“إعلان كوالا لامبور”، استدارة الزمن؟
“إعلان كوالا لامبور”، استدارة الزمن؟
أ.محمد الدكالي
خبير في التنمية الدولية والشؤون الإفريقية
هل ستصبح سنة 2019 هي السنة المرجعية للعرب والمسلمين لتأريخ الانطلاقة الفعلية لإعادة بناء حضارتهم وتاريخهم للقرون القادمة؟ قد تبدو هذه العبارة للكثيرين حالمة أكثر من اللازم، طوباوية ربما، لكن التحليل الهادئ المتبصّر لوقائع ووثائق وفعاليات مؤتمر كوالا لامبور، وللرسائل والإشارات، يشير بوضح، إلى أن هذه الرؤية، في تقدير القادة الثلاثة الذين خططوا لهذا المؤتمر التاريخي، ممكنة التحقق ولم لا؟ كيف ولماذا؟
رؤية تاريخية لقادة تاريخيين
لم يحدث من قبل أن اجتمع قادة دول إسلامية وعربية لإطلاق “مانيفستو” حول “إعادة بناء الحضارة الإسلامية”.. موضوع هائل بكل المقاييس، تكلم عنه مفكرون وبعض علماء الدين ومثقفون، لكن ليس قادة سياسيون لدول وازنة لها حضور وتأثير إقليميا ودوليا. فعندما يتعلق الأمر بمهاتير بن محمد ورجب طيب أردوغان وتميم بن حمد تحديدا، وهم الذين أطلقوا المبادرة، يكون الحديث عن قيادات تاريخية حقيقية، أثبتت إخلاصها لشعوبها وللأمة، وحققت نتائج متميزة في بلدانها، وعرفت عنها المواقف الصلبة الشجاعة تجاه الثوابت الكبيرة كفلسطين مثلا، ودفعت أثمانا باهظة لسياساتها ومواقفها:
فالأول استهدفت اقتصاديات بلاده الناشئة بافتعال أزمة مالية خطيرة مسمومة سنة 1997، رفض معها أن يمد يده للبنك الدولي ونجح في إخراج بلاده منها بذكاء وتخطيط وباستقلالية في القرار شجاعة فتعافت معها بلاده من المؤامرة.
الثاني قفز ببلاده قفزات نوعية كبيرة في مرتبتها عالميا، عبر التعليم والبحث العلمي والصناعات خاصة العسكرية والتجارة الدولية، ووقف مع الشعب السوري في محنته الهائلة ومع الفلسطينيين، فتآمروا عليه لتصفيته بانقلاب عسكري دولي حال شعبه دونه في تجربة فريدة من نوعها.
الثالث حقق هو الآخر نتائج متميزة في تنمية بلاده على أسس سليمة، ورعى قناة دولية منحازة بقوة لقضايا الأمة والإنسانية، قامت وتقوم بدور بارز غير مسبوق في بناء الوعي السياسي للشعوب العربية خاصة أثناء ثورات الربيع العربي ولا تزال، ووقف ولا يزال مع غزة بالتعمير وتمويل احتياجاتها حتى من رواتب الموظفين، وفي الحروب الإسرائيلية الأربعة على غزة، كانت الجزيرة هي الوحيدة التي تغطي همجية العدو ومقاومة القسام والشعب 24 ساعة على 24، فتآمروا عليه وعلى بلاده لاجتثاثه من الأرض، فلما فشلوا حاصروها منذ سنتين ونصف.
قادة من هذا النوع والوزن، يحق لهم أن يتكلموا عن إعادة بناء الحضارة الإسلامية، كرؤية تاريخية وبأبعادها الفلسفية والحضارية.. خلفياتهم الثقافية واستقامتهم الأخلاقية وكفاءتهم في التخطيط والقيادة تؤهلهم لإطلاق هذا المشروع الذي لا بد وأن تأخذه القوى الدولية الكبيرة على محمل الجد.
واقعية الأهداف والتوجّهات
لم تطلق أية شعارات عنترية أو شعبوية، كشعار إقامة الخلافة الإسلامية من طنجة إلى جكارتا، العزيز على الحركات الإسلامية، فجماعة كولا لامبور يدركون تمام الإدراك تحقيق رؤية “إعادة بناء الحضارة الإسلامية”، وهم المتمرّسون في التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي، طبيعة أوضاع وسياقات بلدانهم والإقليم والعالم. الهدف الاستراتيجي كان واضحا جدا: “دور التنمية في تحقيق السيادة”.. صياغة ذكية لكن لا لبس في مراميها الاستراتيجية.
لقد شدد مهاتير على القول أكثر من مرة على أنه لا مجال لحل المشكلات الهائلة التي يعاني منها العالم الإسلامي، من دون تحقيق تنمية نوعية في المجتمعات الإسلامية، وهذه بدورها لا يمكن تحقيقها إلا باستقلالية القرار.. معادلة منطقية. لكنهم يدركون أيضا، تمام الإدراك، أن استقلالية القرار تعني أيضا، إعلان التحدي للنظام العولمي الظالم الطاغي، بما يعنيه هذا التحدي “إمكانية التعرض لحصار شبيه” بالذي تتعرض له إيران كما ذكر محمد مهاتير في أحد تصريحاته خلال المؤتمر، وهو موضوع حرص القادة الثلاثة كلهم، على رفضه واستنكاره بشكل صريح خلال المؤتمر وقبله بأيام في منتدى الدوحة.. يا للهول! سيعلق أحد فراعنة العولمة.
“التنمية واستقلال القرار” يبدأ في منظور جماعة كوالا لامبور عبر التعاون والعمل الجماعي في أربعة مجالات: التعليم، التكنولوجيا، البحث العلمي، الدفاع. التركيز في مرحلة أولى على “التشخيص والتقييم” كما صرح أردوغان، و”ليس هناك حل واحد للمشكلات فكل حالة لها حلولها الخاصة وبعضها توجد لها حلول وأخرى حلولها بعيدة المدى” حسب مهاتير.. ولأن الموضوع كبير جدا ومعقد جدا وتاريخي، اتجه أصحاب المشروع إلى الاعتماد على النخب العلمية في بلدانهم وفي العالم الإسلامي ومن العالم، لتشخيص المشكلات وتصنيفها وتقييم الأوضاع، بالاقتدار العلمي المتخصص، وهو ما عبر عنه سلطان ماليزيا عبد الله راية الدين عندما شدد على الدور الحاسم لمن سمّاهم بالعلماء المتخصصين، بإشراك أكثر من 450 عالما وباحثا متخصصا ومفكرا في أعمال المؤتمر، وهذا التوجه مؤشر على الوعي الراشد لدى هذه القيادات حول حتمية ارتكاز أي تخطيط استراتيجي حقيقي على البحث العلمي المتخصص وعلى قاعدة التشبيك Networking واسع النطاق بين مراكز التفكير Think Tank والبحث العلمي والجامعات، وعلى أدوار المفكرين في صياغة الرؤى الفلسفية والقيمية للتوجهات الاستراتيجية القطاعية، ليهتدي القرار السياسي ويرشّد على هدي الجهد العلمي المتخصص. وبهذه التوجهات، ينزع هؤلاء القادة مشروع النهضة من أسار الفهومات التقليدية الجامدة للإسلام، ومن المزايدات الإيديولوجية، ليرسو على أسس العقل والعلم والقرار السياسي الاستراتيجي الراشد، وتبقى الدافعية المرجعية في الأمر كله، المقاصد العظمى للوحي تعبدا لله جلّ ذكره.
المخاطر والمهددات
لكن لا مجال للأوهام، فأصحاب المشروع يدركون تماما أن مشروعهم يعكس تحديا ضخما مزدوجا: تحدّي الوهن الشامل بأبعاده المأساوية في الأمة، وتحدي النظام العولمي الظالم الطاغي، وقد عبر هؤلاء القادة بوضوح تام عن رفضهم لهذا النظام وضرورة تخليص البشرية منه ببديل إنساني عادل، وهو ما يعني، على سبيل المثال، إلغاء نظام مجلس الأمن الدولي بصيغته الحالية وهيمنة الدول الكبرى عليه، وكما قال أردوغان “ليس من المعقول ترك مصير 1،7 مليار مسلم بيد مجلس الأمن الدولي”. هؤلاء القادة يعتبرون أن التعامل مع هذا التحدي المزدوج هو بمثابة ممرّ إجباري لا مناص من خوض معامعه، لكن عبر استراتيجية ثلاثية الأركان: التعددية (أي تعددية الأقطاب)، الحوار، الدبلوماسية.
غير أن أولى مؤشرات ردود فعل النظام العولمي على هذه المبادرة، هي الضغط على باكستان وأندونيسيا لعدم حضور قيادتهما لمؤتمر كوالا لامبور، فهل سيمكن قادة هذين البلدين من الانخراط لاحقا في التعاون مع هذه المبادرة؟ لا أحد يدري الآن. تبقى ملاحظة أخيرة تتعلق بإيران، التي حرص أصحاب المشروع على حضور الرئيس خاتمي تأكيدا على أهمية إيران كبلد إسلامي له وزنه ودوره في مشروع النهضة، وكان حضوره فرصة لتبليغ إيران رسالة مفادها أننا معكم ضد الحصار وحريصون على دوركم في بناء مستقبل المسلمين، لكن على أن تتخلى إيران عن سياسات التجييش والصراعات الطائفية وتبني سياسات تعاون حقيقية مع جيرانها الأقربين والأبعدين على أساس اليمان المشترك بكبريات حقائق الدين ومكارم أخلاقه ومقاصده العظمى وكفى بها لحمة مشتركة تسع الجميع بخصوصياتهم.