الفيلسوف الفرنسي ريمي براغ: عودة الدين مؤكدة..بقوة أكثر!
محمود عبد الغني 12/3/2018
الدين لم يذهب دون رجعة، كما نعتقد خاطئين، وعودته مؤكدة في مرحلة، وبقوة أكثر. وهنا لا بد من استعمال الكلمات الصحيحة، لا بد من مشروع فكري للتمييز بين ما يذهب ولا يعود، بل ويُدفن في ظلمة الزمن، وبين ما يذهب ويختبئ ثم يفاجئنا بعودة أقوى وأكثر رسوخاً، كما هو حال الدين، أي دين – هذا ما يؤكده الفيلسوف الفرنسي ريمي براغ، في سياق لقاء أجرته معه جريدة “لوفيغارو” الفرنسية بمناسبة صدور كتابه الجديد “حول الدين، ما الدين؟”. وهو عنوان عام كما لاحظت ذلك الصحافية يوجيني باستيي.
اختار براغ كلمة “دين” لأنه لم يجد لفظة أخرى تقوم مقامها وتؤدي معناها. وأضاف أنه استعملها في المفرد لأنه لو استعملها في الجمع – “الديانات”- فإن القارئ سيعتقد أنه يتحدث عن جميع الديانات، والحال أنه لم يتناول سوى الديانات التي يملك نحوها مدخلا لغويا مباشرًا: الديانات القديمة الإغريقية والرومانية، الإسلام، اليهودية والمسيحية. وترك جانبًا ديانات الهند والشرق الأقصى. والسؤال المركزي الذي يطرحه الفيلسوف الفرنسي هو هل هذه الظواهر التي يضعها الناس تحت اسم “الديني” لها علاقة بالديانات الأخرى؟ إن مفهوم الدين، بالمعنى الذي نستعمله اليوم، تم وضعه في القرن التاسع عشر لتعيين رؤية شاملة للحقيقة ومن طرف أناس يعتبرون الديانة المرجعية قبل كل شيء هي المسيحية. إن هذا التأثير المسيحي الأصل تم تطبيقه على ظواهر أخرى.
تسميات منافقة
أثارت الصحافية يوجيني باستيي مسألة تسمية الدين. فنحن نستعمل لفظة “دين” حتى لا نقول “إسلام”، مثلما كنا بالأمس نوظف “إيديولوجيا” اجتنابا لقول “شيوعية”. فهذا النفاق يخبئ أشياء كثيرة لا بد من الكشف عنها. وقد اعتبر ريمي براغ أن ذلك بعيد عن النفاق، لكنه قريب من الخوف. إذا كان أصحاب المقام الرفيع في الكنيسة، وصولا إلى البابا، قد رفضوا اتهام الشيوعية بوضوح، فذلك بسبب الخوف من الدبّابات السوفييتية، ومن الأحزاب الشيوعية في الشرق التي تكره المسيحيين. وإذا كنا اليوم نتحدث عن “الإرهابيين” دون الإشارة إلى الدين، فإن ذلك بسبب الخوف وليس لسبب آخر.
إنه لمن العماء وضع جميع الديانات في سلّة واحدة بهدف وضعها تحت نظام قيم واحد، فالحداثيون يعتبرون كل الديانات خاطئة، عنيفة…إلخ. ففي مسألة العنف، لا يمكن أن نضع في نفس المرتبة الديانات التي تقبل التضحية بالإنسان وتلك التي تعظ من أجل احترام الحياة في كل أشكالها. فلماذا نرفض المقارنة؟ لكن لا بد أن نفهم شيئًا في غاية الأهمية، يضيف براغ، وهو أن كل ديانة مفروض فيها أن تتأسس على مشروع إنساني. ولفهم ذلك جيدًا علينا فهم أصول معايير ذلك المشروع الإنساني. وذلك وحده ما يسمح للديانة بأن تساير المنطق الإنساني. وأعطى مثالا بالكنيسة التي لا تجبر أي مسيحي أن يتصرّف عكس وعيه. ورغم أن المسيحية تتخذ بعض القرارات المنافية للقيم الأخلاقية، غير أن ذلك يجرد المسيحي على فعل شيء ضد قناعته. وفي هذا السياق ذكر براغ نقاشًا دينيًا اعترض فيه الواعظ المصري طارق رمضان على الكاتب ورجل السياسة الفرنسي فيليب دي فيليي: “ماذا لو وُضعت أمام خيار بين المسيح والجمهورية؟” فأجاب دي فيليي: “أول شيء يطلبه مني المسيح هو احترام قوانين الجمهورية، في حدود أنها لا تعيق وعيي…”.
التطرف العلماني
عن موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مما دعاه “التطرف العلماني” الذي أصبح يتسم بنوع من الحدّة حسب توصيف البابا فرانسوا، رأى براغ أن بعضهم يرى في الغموض الجوهري لمفهوم العلمانية فرصة للمرور من المبدأ العلماني إلى تحقيق حلم “مجتمع علماني”. وهذا أمر يتّسم بالغرابة. وذلك معناه أن الدولة حين تتحول إلى كيان علماني فإنها تصبح محايدة من الناحية الدينية. في حين أن المجتمع الفرنسي ليس محايدًا دينيًا. لقد تم وضع العلمانية من أجل السماح للدولة بعدم التدخل في مجتمع مطبوع بالديني بشكل عميق. ليس من حقّ الدولة تفضيل ديانة على أخرى، ولا حتى إعطاء الامتياز للّاديني في مقابل الديني، أو العكس. لكن أن تطلب من المواطنين عزل الدين عن الحياة الخاصة فذلك ليس ممكنًا، بل ليس له أي معنى. فأن تطلب من مواطن ما عدم الإفصاح عن ديانته علنًا شبيه بأن تطلب منه إلغاء وجوده. الدين يؤثر بكل تأكيد على طريقة العيش. إنه ينظم الحياة الفردية حتى في البعد العام.
وعن قضية إدماج المسلمين في أوروبا داخل الفضاء الديني المسيحي، قال ريمي براغ إننا في هذه القضية بالذات تهيمن علينا أوهام كثيرة. إننا لا نفهم جيدًا كيف ينظر المسلم إلى المسيحية. إنه يحترم المسيحي الصادق أكثر من الملحد. فالمسلمون يعتبرون الإلحاد شيئا مخيفًا، لأن وجود الله أمر بديهي. وأعتقد أن توضيح مسألة من أين جئنا يمكن أن يبسط الأشياء ويساهم في الإدماج. وهنا قال براغ إنه يحبّ كثيرًا جملة كتبها بيير مانانت في “وضعية فرنسا”: “إنهم لا يدخلون مكانًا فارغًا، سيجدون مكانهم في عالم ممتلئ”. إن فرنسا تمتلك هوية وعدة أصول (يفضل كلمة أصول عن جذور)، وتاريخًا، وعدة ابتهالات ضد الجرائم، وأدبًا عظيمًا.
الدينيّ لم يعد، كان موجودًا دائمًا
عن مسألة “عودة الديني” قال إن الدين لم يغادرنا أبدًا. فهناك نادٍ من المثقفين الغربيين تخيّل أن الدين اختفى. ربما اختفى في “سانت- جيرمان- دي- بري” ربما، لكنهم لم يروا يقظة الإسلام والهندوسية و”الحريديم” (الخوف من الله) في إسرائيل. لقد أطلقوا “عودة الديني” على عودة الوضوح بعد عقود من العماء. قال عالم الاجتماع الأميركي بيتر. ل. بيرغر إن المثقفين في الغرب يسافرون من جامعة إلى جامعة، أي من جزيرة علمانية إلى جزيرة علمانية داخل أنابيب مغلقة. ويرون في الولايات المتحدة الأميركية شعبا من الهندوس يحكمهم سويديون، أي أغلبية متدينة، حتى لا نقول متعصبة، وأن نخبة واشنطن الملحدة هي “ليبرالية”. والاثنان لا يتواصلان.
المصدر: ضفة ثالثة – منبر ثقافي عربي –