نظرات في دلالات النزعة المقاصدية عند الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الريسوني
أ. محمد الحبيب الدكالي
15/01/2018
هذه ليست ورقة علمية، فأنا لست متخصصا في العلوم الدينية، ولكنها محاولة سريعة لقراءة شخصية لجوانب معينة أحسب أنها مهمة بالنسبة لمن أراد أن يدرس مراحل التطور الفكري والعلمي عند الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الريسوني. هذه القراءة الشخصية هي في أصلها ناجمة عن علاقة أخوة ومحبة امتدت على مدى خمسين عاما بالتمام والكمال، وتحديدا منذ هزيمة 1967 التي زلزلت العالمين العربي والإسلامي، وعصفت بأنظمة ونخب وإيديولوجيات سادت لوقت قصير ثم بادت بسرعة.
لقد أثّرت هذه الهزيمة بشكل عميق في وجدان وعقل الشيخ الريسوني الذي لم يجاوز السادسة عشرة من عمره آنذاك حيث ساد لدى الشعوب العربية شعور بالمهانة والذلّ. لكن بعدها مباشرة صعد نجم حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” وقيادتها للثورة الفلسطينية الثانية، فكان في هذا الصعود تنفيس كبير شكّل أملا عريضا في التحرر من سطوة الاستعمار والصهيونية. كان لزاما في هذا السياق أن ينحو الشيخ الريسوني في اتجاه ثوري كان يرى أن أصل الداء والبلاء إنما هي الأنظمة السياسية العربية الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والصهيونية.
لكن هذا النفس الثوري، الذي لن ينطفئ في الحقيقة أبدا عند الشيخ الريسوني، تهذّب مع التأثيرات المباركة لجماعة التبليغ المعروفة بحسن التعبد والنزول بالدعوة العامة إلى الشوارع. وسينضبط النفس الثوري عنده بشكل متسارع مع القراءات الثرية لتراث وفكر فئة عريضة من رموز الفكر والدعوة المحدثين والمعاصرين في العالم العربي والإسلامي، ثم لتبلغ الرؤية لأوضاع الأمة أوج نضجها مع إعادة الاعتبار لفقه المقاصد والعمل على بسطه كرؤية تجديدية عميقة، ثم استوت هذه الرؤية على سوقها مع اكتمال نظرية التقريب والتغليب، وهي ليست رؤية إصلاحية سكونية مهادنة، بل إصلاحية ثورية.
إن بيت القصيد عندي هنا، هو قراءة ثلاثية الأبعاد لسيرة الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الريسوني ولإنتاجه العلمي، فهو ليس إنتاجا علميا شرعيا وحسب، بل هو توليفة عميقة بين الفكري والشرعي وفقه الواقع بما فيه الفقه السياسي. ولا أعتقد أن إنتاجه العلمي هو مجرد دراسات نظرية وتنظيرية في قضايا أساسية في المنهجية الإسلامية وفي قضايا ومشكلات الواقع، بل أحسب أن الرجل كان يريد دائما، ولا يزال، توجيه رسائل بالغة الأهمية لكل من أراد أن يتفكر في سبل وكيفيات حل مشكلات مجتمعات الأمة الاسلامية المستعصية، وهذه الرسائل تتطلب يقظة وانتباها.
فقه الواقع قرين فقه الدين
كان فقه الواقع دائما عند الشيخ الريسوني هو نقطة الانطلاق ومحور الاهتمام في رؤيته التأصيلية للمسألة المقاصدية وفي النظر الفقهي عامة عنده، فالواقع كان دائما هو مصدر تعريف الإشكاليات والمشكلات في البحث العلمي لديه. ولا أحسب أن البحث في العلوم الشرعية النظرية كان يشكّل لديه هدفا في حد ذاته، بل كان تفقّهه في الدين لصيقا بشكل لا ينفصم عنده بفقه الواقع، ومقصده النهائي هو تبيان كيفيات تنزيل مقاصد الدين بمراتبها في هذا الواقع، وهذه هي إحدى السّمات الفارقة التي تميز سيرة وتجارب الشيخ الريسوني وسط إغراق شائع في الجوانب النظرية التي لا تعبأ عادة بهذه المعضلة المنهجية.
ومع إدراكه المتزايد عبر السنين لحالة الانسداد التي يعاني منها فقه الدين عند المسلمين بأشكاله وموضوعاته وإشكالياته المنهجية، ولعجز أصحاب هذا الفقه حتى عن مجرد فهم الواقع فهما صحيحا، وعدم القدرة على اقتراح وصياغة الحلول، فقد أدرك الشيخ الريسوني كذلك أنه لا بد من إعادة النظر في منهجية فهم الدين نفسه كشرط لفهم الطبيعة العميقة للمشكلات الكبرى التي تعاني منها الأمة. لقد صاغ نظرية التقريب والتغليب كأدوات منهجية تساعد على مقاربة مشكلات الواقع وتقديرها من زاوية النظر الشرعي من جهة، ولإيجاد المنهجيات المناسبة لتنزيل الأحكام الشرعية في الواقع المعيّن عند التفكير في حل المشكلات الخطيرة التي تعاني منها مجتمعاتنا. لكن من يتلقّف هذه الأدوات ويشتغل بها في مجالات الواقع ومشكلاته التي لا حصر لها؟
أحسب أن طرح العلاقة بين فقهي الدين والواقع التي حفلت بها كتبه شكّلت إحدى أهم الرسائل التي أراد الشيخ الريسوني أن يوجهها للعلماء وللباحثين المتخصصين في العلوم الدينية وللنخب الثقافية والفكرية عموما. ويمكننا مثلا أن نلاحظ هذا الهمّ السامي لديه في وقت مبكر عندما تنبّه إلى آفات العمل الدعوي وسبل علاجها، وفي محاضراته حول مسألة المرأة، والانتخابات والعمل السياسي وغيرها.
عالم فقيه أم مفكّر؟
ضمن نفس الرؤية المهمومة بمشكلات الواقع دائما، تبرز في كتابات الشيخ الريسوني الاهتمامات الفكرية والسياسية، عبر عديد من الكتب والمحاضرات والمقالات. هذه الاهتمامات الفكرية والسياسية في قضايا حيوية كقضايا الديموقراطية وحرية التعبير والفن على سبيل المثال، هي غير منفصلة عنده عن المرجعية القيمية والمقاصدية من حيث تأصيل المفاهيم الأساسية لهذه القضايا، لكن يبقى للجدل العقلي مساحة كبيرة في طريقة تفكير الشيخ الريسوني تجاه تلك القضايا تحليلا وتركيبا.
ويعكس تطور موقفه من الديموقراطية كقواعد وكأدوات وآليات لتدبير الحياة السياسية نموذجا ذا معنى للانفتاح الفكري على التجارب الإنسانية، عندما لا يسعفنا الإرث الفقهي في الاستجابة لعدد من الاحتياجات الحيوية للمجتمع والدولة وما أكثرها. ومرة أخرى نستشف من كتاباته في القضايا الفكرية والسياسية الحضور الدائم لقضايا ومشكلات الواقع في تفكير الرجل، فلا نجد موضوعا طرقه إلا وكانت هذه القضايا والمشكلات حاضرة بعيني النظر الشرعي والعقلي معا.
وعليه، فالرسالة الثانية الكبيرة المعنى التي يوجهها الشيخ الريسوني هي أن المصلحة كل المصلحة في الانفتاح العلمي والثقافي على التجارب الإنسانية الناجحة، وأن البحث عن حلول لمشكلات الواقع في التراث الفقهي لوحده لا يمكن أن يكون كافيا.
التجديد الشامل مقابل الانحطاط الشامل
هذه هي الرسالة المهمّة الثالثة التي يبعثها الشيخ الريسوني للعلماء والنخب. ومرة أخرى يحضر الواقع بأبعاده الشاملة في النظر والتحليل عند العالم الفقيه والمفكر. وهو بهذا التذكير بالأوضاع المخيفة التي تعيشها مجتمعاتنا ودولنا بانحطاط أخلاقها وتعليمها واقتصادها وأنظمتها السياسية وبحثها العلمي وثقافتها وفنونها، يلوّح بالحقيقة القائلة ألاّ نهضة إلاّ بالتجديد “في كل شيء تقريبا” حسب تعبيره، وهذا ما أقصده بالمنحى الثوري عند الشيخ الريسوني. والتجديد بهذا المعنى الشمولي يعني عنده أيضا، وهذا أمر بالغ الأهمية، حشد جهود العلماء والمفكرين والخبراء المتخصصين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات الحكومية، للعمل الجماعي لتحقيق متطلبات “التجديد الشامل” في المجالات كلها، متطلّبات في التشخيص العلمي المتخصص، وفي تحديد الأهداف القابلة للتنفيذ والقياس، وفي تصميم الاستراتيجيات والبرامج وصولا إلى المشاريع، وفي بناء قدرات المجتمع المعرفية والمهاراتية، وفي تصميم أنظمة المتابعة والتقييم للتقويم.
إن المشكلات الخطيرة المزمنة التي تعيشها مجتمعاتنا ودولنا لا يمكن أن تنفع فيها الفتاوى الفردية ولا الجماعية، وما أكثرها الآن، ولا النظري التنظيري المنبتّ عن الواقع من جهود البحث مهما كثرت، ولا تقليب النظر فيما قاله الأولون حول مشكلات وقضايا أزمنتهم والتي تكاد تكون غير ذات صلة بالمعضلات الكبيرة في واقعنا الحالي وما سيستقبل منه، وهذا ما جعل الشيخ الريسوني يتساءل بألم في إحدى مقالاته ” ثم ماذا بعد؟”، أي ماذا بعد الاجترار الذي لا يكلّ ولا يملّ من البحث النظري في التراث الفقهي.
إن التحدي الأكبر الذي يواجهه العقل الفقهي المعاصر هي قدرته على الانخراط في حلّ مشكلات الواقع على الأرض، ولا سبيل للعقل الفقهي أن يقوم بهذه المهام التاريخية بمجرد النظر الفقهي، فالمشكلات والظواهر معقدة جدا وتتجاوز بما لا يحصى مجالات اهتمام الإرث الفقهي. ومن غير المحتمل إيجاد حلول للانحطاط الشامل من دون حشد قدرات المعرفة والخبرة عبر التنسيق والتكامل بين النظر الفقهي وخبرات التخصص وأدوار المؤسسات. أما السؤال: كيف؟ فهذا موضوع غني وفيه سبل وفجاج وصيغ منهجية وعلمية واسعة لمن أراد أن يذّكر أو أراد جهادا مجيدا.
وبالعودة إلى رسائل الشيخ الريسوني الظاهرة والمضمرة في سيرته العلمية والفكرية والسياسية، لا مناص من ترجمتها إلى عدد من الأسئلة التي تتطلب إجابة شاملة وعميقة من قبل أهل الاختصاص:
- إلى متى ستستمر جهود النظر الفقهي في إنتاج وإعادة إنتاج ما سبق إنتاجه وبدون أن يجد كل ذلك سبيلا لا إلى حلّ مشكلات كائنة ولا لإيجاد البدائل؟
- إلى متى سيستمر الانفصام قائما بين فقهي الدين والواقع كحوار الصّمّ؟ وما هي سبل ردم الهوة بينهما وكيف؟
- متى يرفع التوجّس المصطنع تجاه التجارب الإنسانية الناجحة والمساعدة على إيجاد الحلول والبدائل ويصبح الانفتاح الثقافي على العالمين مصدر خير وبركة بدل الرّهاب السائد منه؟
- متى وكيف يتحول الجهد الجماعي للعلماء والخبراء والمؤسسات المجتمعية والعلمية والحكومية إلى استراتيجيات عمل وإلى قوة اقتراحية قابلة للتصريف على الأرض؟
أحسب أن السيرة العلمية والفكرية والسياسية للشيخ الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني إنما تعكس محاولات جادة للإجابة على هذه الأسئلة.
الأستاذ محمد الدكالي. ولد بالمغرب سنة 1952 ودرس العلوم الإدارية ثم الدراسات العليا في التهيئة والتعمير. قضى أربعين عاما في العمل المدني التطوعي، عشرون منها في العمل الإنساني والتنمية مع منظمات غير حكومية دولية في معظم بلدان إفريقيا والعالم العربي وفي البلقان وباكستان وإندونيسيا، واشتغل في مجال التمكين الاقتصادي للفقراء والشباب في ليبيا واليمن. كما عمل خبيرا في التنمية الدولية في وزارة الخارجية القطرية، ومستشارا في الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني في المملكة المغربية ومستشارا لمؤسسة القدس الدولية. شارك في بناء قدرات منظمات المجتمع المدني في عدد من البلدان العربية وصدرت له دراسة بعنوان “العلاقات الأفغانية-السوفياتية بين 1918 و1988” وكتاب بعنوان “المجتمع المدني ومقاصد الشريعة: إشكاليات المرجعية والتنزيل” .
المصدر: مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق