهل حال العالم سيكون أفضل حالالو قدناه الآن بدلهم؟
الجواب: لا.. لأن انحطاطنا هو مظهر من مظاهر العالم الذي قادوه ويقودونه، والذي حذر القرآن منذ زمن من الانجرار خلف قيادتهم، وإتاحة الفرصة لهم للقيام بتلك القيادة والمسؤولية…
لا شك أن انحطاطنا بما كسبت أيدينا ونحن من اخترناه وسرنا فيه وقبلناه، ولكن يبقى انحطاطا في عهد قيادتهم وولايتهم..
فإذا فُعّل الإيمان وفُعّل الوحي وأخذ بأسباب الرقي والتحضر المتوازن..كان لنا شأن آخر.. وكنا مسؤولين عن ولاية العالم وقيادته..
وهم مع تشابه حالهم وما وقعوا فيه ومنطلقاتهم، ف(بعضهم اولياء بعض) وهذا إخبار مبطن بتحذير، إخبار في كون التوالي بينهم منطقي للتشابه السالف الذكر، وتحذير، من أنهم وإن أظهروا رغبة في ذلك، فلا تصدقوهم واحذروهم، وتعاملوا معهم بندية وبحذر من الانزلاق في غياهب تلك الولاية التي هي مجرد سراب وتعطيل وتعطل، فولايتهم الحقيقية هي بينهم ( بعضهم اولياء بعض )
ومن اغتر بتلك الولاية وسار في طريقها وفتح الباب لها، صار منهم مسارعا في الكفر سماعا للكذب أكالا للسحت، غير أمين على الوحي، بعيدا عن شرعة الله وحكمه وعدله وهديه ونوره، معطلا لمكامن قوته وللوحي الذي لازال محفوظا غضا طريا، بعيد عن كل تحريف او انحراف لفظي، فالحقيقة بين أيديكم، فكيف تستدبرونها وتلهثون خلف ولايتهم، إذن فمن يتولهم منكم فإنه منهم..ولهذا أكثر القرآن من ذكر أحوال اليهود والنصارى، ليقول لنا بأنهم لم يكونوا اهلا للولاية والقيادة، والمبادرة بأيديكم ولا زال الأمل معقودا فيكم، فلا تتماطلوا او تتجاهلوا أو تتغافلوا، وفروا من ولايتهم إلى ولاية الله تعالى ( ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون )
فمن اختار ولايتهم فقد ظلم واعتدى وخرج عن منهج الله الذي حدده لهذا العالم ليسير في أمان وعدل وتعايش وتسامح، ولا تعايش ولا تسامح ولا عدل ولا امان إلا في ولاية الله عزوجل، وكل خروج عن تلك الولاية، فهو ظلم وخوف وعنصرية وتقاتل وتغول وتوحش..
بعد هذا البيان الواضح الجلي المنطقي الذي يفهمه ويدركه كل ذي عقل سوي ويتبعه كل ذي قلب سليم، جاء التعريض بأولئك الظالمين، الخارجين عن نظام الوحي الذين عطلوا عقولهم وامرضوا قلوبهم، فهم لا يدركون وإن أدركوا فهم لا يفهمون، وإن فهموا فهم لا يعملون ويطبقون، عنادا وجحودا ومسارعة في الكفر…
والمسارعة فيها معنيان: معنى المبادرة والانجاز والفور، إلا أن المسارعة تأتي إلى (إلى) نقول سارع إلى كذا كما قال تعالى ( سارعوا إلى مغفرة من ربكم) وتأتي مضافة إلى في الظرفية كما جاء الأمر هنا، وكما في قوله تعالى ( يسارعون في الخيرات) فهل من فرق بينهما؟
لا شك ولا ريب أن هناك فرقا مهما وجوهريا، فالمسارعة إلى فيها معنى المسافة والسعي إلى شيء وقصده والرغبة فيه، لذلك قال تعالى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) فالمذنب والمقصر لابد أن يتوب ويؤوب ويقصد أسباب المغفرة لينالها..
أما المسارعة في.. ففيها معنى الظرفية ومعنى الجد والاجتهاد والمحاولة والمداخلة في التفاصيل، فمرضى القلوب الذين فسقوا عن منهج الله الذي فيه كل العدل والأمن والخير، يسارعون ويجتهدون ويبذلون الغالي والنفيس في إنجاز وتحقيق تلك الولاية، ولتصوير حرصهم على تلك المسارعة الأحادية الجانب حذف المضاف الحقيقي الذي هو الولاية وابقى المضاف إليه ( فيهم ) والتقدير ( في ولايتهم ) فهم قد تجاوزوا بنود تلك الولاية وحدودها وخطوطها وحروفها، إلى ذوات أولئك الاولياء الجدد، فصاروا يسارعون في ذواتهم ورغباتهم واوامرهم ومصالحهم ومخططاتهم وما يخصهم وجاء التعبير عن المسارعة بالفعل المضارع الدال على الاستمرار والتجدد، ويظهر من هذا التعبير انحدار بعد انحدار وانحطاط تلو انحطاط، فالأصل في الولاية التشارك والتبادل والتساخر، فهي قرب وتقارب واقتراب، وتكافل وتواكل، إلا أن هذا التعبير يدل على أنها ولاية أحادية الجانب كذلك، كما أن مسارعة اولئك المرضى أحادية الجانب، فهي أميل وأشبه إلى معنى الكفالة والوصاية، وقوله (فيهم) يدل على أن الحالة أحط من كونها وصاية فهو استعباد واستخدام واستعمال واسترقاق، والذي يمعن في معنى هذا الانحطاط التعبير بضمير الغيبة، فاولئك الأذلاء يسارعون ويقبلون ويقصدون، والاولياء والأوصياء والاسياد مستدبرون غائبون غير آبهين
والذي يزيد المشهد بشاعة ومهانة، أن الأسياد سارعوا في الكفر وهو فكر بغض النظر عن ضلاله، وهؤلاء المرضى سارعوا في الذوات والأجساد والمواد فهل بعد هذا الانحطاط انحطاط، وهل بعد هذا المرض مرض..
وجحتهم في هذه المسارعة، زعمهم وقولهم، فهو مجرد قول عار عن البرهان او اليقين او الدليل، ( يقولون نخشى او تصيبنا دائرة ) والدائرة تغير الحال وتبدله، وفيه دليل على عدم يقينهم في ولاية الله تعالى، وشكهم في خبره ووعده ونجاعة وصلاحية وحيه، فالتجؤوا إلى ولاية غيره ممن سارعوا في الكفر والحجود والعناد والانحراف ولي اعناق النصوص والدوس على القيم، يرجون منهم حمايتهم وكفالتهم ووصايتهم، لمنعهم من الدائرة التي قد تصيبهم وتلحق بهم…
فياتي الرد الإلهي المحكم على هذا الزعم والقول ( فعسى الله أن ياتي بالفتح او أمر من عنده فيصبحوا على ما اسروا في انفسهم نادمين) استبدالهم لولاية الله بولاية اعدائه دليل على ارتيابهم وشكهم في صلاحية ولاية الله، والله عزوجل بيده ملكوت كل شيء فهو الرحيم العدل اللطيف، فبمجرد اليقين في ولايته وبذل السبب في ذلك والصدق والاخلاص في ذلك البذل، والبحث عن المراد الله دون تحريف أو لي، فالله عزوجل قادر على ان يقرب الفتح الذي يسعى إليه الذين آمنوا في جميع المجالات بعد أن استعصى عليهم غلقه او إغلاقه، أو أن ياتي بفرج من عنده من حيث لم يحتسب أهل الإيمان، فيصبح هؤلاء المرضى الذي تعلقوا ببال وخال، نادمين على توليهم ومسارعتهم وولايتهم…
(يقول الذين آمنوا اهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت اعمالهم فأصبحوا خاسرين)
بعد تلك المسارعة واختيار وانحيازهم إلى ولاية اولئك المنحرفين الذين استدبروا الهدى والنور الذي اختصهم الله به، بعد أن حلفوا بالأيمان المغلظة وسخروا رموزا دينية وعلمية لاوية أعناق نصوص الوحي لتحليل وتجويز وتجميل مواقفهم الشنيعة، يثير هذا التناقض والتلون والنفاق الظاهر الاستفهام الذي يفهم منه الاستنكار والتعجب،ليس التعجب فقط كما ذهب إليه بعض المفسرين، لأنهم استنكروا تناقض تصرفاتهم مع اقوالهم، سواء زعمهم الخوف من الدوائر الدال على شك وارتياب وكذلك حلفهم بالله الذي هم يشكون في ولايته فكيف يحلفون به الأيمان المغلظة فهو تناقض في تناقض، وكيف بعد هذا يمكن أن نصدق ولايتكم الإلهية ومعيتكم الإيمانية… فهذا الاستنكار كان قبل ظهور المآل، لأن يقينهم لا ينتظر مصداقا من المآل..وهذا اعمق وأبلغ من التعجب بعض بروز ذلك المآل..وهذا الاستنكار يتوافق مع قراءتي الرفع والعطف(ويقولُ) او الرفع والاستئناف (يقولُ) أما قراءة النصب والعطف (ويقولَ) ففيها معنى تعجبهم بعد ظهور مآل نكوصهم ومسارعتهم.. فاستنكروا قبل الظهور لقوة يقينهم ومنطقهم، وتعجبوا بعد الظهور لمصداق يقينهم..
وهذا التناقض والشك والارتياب والمسارعة والموالاة كفيل بأن يحبط العمل، ويلحق الخسارة…سواء كان هذا الحكم (حبطت اعمالهم…) من استنتاج أهل الإيمان، أو من إخبار الرحمن..
وهؤلاء الذين هذا نعتهم وذاك مرضهم وانحطاطهم، لا يستحقون أن يكونوا في عداد أهل الإيمان، لذلك جاء النداء الثاني عاما (من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه)
فكما أنهم استبدلوا ولاية أولئك المسارعين في الكفر المحرفين لوحي الله ومنهجه غير الواثقين في حكمه، فهؤلاء لا مكان لهم في ميدان ولاية الله عزوجل، ولا رجاء لشفاءهم وحلهم الاستبدال..
فإياكم ان يتسلل إليكم هذا المرض وهذا الفيروس فتتسع رقعة عدواه، فحاصروه واحجروا على المصابين به حجرا صحيا إيمانيا حتى يشفوا من مرض المسارعة والذل والاستعباد..