كيف شاركت فرنسا في صياغة مشروع القانون-الإطار لإصلاح التعليم المغربي؟؟
إبراهيم الطالب
مدير عام جريدة السبيل وهوية بريس
هوية بريس
10 أبريل 2019 09:00
حتى نفهم الجدل الدائر حول مشروع القانون الإطار المتعلق بإصلاح التعليم لابد أن نلقي نظرة على الصراع التاريخي حول التعليم بين دعاة الفرنسة وخريجي مدارس البعثة الفرنسية من جهة، ودعاة مغربة التعليم والحفاظ على الهوية من جهة أخرى، فالموضوع نفسه مستمر في الزمان كما هو مستمر في المكان.
قال مهندس الاحتلال الفرنسي بالمغرب المارشال هيبير ليوطي: “أهم أعمالي في المغرب هو فتح الأراضي للاستعمار، وخلق التعاون بين الأهالي والأوربيين، وتشريك الأهالي في الوظائف العامة، وجعلهم يقبلون بتعليمنا ومناهجنا”(1).
وبعد 8 أعوام من فرض الحماية وبالتحديد في الثالث من دجنبر 1920م، ضَمَّن ليوطي في تقريره السري الموجه إلى حكومة بلاده سياسته في تعليم المغاربة قائلا: “وأما التعليم فبواسطته يمكن أن يتم العمل الأكثر عمقا، والأشد تأثيرا في تطور الفكر المغربي الجديد، وإن في هذا الميدان لشغلا كبيرا يلزم الاعتناء به حينا، لأنه أهمل غاية الإهمال، فبواسطة المدارس وحدها يمكننا أن نهيئ النخبة المتأهلة للمشاركة معنا، ونكوِّن العنصر الحي والأهم لموظفي الحماية”(2).
قطعا، بعد التأمل في هذه النقول ندرك أن “وليدات فرنسا” هم أولئك المغاربة المتفرنسون الذين قبلوا بالتعليم الفرنسي لغة ومنهجا، وتطوَّر الفكر لديهم وفق السياسة التعليمية الفرنسية، فهم يمارسون على الشعب المغربي اليوم نفوذا خاصا لقربهم من دوائر “نفوذ خاصة”، لأنهم النخبة التي أهلها الاحتلال للمشاركة في تسيير الشأن التعليمي.
إن نظام التعليم عندنا في المغرب ليست مشكلته في اللغة فقط، بل في ازدواجية نظام التعليم، وكأننا في دولتين وليس دولة واحدة مستقلة، وكيف يمكن الاستقلال بتعليم المغاربة ودولة أخرى تشارك الحكومة في تكوين الآلاف من أبنائنا في بِعثتها، التي تؤطر شبكة من المؤسسات التعليمية في بلادنا، يمثل فيها المغاربة أكبر عدد من التلاميذ المستفيدين من البعثات الفرنسية بالمقارنة مع باقي دول العالم الفرنكوفوني بأسره.
ومَن أراد أن يدرك دور البعثات الفرنسية فليقرأ بتمعن ما جاء في تقرير حول مستقبل التعلیم الفرنسي في الخارج؛ قدمته النائبة الفرنسیة “سامانتا كازبون”، وهي مدیرة سابقة لمدرسة فرنسیة بالمغرب، یوم 4 فبرایر 2019 إلى رئیس الوزراء الفرنسي، أوضحت فيه أن شبكة التعلیم الفرنسیة في الخارج هي “في خدمة فرنسا والشعب الفرنسي، الیوم وغدا”، وبطبيعة الحال البارحة أيضا.
علما أن عدد المغاربة المستفيدين من هذا النظام الدراسي الفرنسي يشكلون 49٪ مقابل 51٪ فقط من المستفيدين من أبناء الفرنسيين والأوروبيين المقيمين بالمغرب، مع التذكير أن مؤسسات هذه البعثة تعتمد في مناهجها التربوية والتعليمية وبرامجها ومقرراتها على المناهج والبرامج المعتمدة من طرف مؤسسات التعليم العمومي في فرنسا، وهذا طبيعي فأغلبها يتم تسييرها وتدبيرها من طرف وكالة التعليم الفرنسي بالخارج.
فإذا علمنا هذا، وأضفنا إليه أن أبناءنا المغاربة الذين يدرسون بالآلاف في شبكة مدارس البعثة الواسعة مثل ثانویة “لویس ماسینیون” وثانوية “ليوطي” في الدار البیضاء أو ثانویة “أندریه مالرو”، ومدارس ديكارت بالرباط، يخضعون لتكوين علماني صرف ولا تربطهم بدولتهم ولا بقومهم ولا بدينهم أية روابط، ثم يُتمون دراساتهم في جامعات فرنسا أو جامعات أوربا، فيرجعون إلى البلاد ليتم تسليمهم المناصب السامية في الوزارات والوكالات والمكاتب الوطنية، إذا علمنا هذا تبين لنا لماذا تتم عرقلة التعريب في الجامعات، وتبين لنا كذلك لماذا يتم النكوص على الأعقاب بخصوص هذا المشروع الحضاري والالتفاف عليه من خلال المسارب التي تضمَّنها مشروع القانون الإطار لإصلاح التعليم رقم 51.17.
فهل لنا أن ندرك عدد المغاربة المتفرنسين الذين صاغت عقولَهم وقناعاتهم هذه البعثةُ خلال أكثر من قرن من الزمن؟؟
فإذا أضفنا خريجي مؤسسات البعثة الفرنسية إلى خريجي مؤسسات التعليم الخاص المغربي التي تحمل طابع البعثة الفرنسية توافر لدينا جيش عرمرم من الموظفين والأطر والمدرسين الذين يؤطرون ويسيرون أغلب القطاعات الحيوية العمومية والشركات والمكاتب والوكالات الوطنية ومنهم أعضاء في المجالس والمؤسسات الدستورية؛ فكيف ننتظر من هؤلاء أن يدعموا سياسة التعريب وينتصروا لها وهم “وليدات فرنسا” شربوا لبانها، واعتنقوا ما يعتنقه أبناء وحفدة نابوليون وليوطي؟؟
ونتذكر في هذا السياق قول ليوطي الذي ذكرناه في المقدمة: “فبواسطة المدارس وحدها يمكننا أن نهيئ النخبة المتأهلة للمشاركة معنا، ونكوِّن العنصر الحي والأهم لموظفي الحماية”.
فطبيعي إذن أن تُشَكِّل هذه النخبة بعد كل هذه السنوات قوة كبرى تحمي مصالح فرنسا في المغرب؛ فهي اليوم من يطالب بفرنسة التعليم العمومي لاستكمال سياسة فرنسا التي ابتدأتها منذ بدايات الاحتلال، والتي جعلت لها أهدافا واضحة؛ فصَّلها وبيَّنها ليوطي في التقرير السري عندما قال: “والآن عندما نمرن النخبة على الاشتغال معنا، والاعتماد علينا، وعندما نضمن لأمانيها ومطامحها المشروعة مراكز مناسبة لتاريخها وتقاليدها واستعداداتها؛ سنكون أقل خوفا عليها من أن تتطور في اتجاه مخالف لما نريد، أو تخضع لمؤثرات خارجية وإيحاءات ثورية، ولن يكون هناك موجب للقلق من صدور الجرائد أو المجلات العربية الحرة، لكن تكون مسيَّرة من جانبنا ومراقبة منا، وهذا تطور لازم لا مفر منه، ولذلك ينبغي التمهيد له، مع الاعتراف بلزوم التحفظ التام والاحتياط العظيم لهذه النقطة”(3).
وبالرجوع إلى الواقع المغربي نجد فعلا أن هذه النخبة قد تم تسليمها ميادين الإعلام والثقافة والتعليم والاقتصاد والإدارة، ولذا فهذه القطاعات ممنوعة الدخول إلا على من يدين بالولاء لفرنسا وعلمانيتها وثقافتها، وينظر مسؤولوها إلى كل مغربي أصيل يرفع رأسا باللغة العربية والدين على أنه عدو ممنوع من تولي المناصب فيها؛ وفي بعض الأحيان يمنع حتى من ولوجها إذا كان سَمْته يشي بأنه متشبث بهويته ودينه، إذ يقومون بترسيبه في المباريات كإجراء إقصائي.
واستئناسا بسياسات القائد الفرنسي الكبير، المارشال ليوطي الذي يعتبره بعض الكتاب الفرنسيين “خالق المغرب”! وكذا ما جاء في تقرير النائبة البرلمانية المذكور، واستصحابا لحجم شبكة مدارس البعثة وخطرها على نظام التعليم المغربي، نقول: إن الصراع الدائر حول مشروع القانون الإطار 51.17، هو بين طرفين، طرف يريد إجبار المغاربة على القبول بتعليم فرنسا لأبنائنا وفرض منهجها في القطاع الأكثر حساسية في حياتهم، ليستمر نفوذها في المغرب من خلالهم؛ وطرف آخر من الممانعين الرافضين لهذا التحكم الغاشم في مصائر أبنائنا ومستقبل بلادهم ويمثلون استمرارية لآبائهم المخلصين الذين سجنوا وقتلوا وعذبوا من طرف السلطات الفرنسية المحتلة لرفضهم لسياستها في الهيمنة على دنيا المغاربة ودينهم.
إن قضية لغة التدريس ما كانت لتخلق مشكلة في هذا الموضوع، إذ كان حريا بالمسؤولين على هذا الملف أن يفرغوا الجهد الأكبر في بحث جوانب التنزيل للرؤى والقوانين، وتحديد الآليات القمينة بتنفيذ سالم من الأعطاب، ودراسة الشروط التي يتطلبها إصلاح التعليم، الذي يعتبر أس العوائق التي تحول دون نهضة البلاد.
إن خطورة اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس لا يمكن أن يجادل فيها اثنان لولا ضعف الانتماء إلى الدين والهوية لدى “وليدات ليوطي”، فهذا أبوهم الروحي يوضح أهمية اللغة في صياغة القناعات والأنفس، في خطبة له ألقاها على الفرنسيين في 1914م بالدار البيضاء تضَمَّنت عدة مسائل وكان من بينها “مسألة تعليم الأهالي” ومما جاء في كلام المقيم العام هذه الفقرة: “كان لازما من جهة إعداد معلمين للناشئات الأوربية المتزايدة، ومن جهة أخرى يلزم فتح مدارس للأهالي رغبة في خلق رابطة بيننا وبينهم عن طريق اللغة التي هي ناقلة للأفكار، والسماد القوي لأعمال التقدم والتمدين الواجبة علينا“(4).
فمن خلال دراسة هذا النص التاريخي يتبين لنا أن اعتماد اللغة الفرنسية كان له المكانة العظمى في المشروع الفرنسي الإمبريالي، الذي حاولت من خلاله الدولة الغازية أن تمسخ هويتنا عن طريق لغتها، فكيف نبقي عليها اليوم لتتحكم في مقررات تعليمنا العمومي؟ بل كيف -وبعد هذا كله- يتم اختيارها لغة للتدريسبدل اللغة العربية في القانون الإطار؟
إن ما سبق من حقائق ومعطيات لا يترك مجالا للشك في أن هذا الأمر هو مفروض من طرف رعاة المصالح الثقافية والاقتصادية لدولة فرنسا. فمطالب الفرونكفونيين اليوم هي مطالب مشبوهة، بالنظر إلى السياق التاريخي الذي بيناه، والحقائق الواقعية لوظائف التعليم الفرنسي بالمغرب، خصوصا أنهذه المطالب ليست مدعومة بمعطيات فرضتها الدراسة البحثية التقييمية للاحتياجات الضرورية للمغاربة في مجال التعليم، علما أن كل الدول التي تقدمت إنما تقدمت بلغتها الأم.
من هنا فَرَفضنا لمطالب وليدات فرنسا ليس لأننا ضد اللغات الأجنبية، فالاطلاع عليها وإتقانها كلغات هو جزء من التكوين الثقافي للشعب، ولكن نرفضها لأن سياسة اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس هو إعادة صياغة الأجيال وفق مصالح فرنسا التي تعتبر هي نفسها لغتها الفرنسية ناقلة للأفكار، أي حاملة لقناعات وثقافة معينة، وسمادا قويا لأعمال التقدم والتمدين، أي أنها فاصلة في مشروع النهضة والتقدم.
أما إذا تم تبني مشروع القانون-الإطار، فستكون فرنسا بالاستناد لما سبق هي من قام بصياغته وليس الحكومة المغربية.
فلا يمكن لعاقل أن يفصل بين الجدل حول لغة التدريس ومستقبل الأمة المغربية، ومشروع فرنسا في الإبقاء على هيمنتها الثقافية في مستعمراتها السابقة.
من هنا نطالب المسؤولين في هذه البلاد الذين لا يزالون ينظرون إلى اللغة العربية مقوما من مقومات الهوية، أن يقفوا ضد انتهاك حق الشعب المغربي في الاستقلال اللغوي، وأن يعيدوا النظر في تغول الحضور الثقافي واللغوي الفرنسي في البلاد.
أما المغاربة الغيورون الواعون بخطورة القضية، فعليهم أن يستميتوا في الدفاع، وإن اقتضى الأمر “بلوكاجا” سياسيا، وإيقافا للمحراث، ووضعا للمفاتيح فوق طاولة المجلس الحكومي الطويلة، فهم من ينوبون عن المغاربة على مستوى القرار، وعليهم أن يتحملوا المسؤولية أمام الله ثم أمام التاريخ وأمام الناس.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) و(4) نقلا عن تقرير للشيخ الناصري رحمه الله، مراكش بين الحماية والحكم المباشر كتبه في 1930م.
(2) و(3) موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية، ص49-50، نشر حركة الوحدة المغربية 1335هـ-1946م؛ مطبعة الوحدة المغربية تطوان.
ولا حتى كلمة أو إشارة إلى الأمازيغية.