حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني ج4
حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني
الجزء الرابع
- هل في الإسلام نموذج للدولة؟ وما هي أشكال الحكم التي لا تتعارض مع الإسلام؟
** كتبت وقلت مرارا إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد، عكس ما يتم ترديده في إصدارات وكتابات تحت عناوين “النظام السياسي في الإسلام” أو “نظام الحكم في الإسلام”، وأكبر دليل على ذلك أن الإسلام لم ينظم حتى النقطة الأولى في نظام الحكم وهي تولية رئيس الدولة، فكل واحد من الخلفاء الراشدين تولى الحكم بطريقة مختلفة عن الآخرين.
وإذا جئنا إلى مسألة الشورى باعتبارها أهم قواعد الدولة لا نجد لها طريقة موحدة، فالرسول الأكرم ومن بعده الخلفاء كانوا يستشيرون بكثير من العفوية والتغير في الأساليب والأشكال، كما أن السلط في الدولة تطورت واختلفت وتنوعت من دولة إلى أخرى عبر التاريخ الإسلامي.
لكن لا يمكن أن ننفي وجود مبادئ وقواعد بعضها قواعد شرعية عامة للحكم وغير الحكم وبعضها بتعلق بالحكم بصفة خاصة، لعل أهمها الحكم بما أنزل الله وأن تكون المرجعية التشريعية للدولة إسلامية، ومراعاة المرجعية الإسلامية في أصول الاجتهاد والتشريع، ومبدأ الشورى وحرية الاختيار للحاكم، ومبدأ العدل والتساوي في الاستفادة من الثروات بين الأقاليم والأشخاص والفئات، حيث كان الفقهاء يلخصون واجبات الخليفة في أنها “العدل بين الرعية والقسْمُ بالسوية”، إضافة إلى الترشيد في النفقات ومحاسبة المسؤولين، فلا أحد فوق المحاسبة، وقد حوسب الخلفاء الراشدون أنفسهم.
هذه بعض المبادئ والقواعد يمكن أن نسميها مبادئ الحكم الرشيد في الإسلام، أما كيفيات وطرائق توزيع السلط والصلاحيات فهي متروكة للاجتهاد والتطور الزماني والاقتباس، وقد اقتبس المسلمون في أيام الخلفاء الراشدين من الدول المجاورة والتجارب التاريخية للأمم الأخرى.
- لكن لماذا يدعو كثير من المسلمين منذ سقوط الخلافة الإسلامية إلى العمل من أجل إحياء نظام الخلافة؟
** إذا أريد بالخلافة التسمية والأشكال والهيكلة التنظيمية فهذا شيء مرفوض وتعلق بالأوهام ولا أساس له في الدين، لكن إذا أريد بالخلافة وحدة المسلمين، فهذا هدف صحيح ومعقول بغض النظر عن كيف يكون ومتى يكون؟ ومن الطبيعي أن يتحسر بعض المسلمين على زمن كانت الأمة الإسلامية دولة واحدة، وجميع الدول والأقطار الإسلامية – ولو بالاسم – منضوية تحت لواء الخلافة الإسلامية، وحتى إن أقوى دولة عرفها المغرب وهي دولة يوسف بن تاشفين الذي أسس دولة المرابطين بشكل مستقل تماما، بادر من تلقاء نفسه فأعلن ولاءه للخليفة العباسي في بغداد وسمى نفسه أمير المسلمين، حتى لا يسمى أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين، لأن لقب أمير المؤمنين كان يعطى للخليفة، وكان يوسف بن تاشفين يضع اسم الخليفة العباسي في العملة، علما أن الخلافة كانت تحتاجه أكثر مما يحتاجها، ولم تكن تملك له ضرا ولا نفعا.
ولقد كانت عدد من الدول الإسلامية زمن الخلافة العباسية والعثمانية تعترف بالخليفة رمزيا، وترسل له الدعم المالي أو العسكري عند الضرورة، رغم أنها كانت تمتلك استقلالية كاملة، لكن هذه الوحدة الرمزية التي أسقطها كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، يمكن إعادة تحقيقها اليوم بأشكال متعددة، فالحج، والقضية الفلسطينية أو قضية القدس، وهيئات العلماء، كلها – على سبيل المثال – تحقق هذه الرمزية، وأعتقد أنه في وعي الكثير من العلماء ومن بينهم الشيخ يوسف القرضاوي أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نفسه كان يقصد تحقيق هذه الرمزية، بمعنى أن يلتقي علماء المسلمين من جميع القارات والدول في مؤسسة واحدة وعلى أفكار ومواقف موحدة.
كما أن منظمة التعاون الإسلامي يمكنها تجسيد هذه الرمزية لو أمكن تقويتها وتحسين وضعيتها. وهنا أتذكر أن العلامة الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، وهو أكبر فقيه دستوري عربي في العصر الحديث، قد ألف كتابا معروفا حين سقطت الخلافة، بعنوان “فقه الخلافة الإسلامية وتطويرها”، كان أطروحة ثانية للدكتوراه قدمها في جامعة السوربون، ودعا من خلال بحثه إلى إيجاد شكل من أشكال الترابط والتوحد بين الدول الإسلامية، وهي الفكرة التي تم تطبيقها فيما بعد في الاتحاد الأوروبي، والسنهوري قد طرح هذه الفكرة سنة 1925، أي قبل ميلاد الاتحاد الأوروبي، كي لا يقال إنه استوحاها منهم. ولكن الأوروبيين ساروا بعد الحرب الثانية في طريق التكامل والتحود، وحكامنا ساروا في الاتجاه المعاكس.
- لتوضيح فكرتك أكثر، فأنت تدعو إلى بقاء الدولة الوطنية على أن تجتمع الدول الإسلامي في تكتل شبيه بالاتحاد الأوروبي وليس بالشكل الذي كان عليه أيام الخلافة العثمانية؟
** ما تسألني عنه ونتحدث عنه ليس شيئا جديدا، فإذا كنا نقصد الخلافة الدولة التي تجمع كل المسلمين تحت سلطة حاكم واحد، فهذه لم تكن إلا في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، وبعد ذلك صارت عدة أقطار تستقل بنفسها، ومع ذلك تحافظ على علاقتها بالخلافة، كالدولة في الأندلس والمغرب، وتبقى الدولة الوحيدة التي رفضت الاعتراف بالخلافة العباسية وتعتبر نفسها خلافة هي الدولة العبيدية التي تسمت فيما بعد بالفاطمية التي ظهرت في شمال إفريقيا ثم في مصر، ويعني ذلك أنه منذ القدم كان هناك استقلالية للدول وتعدد للأمراء، مع الحفاظ على العلاقة الرمزية مع الخلافة ودعمها قدر الإمكان اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
- ما هو موقفكم من تولي المرأة وغير المسلم للحكم في الدول الإسلامية؟
** هاتان القضيتان من القضايا التي تضخم كثيرا، حتى تصبح “الحبة قبة”.
بالنسبة للمرأة هل أعطي الحق في هذا المنصب للرجال حتى يعطى للنساء؟ فالمنصب محجوز ومفقود أو مختطف، فالحديث في هذا الموضوع وطرح الإشكال يدخل في باب المزايدات والمعاكسات لا أقل ولا أكثر.
أما غير المسلم فهو موضوع نظري أيضا، لنفرض أن لدينا حرية الاختيار هل يمكن أن نتصور نجاح غير المسلم في انتخابات الرئاسة لقيادة قطر إسلامي أو الأمة الإسلامية؟ هذا طبعا يبقى سؤالا نظريا وافتراضيا. ثم إن منصب الإمامة أو الخلافة أو رئاسة الدولة في الإسلام هو منصب ديني وسياسي، ولقب أمير المؤمنين الذي تلقب به عمر ابن الخطاب واستمر به العمل إلى اليوم في المغرب، يؤكد أن المنصب ديني، لذلك ليس نحن الذي لن نقبل بتولي غير المسلم علينا، ولكن يفترض أن لا يقبل غير المسلمين بتولي هذا المنصب الديني الإسلامي، وهل يقبلون هم أنفسهم أن يرأسهم في دينهم مسلم؟
مسألة أخرى ينبغي الانتباه إليها، وهي أن المنصب الديني ليس شيئا جديدا، فالأمم تبنت هذا النموذج عبر التاريخ، وإن كانت الدول التي ما زالت تحافظ على الصفة الدينية للحاكم تقلصت، ومنها المغرب والسعودية والسودان وإيران، ولهذا السبب لا يمكن دينيا بهذه الصفة أن يترأس غير المسلم الدولة الإسلامية.
لكن في الدولة العلمانية الحديثة حيث تنعدم الصلاحيات الدينية لرئيس الدولة، فلا مانع أن يتولى هذا المنصب علماني أو مسيحي، لأن الدولة تركت الدين لأهله، كتركيا، وإذا سئلت فقهيا عن تركيا سأقول “لا مانع من تولي مسيحي تركي منصب رئيس الجمهورية، إذا انتخبه الشعب”، لأنه قد تولى الرئاسة في هذه الدولة ملحدون ولا دينيون، والمسيحي عندي أفضل منهم وأقرب، ودستورهم يؤكد أن الصلاحيات الدينية لرئيس الدولة منعدمة، بعد أن ترك الدين لأهله تحت ما يسمى بوقف الديانة وكليات الإلهيات، وغيرها من المؤسسات الدينية، التي تشرف على خطب الجمعة وتدبير المساجد دون تدخل من رئاسة الدولة والحكومة.
- لم تذكروا موقفكم من تولي المرأة للحكم، ماذا تقولون بشأنها؟
** الموضوع أهون بالنسبة للمرأة، لأنه ليس عندنا منع صريح أو نهي صريح، عندنا حديث نبوي قابل للتأويلات والاحتمالات وهو “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”. فدلالته كما تطرق إليها بعض العلماء قديما وحديثا تدخل في باب العموم، ويسمى من الناحية الأصولية “لفظ عام”، فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهذا العموم ثبت أنه ليس باقيا على عمومه، بل هو مخصص، والعام إذا خصص يصبح ظنيا وقابلا لمزيد من التخصيص، ومن تخصيصه تولي المرأة ولايات عامة في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين، ومن آثار تخصيصه قول كثير من العلماء، إنه يتعلق فقط برئاسة الدولة، أما الوزارة ونحوها من الولايات والمناصب فلا مانع. وبعض المعاصرين يقولون إنه كان إشارة إلى الحالة المعينة التي كانت سببا لذكر الحديث، فهو عموم أريد به الخصوص، كأنه بدل أن يقول: “لن يفلح هؤلاء الفرس وقد ولوا أمرهم هذه المرأة”، قال “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، فالأمر يتعلق بحالة معينة.
وهذا بالإضافة إلى أن الحديث جاء بصيغة إخبار وتنبيه، لا بصيغة النهي والتشريع الصريح. ومع هذا كله فالحكاية كما ذكرت من قبل جدالية وذهنية، أما من حيث الوقوع الفعلي فهو من النوادر أو الافتراضات.
- توجه في بعض الأحيان انتقادات لاذعة للمواضيع التي يتناولها خطباء المساجد والعبارات التي يستعملونها في وعظ الناس، ما رأيك في هذه المسألة؟
** كم عدد الخطباء في المغرب؟ فأعدادهم كبيرة جدا، كما لو كنا سنتحدث عن المعلمين أو الأساتذة، لذلك يصعب أن لا تجد في هذا الجيش من الخطباء والوعاظ سيئا من هذا القبيل، لكن الذي يجب أن لا ننكره هو أن مستوى الخطباء تحسن في العقود الأخيرة بشكل ملموس، حتى أصبحنا نرى خطباء أساتذة مجازين وجامعيين ودكاترة، لم نكن نراهم قبل أربعين أو خمسين سنة، عندما كان الخطباء لا يحسنون إلا تنويم المستمعين.
وعلى سبيل المثال فإن الخطب في مسجد الحي الذي أسكن فيه جيدة وطيبة، وفي المسجد الثاني القريب أيض. ولكن من الطبيعي أن لا أجد دائما الخطيب الذي يرضيني، وأنا لا أريد أن أقيس الخطباء بمستواي ورغباتي وما يشغلني، بل أنظر إلى جمهور الناس وما يحتاجونه، وتوجيه الانتقادات إلى بعض الخطباء سهل وصحيح، لكن لا بد أن نسجل التطور الإيجابي للخطباء، وأظن أنه كما نشهد الآن تحسنا سنشهده مستقبلا، لأن مستوى الخطباء يتحسن باستمرار، كما نشهد تحسنا في العدول، وهذا يرجع إلى تحسن المستوى التعليمي والصحوة الإسلامية، فالكثير من الخطباء هم بشكل أو آخر أبناء هذه الموجة والواقع الحالي.
لكن أيضا لا ينبغي أن ننسى أن الخطباء يعانون من سيف الرقابة والعزل وما إلى ذلك، فهذا أيضا يخفض سقف الخطبة والوعظ، لأن الخطباء حين يتوقعون أن تلحقهم عقوبة أو تهديد لأي سبب ولأي كلمة يقولونها، يفضلون الاحتياط والاقتصار على ما لا يعترض عليه أحد، ومعروف أن الإنسان حين يبتلى بالرقابة الذاتية يفعل بنفسه أكثر مما كان سيفعل به من يراقبه.
إن وجود هذا السيف المسلط بكيفية غير مضبوطة وبدون الرجوع إلى مؤسسة علمية يحتكم إليها ولا إلى شيء محدد، جعل الخطباء يحتاطون أكثر فأكثر ويبتعدون عن القضايا التي قد تثير عليهم المشاكل.
- هل يمكن أن تكون الخطبة الموحدة حلا لهذه الإشكالات؟
** الخطبة الموحدة شر كبير، ولحسن الحظ أنها غير معمول بها حتى الآن في المغرب، رغم أننا نشهد تضييقا وتقليصا للمساحة التي يتحرك فيها الخطيب، ويتلقى الخطباء توجيهات وأحيان خطبا موحدة أو شبه موحدة، لكن تعميم الخطبة الموحدة سيعدم الخطيب نهائيا، وتجعله مجرد مذيع أو ساعي بريد، وتجعل الناس باختلاف مستوياتهم في المدن والقرى والأحياء الراقية والشعبية يسمعون نفس الكلام، وهذا خطأ قاتل وليس حلا.
- أحيانا تصدر عن الخطباء والدعاة في المساجد خطابات منفرة وصدامية كالحديث عن الغرب الكافر والطاغوت وغيرها، أليس ذلك موجبا للتدخل؟
** لا أستطيع أن أحكم على الكلمات، لأن الكلمات تُعرف بسياقها، ومع ذلك يجب الاستمرار في مواكبة الخطباء ورفع مستوياتهم العلمية، وقد يأتي الوقت لاشتراط شهادات جامعية معينة لجميع الخطباء، وتدريب معين قبل الحصول على إذن لإلقاء خطب الجمعة، وأما الكلمات التي تعتبر بمثابة فلتات فيمكن التنبيه إليها وتجاوزها، وفي بعض الحالات يمكن محاسبة أصحابها، لكن لا أستطيع أن أدين كلمات بعينها إلا إذا سمعتها في سياقها.
- كيف تقيمون مؤسسات تدبير الشأن الديني في المغرب؟ وما هي عناصر التجديد المطلوب؟
** أولا: مزيد من الحرية والاستقلالية، وهذا ما أدعو إليه منذ زمان. فالعلماء ليسوا أقل من غيرهم ممن يتحملون مسؤوليات مختلفة في البلاد، الآن كأن الثقة في العلماء والخطباء منزوعة وملغاة، فيما المطلوب أن ينالوا حرية أكبر في تناول قضايا الدين والتعبير عن الأوضاع الاجتماعية وانتقادها وإبداء التوجيه الشرعي فيها على أساس علمي موضوعي، وهذا مع الأسف غير متوفر اليوم، خد – على سبيل المثال- الفتاوى التي تصدر عن المجلس العلمي الأعلى، والتي تكشف كيف أن المقص سواها لتكون وفق المزاج السياسي.
أنا أتذكر واقعة حصلت أيام الملك الراحل الحسن الثاني، عندما ذهب بعض أرباب البنوك ليشتكوا له من انتقاد وتحريم مولاي مصطفى العلوي رحمه الله الذي كان رئيسا للمجلس العلمي المحلي بمكناس للربا والمعاملات البمكية الربوية في برنامج للإفتاء كان يقدم في الإذاعة الوطنية، فجاء رد الملك عليهم بنوع من الرشد واللباقة: قال لهم “ديروا شغلكم واتركوه يدير شغلو”.
وفي هذا الصدد، دعني أتساءل معك: هل يستطيع الخطيب اليوم أن يتحدث عن الربا وحكمه في الشرع وعن حكم المعاملات البنكية؟ بالتأكيد سيتلقى إنذارا من الوزارة، أو يتعرض للعزل قبل الإنذار، فيما يفترض أن ينعم الخطيب بقدر كبير الحرية على الأقل في التعبير عن ثوابت الدين وأحكامه القطعية، صحيح ينبغي أن يتجنب الخطيب الخوض في الأمور الخلافية بين الفقهاء، أو يذكرها دون تحيز أو تعصب، لكن القضايا التي لا خلاف فيها دينيا ينبغي للفقيه أن يتحدث فيها ولو لم تعجب المسؤول الفلاني والزير الفلاني…
ثانيا: المؤسسات الدينية العلمائية بحاجة إلى دمقرطة، وهنا تطرح أسئلة كثيرة أهمها: لماذا لا ينتخب العلماء أعضاء المجلس العلمي الأعلى ورئيسه؟ لماذا العلماء هم الهيئة المدنية الوحيدة التي لا تَنتخب ولا تُنتخب؟ علما أن هناك هيئات أخطر وتنتخب نفسها ورئيسها، بل ينتخبها عامة الناس وجمهور الناس، أما هؤلاء فهم علماء، وسينتخبهم العلماء. الدمقرطة منعدمة في الرابطة المحمدية للعلماء، والمجالس العلمية بجميع مستوياتها، وهذا غير معقول، لأن وزير الأوقاف مهما كان موضوعيا ونزيها وأمينا لن يستطيع أن يحسن الاختيار لا دائما ولا غالبا.
كما أن انتخاب العلماء ومؤسساتهم سيمنحهم حيوية ومصداقية وتقديرا أكبر للمسؤولية.
- هل ترى أن المجلس العلمي الأعلى للإفتاء في حاجة إلى تجديد وتطوير أيضا؟
** عندنا في المغرب المجلس العلمي الأعلى واللجنة الدائمة للإفتاء المنبثقة عنه، ويبدو أن هذه التجربة مقتبسة من السعودية التي عندها هيئة كبار العلماء واللجنة العليا للإفتاء، والفرق بينهما أن هيئة كبار العلماء لا تفتي إلا في قضايا الدولة بطلب منها، أما اللجنة الدائمة للإفتاء فتجيب على أسئلة الأفراد. نفس الأمر بالنسبة للمغرب، إذا كان هناك شيء يتعلق بطلب فتوى ورأي استشاري فالمجلس العلمي الأعلى بمجموعه يتولى إصدار الفتوى، كما حصل ربما في مسألة تولية النساء لخطة العدالة، أما اللجنة الدائمة للإفتاء فتتولى النظر والإفتاء في الأمور الخاصة.
وبدورها يجب أن تكون هيئات الإفتاء منتخبة أو على الأقل ثلثاها منتخبون والباقي معين، على الأقل شيء من الدمقرطة وإسناد الأمور إلى أهلها.
- هل ترى ضرورة توحيد الجهة التي تصدر الإفتاء كي لا يحصل فوضى في مجال الإفتاء؟
** الآن هذا الأمر موجود رسميا، فالإفتاء في حدود معينة مخول للمجالس العلمية المحلية والمجلس العلمي الأعلى، لكن للأسف ضيق سقفهم وضعف أدائهم وحضورهم ومصداقيتهم يجعل الناس لا تكترث بهم، فإذا سألت الناس وجدتهم لا يعرفون أدوار المجالس العلمية، بينما الفتوى يحتاجها الناس في كل وقت وحين، فيذهبون عند من يعرفونهم، ويطرقون أي باب للحصول على الفتوى.
لذلك تحتاج هذه المؤسسات إلى تقوية وترشيد من خلال الدمقرطة وحرية المبادرة، وأن يكون لها حضور في عموم المجتمع ووسائل الإعلام.
لكن يبقى شيء آخر لا بد من ذكره، إن إسناد مهمة الفتوى لمؤسسات إقليمية ووطنية ومحلية، لا يلغي حق الفقهاء الأفراد في التعبير عن آرائهم والإفتاء بما يخالفها، لأن توحيد الفتوى بمعنى “كلمة واحدة لا يُسمع غيرها” غير صحيح وغير ممكن ومرفوض، وأول من رفضه الإمام مالك حين دعاه الخليفة العباسي وطلب منه أن يعمم كتابه ومذهبه على الأقطار الإسلامية، فقال له: “لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين، فالعلماء والصحابة تفرقوا في الأمصار ولكل علم وقول ونظر، فدع الناس على ما اختاروا لأنفسهم”، والاختلاف رحمة، فمن أراد أن يأخذ رأي المؤسسة فله ذلك، والأمور التي تسهر الدولة على تنفيذها كالقوانين يمكنها الاعتماد على فتوى المؤسسة العلمية وحدها، أما بخصوص التدين الفردي للناس، فيجب أن يكون لدينا فتوى المؤسسات وحتى العلماء الأفراد، وكما يقول القاضي أبو بكر بن العربي “الفقيه إذا زل فضحه العلم”، والعلماء الأفراد يبقون رقباء على ما تصدره مؤسسات الفتوى، وعلى بعضهم بعضا. والمؤسسة الرسمية قد تخضع وتميل لسبب أو غيره، لشيء من التوجيه والضغط، فيما العلماء ينبغي أن يعبروا عن آرائهم بشكل مستقل.
خلاصة الأمر، الفتوى المؤسسية لا بد منها، ويجب تفعيلها بشكل جيد، لكنها لا تلغي حق العلماء الآخرين، مادامت لهم الأهلية أن يتحدثوا في الموضوع.
- هل تتفق مع من يقول بوجود خصوصية دينية في المغرب؟ ثم هل يمكن الحديث عن إسلام مغربي في عصر العولمة؟
** أنا آخر ما كتبته وسيصدر قريبا هو كتاب بعنوان “الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب”، تحدثت فيه عن أربعة اختيارات دافع عنها علماء المغرب وتمسكوا بها حتى أصبحت اختيارات شعبية ورسمية، وهي قراءة الإمام نافع، ومذهب الإمام مالك، ومذهب الإمام الأشعري في العقيدة، ومذهب الإمام الجنيد في التصوف أو السلوك. هذه أعتبرها مكاسب واختيارات لآلاف العلماء، ورضيها الناس في المنطقة المغاربية من ليبيا إلى السنيغال، فهذه المكاسب مهمة جدا وتميز الإسلام في هذه المنطقة، بمعنى إسلامية هذه المنطقة تتميز بهذه الاختيارات، وهي اليوم ما زالت راسخة ومقبولة سواء عند العلماء أو الجمهور.
لكن كما ذكرت في سؤالك فإن عصر العولمة والانفتاح يجعل من غير الممكن أن تمنع أحدا من مخالفتها، لكن هذه اختيارات نبقى أوفياء لها ونناصرها وهي تمثل عنصر وحدة وانسجام في مجتمعات المنطقة المغاربية، وهو ما ليس متوفرا في المشرق وبقية أنحاء العالم الإسلامي، هذه الدول من ليبيا إلى السنغال كلها منسجمة شعبيا ودينيا وعقائديا وسلوكيا، فهذه التوجهات وحدت هذه المنطقة وسلم لها الناس بعلمائهم وعامتهم وملوكهم أيضا، وهذا مكسب تهفو إليه شعوب ودول أخرى.
لكن مع ذلك الاختيارات الموحدة، يبقى الباب مفتوحا، فلا أحد يقول بالمذهب المالكي المنغلق، ربما باستثناء وزارة الأوقاف، فالدولة كدولة إذا أخدنا مدونة الأسرة نجد فيها المذهب المالكي والحنفي واجتهادات معاصرة غير مسبوقة، فإذاً لا خوف من الانغلاق أو التعصب، لكن يبقى المذهب المالكي له المكانة الأولى.
- وصفتم في معرض جوابكم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ب”الانغلاق”، هل تقصد ذلك؟
** نعم، وزارة الأوقاف لديها أمور وعادات وممارسات متوارثة، مع أنها ليست وفق المذهب المالكي.
- هل يمكن أن تقدم لنا أمثلة توضح هذا الانغلاق؟
** مثلا الآن عندنا في المغرب ثلاث أذانات في صلاة الجمعة، وهذا ليس في المذهب المالكي ولم يعد هناك سبب لتعدد الآذان أصلا، فضلا عن أن ثلاثة أذانات لم يثبت وجودها في التاريخ، فقد كان المسلمون يؤذنون مرتين فقط، والروايات التي تتحدث عن 3 آذانات يقصدون بالثالث الإقامة للصلاة، لذلك لا وجود إطلاقا لثلاث أذانات سواء في حديث نبوي أو في تجربة الصحابة والتابعين. وعندما أضاف الصحابة الآذان الثاني كان ذلك في السوق وليس في المسجد في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يُرفع قبل دخول وقت الصلاة، لكي يستعد الناس في الأسواق ويتوجهوا إلى المسجد، ثم يأتون للمسجد فيؤذَّن الأذان الثاني، ثم الإقامة للصلاة بعد الخطبة. فهما أذانان وإقامة. أما الأذان ثلاث مرات، في وقت واحد ومكان واحد، فلا أصل له ولا معنى له. بل نحن اليوم لا نحتاج إلى أذان حتى في الأسواق والحقول، لأن عندنا مكبرات صوت تصل إلى كل الاتجاهات، وحتى إذا أردنا الاستمرار بهذا الآذان الثاني، فليكن في السوق، كما كان يفعل الصحابة.
- تصدرت الحركات الإسلامية التي كانت مطاردة لعقود المشهد السياسي في أكثر من قطر عربي بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، لكن وصولها للحكم لم ينتج عنه تغيير في حياة الناس اليومية، هل أثبت الإسلاميون أنهم لا يصلحون للحكم وممارسة السياسة؟
** أولا: إن القول الذي يتردد بأن الإسلاميين في الحكم غير دقيق، وربما مغرض، وإذا كان الإسلاميون مضطهدين سابقا، فإنهم اليوم أكثر اضطهادا في عدد من الدول. وانظر إلى السعودية ومصر والإمارات وغيرها…
ثانيا: الإسلاميون وصلوا نسبيا أو جزئيا للحكم ثم وقع الانقلاب عليهم، كما وقع في الجزائر وفلسطين ومصر. وفي تونس وقع انقلاب حبي أخوي ناعم بلا دماء ولا سجون، وفي اليمن نعرف الأوضاع التي تعيشها البلاد والتي انطلقت أساسا لقطع الطريق على الإسلاميين، فناصرت السعودية الحوثيين في البداية لقطع الطريق على الإخوان المسلمين وعلى الثورة الشبابية، ثم انقلب السحر على الساحر…
لذلك فإن الحديث عن حكم الإسلاميين مبالغ فيه، كما أنه لا يمكن الحديث عن فشلهم، لأنهم لم يكملوا تجربتهم ولم تحكم عليهم صناديق الاقتراع.
ثالثا: أنا أقول على سبيل المعاكسة، إن ما وقع للإسلاميين دليل على نجاحهم لأنهم أزيحوا بالقوة، فمن أزاحوهم خافوا من إكمال نجاحهم، فبطشوا بهم قبل أن يظهر نجاحهم للناس، وعينهم على تجربة تركيا، ولسان حالهم يقول: “لو أن العسكر قام في السنة الأولى بانقلاب ضد وصول الإسلاميين إلى الحكم، لما وصلت تركيا إلى ما وصلت إليه الآن، ولما تمكن الإسلاميون فيها من تحقيق ما حققوه من نجاحات وإنجازات”.
فهذا البطش وقلب الأوضاع على الإسلاميين بهذه السرعة، دليل على أنهم كانوا يسيرون في درب النجاح. أما إذا أخدنا نموذج التجربة المغربية، فنجد أنهم شاركوا ثم نجحوا في الانتخابات ثم في انتخابات أخرى على التوالي، فمن الذي حكم عليهم بالفشل؟ فالمعيار الانتخابي يقول إنهم نجحوا ثم نجحوا ثم نجحوا أكثر، مع العلم أن مشاركة الإسلاميين المعاربة في الحكم محدودة جدا. ومعلوم أن الحكومة كلها لا تحكم إلا قليلا، ويمكنك أن تقول: عندها ثلث الحكم، وحزب العدالة والتنمية عنده ثلث الحكومة، إذاً له ثلث الثلث، أي السدس. هذا هو الواقع، ومع ذلك نجحوا ثم نجحوا.
لكن مع ذلك لا يفوتني أن أذكر تجربة فاشلة للإسلاميين، هي التجربة السودانية، هذه التجربة مؤسفة، فالفساد هو الفساد، والاستبداد هو الاستبداد، والتسلط العسكري هو هو ، وقد أخذوا مدة زمنية كافية، ويمسكون بمقاليد الحكم حقيقة، لذلك نستطيع أن نقيم نجاحهم وفشلهم. ولنا أن نقول: إن فشلهم واضح للعيان.
- لكن لماذا لم يستطع الإسلاميون أن يغيروا نظرة الغرب والدول العميقة في بلدانهم إليهم؛ هل هو مشكل فيهم أم في ولادتهم غير الطبيعية؟
** على كل حال، هذا يرجع إلى التدبير السياسي، طبعا لم ينجحوا في طمأنة خصومهم، هل كان عليهم أن يتنازلوا أكثر ويتواصلوا أكثر؟ ربما. في مصر مثلا كان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة مسيحي قبطي، وهو الدكتور رفيق حبيب، وهذا مؤشر إيجابي مهم، لكن مع ذلك وقع ما وقع، هل كان عليهم أن يرئسوا عليهم بطرس غالي لكي يرضى الغرب عنهم؟ لكن يبقى السؤال قائما ومعقولا: هل كانوا أقل مرونة مما ينبغي؟ أم كانوا أقل تواصلا مع غيرهم؟ أم ليس في الإمكان أبدع مما كان؟
على كل حال فأخطاء الإسلاميين موجودة وانعدام الخبرة موجود، في مصر كأبرز نموذج لم يكن مطلوبا منهم أن يحكموا ويتنازلوا، بل كان عليهم أن لا يحكموا أصلا إلا بمقدار، وأن يكونوا شركاء لا رؤساء، لكنهم تقريبا فازوا بكل شيء (برئاسة الدولة ومجلسي الشعب والشورى)، في الوقت الذي كانت فيه جميع مؤسسات الدولة وعضلاتهم تقف ضدهم. ثم رئاستهم للجمهورية جعلتهم في مواجهة مباشرة مع الأطراف الخارجية، وفي مقدمتها العدو الصهيوني الجاثم أمامهم، ومن ورائه أمريكا وأوروبا، يعني أصبحوا من أول يوم أمام معضلة كبرى في العالم العربي وهي معضلة إسرائيل، فلماذا تحمل الإخوان المسلمون كل هذه المسؤوليات دفعة واحدة؟ فلذلك أرى أن الخطأ الأساس في مصر كان هو قفز الإخوان إلى تحمل مسؤوليات أكبر من طاقاتهم وقدراتهم وخبراتهم، في ظرف تاريخي ظنوا أنه مواتٍ، ولكن تقديراتهم لأنفسهم ولخصومهم ولظروفهم كلها كانت غلطا في غلط. لذلك التونسيون لما فهموا هذه الإشكالات والتعقيدات رجعوا خطوة أو خطوات إلى الوراء.
- على ذكر التجربة التونسية، أليس ما أعلنته حركة النهضة التونسية من فصل بين الدعوي والسياسي أو “علمنة” الحركة الإسلامية هو المطلوب لتجاوز التحديات؟
** الفصل بين الدعوي والسياسي أو بين الدعوي والحزبي بتعبير أدق هو اختيار مغاربي أولا، اعتمدناه نحن في حركة التوحيد والإصلاح منذ أزيد من 20 سنة، وكان دائما محط أنظار التونسيين، وهو الآن معتمد في موريتانيا وليبيا والسنغال أيضا، فهو من مميزات الحركة الإسلامية في الغرب الإسلامي على غرار تميزهم المذهبي الذي ذكرته سابقا.
لكن هذا الفصل ليس علمنة للحركة الإسلامية – كما ذكرت في سؤالك- بل هو فرار من العلمنة، لأن الحركات الإسلامية إذا بقيت مرتبطة بالأحزاب فإنها ستتعلمن حقا، لأن ماكينة السياسة وضغوطها تفرض ذلك. لكن الآن حركتنا في مأمن من العلمنة ومن إكراهات العمل السياسي الحزبي.
من ناحية أخرى، نحن في زمن التخصصات، والعالم يتجه نحو مزيد من التخصص الوظيفي، وهذا يحفظ جوهر الدين وتميزه ولا يعلمنه، أي تبقى لدينا جهات دعوية تحفظ الدين كما هو.
وأنا شخصيا أعتبر أن العمل السياسي هو نوع من العمل المكمل والداعم للعمل الديني الأصيل، حتى في التصنيف الفقهي عندنا الدولة والعمل السياسي مجرد وسائل، وإذا بقينا محافظين على الدين بعقيدته وجوهره الأخلاقي، فهذا كسب كبير، والوسائل تدعم وتواكب وتساير، وهذا يعطي للدين حماية وحصانة وثباتا، وتغير المواقف والمواقع السياسية لا يهم كثيرا، لأنه ليس شيئا عميقا.
- في السنوات الأخيرة ظهرت دراسات وأبحاث لمفكرين غربيين يتحدثون عن ما بعد الإسلاميين، هل انتهى زمن الإسلاميين؟
** هذه فكرة لبعض المفكرين الغربيين، من أشهرهم المفكر الأمريكي الإيراني الأصل “آصف بيات”، لكن في الحقيقة حين نقرأ كتابه “ما بعد الإسلاموية أو الإسلام السياسي المتغير الأوجه” وهو أكثر من تحدث في الموضوع، نجد أن ما بعد الإسلام السياسي هو إسلام سياسي بوجه آخر. ثم هناك شيء آخر يجب الانتباه إليه، وهو أن كتابات آصف بيات، والكاتب الفرنسي (لم أتذكر اسمه) صاحب كتاب “أفول الإسلام السياسي”، كانت قبل الربيع العربي، الذي فاجأهم وشهد عودة للإسلام السياسي بقوة غير متوقعة، وهذا يكفي وحده لإسقاط مقولاتهم، وإن كانت في جوهرها، وخاصة مقولة “بيات” تدل على أن الإسلام السياسي يتغير ويتأقلم بمرونة، وكما قلت لك سابقا، فنحن عندنا ثوابت ومتغيرات.
ما بعد الإسلاموية، أو الإسلاميون الجدد، هو تطور إيجابي ونوع من الانعتاق من المدرسة التي هيمنت منذ العشرينيات وإلى وقت قريب، وهي مدرسة الإخوان المسلمين ومدرسة الشيخ أبو الأعلى المودودي، وهما مدرستان متقاربتان، فمدرسة المودودي سادت سيادة كبيرة في الهند وباكستان وبنغلاديش وجنوب شرق آسيا، ولحد اليوم ما زالت هناك أحزاب وتنظيمات تابعة للجماعة الإسلامية على الأقل فكريا.
أما مدرسة الإخوان المسلمين فانتشرت في العالم العربي، وفي مشرقه بصفة خاصة، كما انتشرت في تركيا، فنجم الدين أربكان هو تقريبا من هذه المدرسة، التي اتسمت بكثير من الاجتهادات التقليدية غير المتحركة. وفي نظري يمكن القول: إن ما سمي بــ”ما بعد الإسلاموية”، يصدق على ما بعد المدرسة الإخوانية القطبية المودودية، التي أرى أنها تحتاج فعلا إلى مراجعات وإصلاحات. واليوم نرى أن عددا من الشخصيات والتنظيمات الإسلامية قد انفكوا من هذه المدرسة وغيروا وجددوا، والإسلاميون في المغرب العربي كلهم تقريبا متحررون من هذه المدرسة، مع الاعتراف بالاستفادة منها.