صبغةَ الله ومنَ احسنُ مِن الله صبغةً
مقال قديم متجدد..
صبغةَ الله ومنَ احسنُ مِن الله صبغةً
أحمد الريسوني
نشر في جريدة التجديد يوم 08 – 07 – 2009))
عنوان هذا المقال هو جزء من آية كريمة من سورة البقرة. وأما تمامُ الآية وسياقُها فهو قوله جل وعلا: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والاسباطِ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغةَ الله ومنَ احسنُ مِن الله صبغةً ونحن له عابدون) البقرة 134/137
والصبغة كلمة متداولة مفهومة، يعبر بـها عن سمة الشيء وطبيعته، أو طابعه ولونه المميز له. فيقال مثلا: هذا اللقاء يكتسي صبغة تواصلية، وليس له صبغة رسمية. ويقال: هذا الكتاب يكتسي صبغة أدبية، أو صبغة تاريخية…، وهذه الأحداث تكتسي صبغة سياسية. فالصبغة هي الطابع العام المميِّـز. ولفظ صِـبغة على وزن فِعلة ـ بكسر الفاء ـ هو اسم هيئة على وزن جِـلسة. فالصبغة تفيد الهيئة والحالة التي صُـبغ عليها شخص ما أو شيء ما
صبغة الله.. ماهي؟
صبغة الله المذكورة في الآية مراد بها الصبغة المعنوية التي أضفاها الله تعالى على عباده، بما فطره فيهم، وبما شرعه لهم. وهي السمة العامة الثابتة التي يكتسيها المسلم ويتلون بها، بسبب دخوله في الإسلام وظهور آثاره عليه. قال القرطبي: “صبغةَ الله، أي صبغةُ الله أحسنُ صبغة؛ وهي الإسلام. فسُمي الدينُ صبغة استعارة ومجازا، من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب” – الجامع لأحكام القرآن 2/114
ويرى عامة المفسرين أن في هذا التعبير القرآني ردا ضمنيا على ما يعتقده ويفعله اليهود والنصارى، من أن الشخص عندهم يصبح يهوديا أو نصرانيا بمجرد تغميسه وصبغه في ماء معين، وهو ما يسمونه بالتعميد… والرد عليهم مفاده أن الصبغة الدينية الحقيقية التي هي صبغة الله، إنما تتحقق بالصفات الاعتقادية في القلب، والصفات العملية في السلوك، لا بمجرد التعميد بالماء أو نحوِه من الشكليات.
فصبغة الله ـ كما يتضح في سياق الآية ـ تتمثل أولا في الإيمان بجميع رسله وأنبيائه وبما أُرسلوا به، دون تفريق بينهم ولا استثناء لأحد منهم. وتتمثل ثانيا في الانقياد الفعلي لله تعالى في شرعه وأحكامه: (ونحن له مسلمون) (ونحن له عابدون).
وعموما فإن صبغة الله هي الصفات والمعالم التي يحدثها الدين في المتدين ويضفيها على سلوكه وشخصيته. وبما أن صبغة الله هي أحسن صبغةٍ يمكن أن يصطبغ الناس بها، (صبغةَ الله ومنَ احسنُ مِن الله صبغةً)، فهي بدون شك الصبغةُ الأكثر ثباتا ودواما، والأقدر على مقاومة ما تتعرض له من عوامل التغير والتآكل والاندثار. ولكن هذا الامتياز لا ينفي إمكانية تأثر الصبغة الإسلامية لأي مسلم بمختلف العوامل والمؤثرات والضغوط السلبية التي تحيط بحياته. وكما يحصل في الصباغة المادية، حيث يكون صمودها ودوامها على قدر جودتها ومتانتها من جهة، وعلى قدر ما ينالها من عوامل التغيير والإتلاف، أو من أسباب الوقاية والصيانة من جهة أخرى، فإن الصباغة المعنوية الخُلقية أيضا يكون ثباتها ودوامها على قدر أصالتها وقوتها من جهة، وعلى قدر ما ينالها من عوامل الإتلاف والطمس والتعرية، أو من عوامل الحفظ والتجديد والترقية.
وإن أخطر أنواع التأثيرات والتغييرات السلبية التي تصيبنا هي تلك التي تحدث في حياتنا وصفاتنا أو تتسلل إليها بشكل متدرج بطيء وهادئ، فلا نكاد نلمحها أو نأبَـهُ لها إلا بعد أن تقطع شوطا بعيدا، أو بعد أن تتحول إلى تطور نوعي بارز. ومن هنا كان واجبا على كل من يتشرَّفَ ويعتز بنيل (صبغة الله)، أن يكون دائم التفقد لهذه الصبغة حريصا على استدامتها وتقويتها، قيما على وقايتها من عوامل التغير والتلف.
العناصر الأساسية لصبغة الله
مما لا شك فيه أن العناصر الأساسية التي تتشكل منها وتتجلى فيها (صبغة الله)، هي عناصر أصيلة مديدة متجددة على مر العصور، فهي تمثل الثوابت المشتركة المتواصلة بين الرسل والرسالات. ولذلك جاء في سياق ذكر صبغة الله قولُه تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والاسباطِ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون). وهذا الميراث المشترك بين الأنبياء هو المشار إليه في قوله سبحانه: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيهب) الشورى: 13.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: “المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا، يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع، وهي التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلفُ بما يرُدُّ القلب والجارحة إليه، والصدقُ، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتلِ، والإذايةِ للخلق كيفما تصرفت، والاعتداءِ على الحيوانات كيفما كان، واقتحامِ الدناءات وما يعود بخرم المروءات… فهذا كله شُرِعَ دينا واحدًا وملة متحدة، لم يختلف على ألسنة الأنبياء” – أحكام القرآن 4 / 89 ـ 90
ومن ذلك ما تضمنه قوله سبحانه (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّئِينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ) الأحزاب: 8. فالميثاق الغليظ المأخوذ على كافة الأنبياء ـ ومن تبعهم ـ هو الصدق في قول الحق والتمسكِ به في جميع الأحوال. قال ابن عاشور في تفسير الآية: “وهذا الميثاق مجمل هنا، بينته آيات كثيرة، وجِماعها: أن يقولوا الحق ويُبلِّغوا ما أُمروا به، دون ملاينة للكافرين والمنافقين ولا خشيةٍ منهم، ولا مجاراةٍ للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم” اهـ.
وخلاصة الأمر أن صبغة الله تتمثل في ثلاثة عناصر جامعة هي: الإيمان، والعبادات، والأخلاق. والإيمان هنا يعني استحضار معية الله تعالى واستحضارَ أسمائه وصفاته، لكي تظل هذه وتلك مخيمة على المؤمن تُظله وتُـمِده، وتلهمه وترشده، في سرائه وضرائه، وفي رضاه وسخطه، وفي نجاحه وفشله… والإيمان يعني كذلك استحضارَ الرسل والأنبياء واستلهام هديهم وسيرتهم، ويعني الاستحضارَ الدائم لليوم الآخر ومتطلباتِه وموازينه وتبعاته…
وأما العبادات فتعني ـ فيما تعنيه ـ دوام التوجه إلى الله والشكرِ لآلائه، ودوامَ الارتباط به والافتقار إليه… وهي تعني أن هذا الموقف لا يتغير ولا يقبل التغيير.
وأما الأخلاق فتشمل كل ما تقدم في كلام ابن العربي.. وتعني بصفة خاصة أن صبغتنا الخُلقية يجب ان تكون ثابتة على العهد والوفاء، لا تتغير من الصباح إلى المساء، ولا من الصيف إلى الشتاء، ولا تتلون كتلون الحرباء. وإن من وفائنا وتمسكنا بصبغة الله، أن نكون دوما على بصيرة من أحوالنا مع مبادئنا وأخلاقنا، لنرصد بكل يقظة وحزم، كل تغير أو تلون قد يؤثر على صبغتنا الإسلامية ويدحرجها ويخرجها عن طبيعتها.
وإذا كنا اليوم نستهجن ظاهرة السياسيين والمنتخبين “الرُّحل”، الذين يرحلون عن أحزابهم ومنظماتهم طلبا للماء والكلأ، فلنستهجن كذلك تصرف الذين يرحلون عن كريم صفاتهم وأخلاقهم، حتى لو مكثوا في أحزابهم ومنظماتهم.
القرآن يحذر من التبديل والتغيير
لقد جاء القرآن الكريم بالثناء على أهل الصدق والثبات، الذين لا يغيرون مبادئهم ولا يتنكرون لعهودهم وعزائمهم، كما في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلً} [الأحزاب: 23] الأحزاب33
والتبديل والتغيير لصبغة الشرع ولبعض أحكامه، قد يكون هدفا يطلبه منا أو يشترطه علينا بعض المخالفين والمخلَّفين. وقد فعله أسلافهم حتى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وإذا تتلى عليهمُ آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ايت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون ليَ اَن ابدله من تلقاء نفسي إنَ اتبع إلا ما يوحى إلي إنيَ أخاف إن عصَيت ربي عذاب يوم عظيم) / يونس15 (سيقول المخلفون إذا انطلقتمُ إلى مغانم لتاخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله …) الفتح 15
والجواب الدائم على أمثال هذه الدعوات والتمنيات هو قوله عز مِن قائل: (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) / الأنعام116. فما كان مضمونه صدقا وعدلا لا يجوز فيه التبديل أبدا…
التغيير المقبول والتغيير المرفوض
إذا كانت المحافظة على صبغة الله تعني الاستمرارية والثبات على مبادئَ وصفاتٍ معينة، فهي لا تعني أبدا التحجرَ والنمطية، ورفضَ التغير أو التطور أو عدم القدرة على التأقلم. فمسلكنا هو الجمع بين الحسنتين، حسنة الثبات على الثوابت، وحسنة التغيير والتطوير في المتغيرات. فالثبات مع الثوابت، والتغير مع المتغيرات، كلاهما من صبغة الله. على أن التمييز بين هذه وتلك ـ أي بين ما يدخل في الثوابت فلا يقبل التغيير والتبديل، وما هو داخل في المتغيرات الخاضعة للمراجعة والملاءمة ـ ليس دائما عملا ميسورا واختيارا واضحا، بل هناك حالات كثيرة يقع فيها التشابه والالتباس، ويحتاج تمييزها إلى جهد جهيد ونظر سديد. فهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم (… وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس …) ولأجل فك الاشتباه ورفع الالتباس عن الحالات التي تدخل في هذا الصنف، شُرع لنا الاجتهاد والتشاور والعمل بالترجيح… وقد ابتكر علماؤنا منذ القديم علما طريفا سمَّوْه علم الفروق، يهتمون فيه بتوضيح الفروق بين المسائل والأفعال والألفاظ المشتبهة، التي تلتبس معانيها وأحكامها على الناس، وحتى على بعض العلماء. وعن هذا العلم يقول جلال الدين السيوطي: “إنه الفن الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصورا ومعنى، المختلفة حكما وعلة”. ويقول عنه الشيخ محمد الفاذاني (الإندونيسي): “هو معرفة الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين، بحيث لا يسوَّى بينهما في الحكم”. وقال الدكتور يعقوب الباحسين في تعريفه لعلم الفروق: “هو العلم الذي يُبحث فيه عن وجوه الاختلاف وأسبابها، بين المسائل الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم …” ـ انظر: (الفروق الفقهية والأصولية للدكتور يعقوب الباحسين ـ ص23 وما بعدها).
وقد ألف في علم الفروق عدد من علماء اللغة والفقه والأصول وغيرهم. ولعل أنفس ما كتب في هذا الباب هو الكتاب الشهير باسم (الفروق)، للفقيه المالكي شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي، المعروف بالقرافي. ونحن اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى علم الفروق، نظرا لشدة التشابك والتشابه والالتباس بين القضايا وما تتطلبه من مواقف وأحكام وحلول. نحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين ما هو متغير وما هو ثابت لا يقبل التغيير… ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين الأمور التي تقبل التساهل والتنازل، والأخرى التي لا تقبل شيئا من ذلك… ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين ما هو من قبيل المقاصد المطلوبة لذاتها، وما هو من قبيل الوسائل المحتملة للتغيير والتطوير والاستبدال … ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين المصالح والمفاسد الحقيقية، والأخرى الوهمية. ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين المصالح والمفاسد الجوهرية، والأخرى الشكلية. ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين المصالح الراجحة والمصالح المرجوحة. ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين المداراة الجائزة والمداهنة المحرمة… ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين التبديل بالذي هو أدنى والتبديل بالذي هو أعلى. ونحن بحاجة إلى معرفة الفروق بين المراجعات المحمودة والتراجعات المذمومة.