حفظ الأبدان في الإسلام: عناية شديدة ووقاية بعيدة
حفظ الأبدان في الإسلام: عناية شديدة ووقاية بعيدة
من حسنات وباء “كورونا” أنه جعل عامة الناس يعيدون النظر فيما يهمهم ويشغلهم، وفيما ينفعهم ويضرهم، ويتخلصون من عدة زوائد في حياتهم، ويعيدون التقييم والترتيب لكثير من مبادئهم وأنماط حياتهم..
ومن أهم ما استفدته من هذه المراجعات الإجبارية، أنني ازددت اكتشافا وفهما وتقديرا لعدد من القيم والمبادئ والتشريعات الإسلامية. ومن ذلك هذه العناية الشديدة والوقاية البعيدة لحفظ الأبدان والصحة العامة، وحصيلة ذلك في هذه الومضات السريعة..
اتفقت كلمة العلماء على أن مدار الشريعة – بكافة أحكامها ومقاصدها – هو العمل على حفظ الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. قال الإمام الغزالي رحمه الله: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصولِ الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفَوِّت هذه الأصولَ فهو مفسدة ودفعه مصلحة».
ويلخص بعض علمائنا رسالة الإسلام ومقاصدَ شريعته بعبارة أكثر إيجازا واكتنازا، هي: (حفظ الأديان وحفظ الأبدان).
وحفظ الأبدان – بهذا المعنى الجامع – يغطي مساحة شاسعة من الأحكام والقيَم والآداب الشرعية، ويستوعب حفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل؛ لأنها كلَّها مندرجةٌ فيه. وإذا كان الشطر الأهم من الشريعة ومقاصدها هو ذاك المتكفل بحفظ الأديان، فإن الشطر الأكبر منها مخصص لحفظ الأبدان:
فالطهارات الشرعية، المتكررة الدائمة؛ من وضوء، واستنجاء، واغتسال، واستياك، وحفاظ على سنن الفطرة العشر، كلُّها شرعت أساسا لحفظ الأبدان.. وهذا الغرض صريح في النصوص الشرعية مثلِ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” [المائدة: 6].
ومن أوائل الآيات نزولا قولُه تعالى: “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ” [المدثر: 1 – 5].
ومَن تدبر النصوص والأحكام والآداب الشرعية الواردة في النظافة والتطهير، للأبدان، وللبيئة المحيطة بها، لا يخالجه شك في أن هذه إحدى ميزات الإسلام وخصائصه العامة. وقد صدق من قال: “النظافة من الإيمان”. وأقوى منه وأبلغ قوله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهور شطر الإيمان». فإذا كان مجرد الطُّهور (أي الوضوء) شطرَ الإيمان، فكيف بكل ما سواه من الطهارات والتوجيهات والتدابير الصحية..!
وتأملوا هذا الأثر الذي يعكس مدى أهمية النظافة البيئية في وجدان سيدنا عمر وسياسته. ففي (مجمع الزوائد) للهيثمي و(مصنَّف بن أبي شيبة)، عن ابن سيرين قال: لَمَّا قَدِم أبو موسى الأشعريُّ البصرةَ قال لأهلها: “إن أمير المؤمنين بعثني إليكم أعلمكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم”.
وأعمال العباداتِ الأركانِ، لا يكاد شيء منها يخلو من حفظٍ للأبدان؛ كالصلاة والصيام والحج والسير إلى المساجد..
ورُخَص العبادات كلها أيضا موجهة لحفظ الأبدان؛ كالتيمم للمرض، والصلاةِ بحسب الاستطاعة، والإفطار في رمضان، ورخص الحج..
والمحرمات والمكروهات من الأطعمة والأشربة، إنما هي حفظ للأبدان. ويدخل فيها تحريم الخمر والمخدرات، والسموم والنجاسات، وسائر القاذورات.
وكذلك النهيُ عن الإسراف في الأكل والشرب، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف: 31]. وقال بعض العلماء : قد جمع الله تعالى الطب في نصف آية من كتابنا؛ في قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).
وآداب الطعام والشراب كلها عبارة عن قواعد للسلوك الصحي..
والمحظورات من الممارسات والعلاقات الجنسية كلها حفظ للأبدان وحفظ للنسل؛ كالزنى، والشذوذ الجنسي، ولجماع في الحيض.. “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” [البقرة: 222]
وفي العقوبات الشرعية حفظ للأبدان:
“وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون” [البقرة: 179]
“وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” [المائدة: 45].
وهكذا حيثما نظرنا في الشريعة وأصولها وقواعدها وآدابها، وفي أي باب من أبوابها، إلا وتبين لنا أن حفظ الأبدان من مقاصدها الكلية ومراميها العلية، “فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ” [الحشر: 2]