حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني (ج3)
حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني
الجزء الثالث
- ترتفع بعض الأصوات بين الفينة والأخرى مطالبة بعدم تجريم العلاقة الرضائية بين الرجل والمرأة؛ ما هو موقفكم من هذا المطلب؟
** العلاقات الرضائية يقصد بها العلاقات الجنسية بين غير الزوجين، وإلا فالعلاقة بين الزوجين هي علاقة رضائية بالأساس، وحتى يتضح المصطلح فإن المقصود به هو العلاقة الجنسية غير الشرعية وغير القانونية بين الرجل والمرأة، أي علاقة زنا وسفاح، حسب الاصطلاح الشرعي.
نحن أولا أمام اختيار مجتمعي، مقابل مطالب لبعض أفراده وجمعياته، وإذا كان المجتمع مؤمنا بما يؤمن به ومطمئنا ومستقرا فهل يوجد في أي ملة أو فلسفة أو دستور في العالم ما يبرر انصياع مجتمع لأفراد منه يحملون مطالب وقناعات خاصة بهم؟ هذا سؤال منهجي قبل أن نتطرق إلى صلب الموضوع.
العلاقات الرضائية مطلب لبعض الحقوقيين وليس لجميعهم، فهل نتبعهم أم نتبع المجتمع؟
وأنا أعتقد أن المجتمع بمجمله مؤمن ومقتنع بتحريم وتجريم هذا النوع من العلاقات.
فهل نعالج هذا الموضوع من مدخل ديمقراطي وسياسي، أم من مدخل شرعي، باعتبارنا مسلمين؟
من الناحية الدينية فإن هذه العلاقة محرمة لا يخالف فيها أحد من جميع المذاهب، سواء من المتساهلين أو المتشددين، وهي من الحرام المعلوم بالضرورة، وأنا بصفتي مسلما أجيب وأقول: إنها علاقة محرمة، ولا أحد يملك حق تغييرها من وضع هذا التحريم.
أما إذا نظرنا للموضوع من الناحية السياسية والديمقراطية، فليس عندي مانع أن نعرض تعديلات في القانون الجنائي تتضمن إباحة العلاقات الرضائية على البرلمان أو بالأحرى على الاستفتاء، لكن أرفض أن يأتي أفراد معدودون ليفرضوا علينا آراءهم، و”احنا شبعانين استبداد” ولا ينقصنا استبداد جديد يسلطه علينا بعض الحقوقيين المهووسين بكل ما يأتيهم من وراء البحر.
وعلى كل حال، أنا شخصيا: إذا فرضنا أن الشعب عبر في استفتاء عام عن قبوله بالعلاقات الرضائية فله ذلك، وعلى مسؤوليته، وسأناضل حينئذ في الاتجاه المعاكس.
- وإن كان هذا الشعب مسلما؟
** نعم. وإذا حصل هذا الأمر يمكن أن يفسر على أن الشعب لم يعد مسلما أو لا أدري، حينها يجب أن يفسر لنا الشعب سبب اختياره. نحن الآن نتحدث عن فرضيات، في ظل جواب ديني ومجتمعي معروف في الوقت الراهن.
- ما الذي يضر المجتمع إذا ارتضى رجل وامرأة أن يختليا في مكان ما ليعيشا لحظات حميمية بالطريقة التي يرغبون فيها، كما هو موجود في المجتمعات الغربية؟
** جوابا على هذا السؤال سأطرح أسئلة أخرى مماثلة: لماذا يـجَرِّم القانون اقتناء المخدرات وتناولها في المنزل أو في مكان ما؟ ما هو المشكل في تناولها بعيدا عن أعين الناس؟ أو حتى تحت أنظارهم؟ ما المشكل في التراضي على رشوة حبية يستفيد منها الطرفان ولا تضر أحدا؟ ما المشكل في أن أسوق سيارتي بدون حزام؟
السبب في التجريم والتحريم هو أن الأمر ليس مرتبطا بذوق أحد أو حالته الفردية، وإنما بالذوق المجتمعي، والمصلحة المجتمعية. وقبل ذلك نحن أمام عقيدة ودين. وكل مجتمع له قيم ومبادئ يؤمن بها ويحميها بأعرافه ويجسدها في قوانينه، والمجتمعات التي لم تعد ترى إشكالا ولا ضررا في هذا النوع من العلاقات والممارسات، فإنها تسمح بها، ومجتمعنا ما زال ينظر إلى الأمر بمنطق آخر.
لكن اقتناعي من جهة أخرى، هو أن الدين لا يجيز البحث عن أخطاء الناس وهفواتهم، فالعلاقة المحرمة إذا وقعت بين رجل وامرأة، وكانت مستورة وغير علنية، فحسابهم عند الله، ولا يجوز البحث عنهم، كما تفعل الشرطة اليوم باقتحامها للمنازل والمكاتب ونصب الكمائن لذلك… ليس في الشرع ما يسوغ هذا الفزع الذي تخلفه المباغتات والمداهمات الأمنية، بل هو يحمي ويصون المشهد الاجتماعي العام، ويترك السرائر والخفايا لله تعالى، ويَكِل أصحابها إلى قلوبهم وضمائرهم.
- في باب الحريات دائما، لديكم موقف مخالف للعلماء في مسألة الإفطار العلني في رمضان، فما هي دفوعاتكم؟
** هناك فرق بين الإفطار في رمضان والموضوع الذي كنا نتحدث عنه، أقول هذا الأمر كي لا يقول لي قائل: “ما دام موقفك في مسألة الإفطار العلني في رمضان هكذا، فعليك أن تقبل بالعلاقات الرضائية أيضا”.
أهم فرق بين القضيتين هو أن العلاقات الجنسية مسألة مجتمعية، أما قضية الإفطار والصيام فهي مسألة دينية أو ديانية محضة، والحديث القدسي معروف “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به”، فالصيام عبادة باطنية محضة بخلاف الصلاة مثلا أو الحج أو الزكاة، حيث يعرف الجميع أن فلانا يصلي أو حج أو يزكي، فالمسلم يمكن أن يكون صائما دون أن يعرفه أحد، ويمكن أن يكون مفطرا في رمضان ولا يعرفه أحد، لذلك فالصيام هو أخص العبادات في علاقتها مع الله تعالى.
ثاني الفروق: أن الزنى منصوص على عقوباتها بخلاف الإفطار في رمضان، ليس فيه أي عقوبة دنيوية منصوصة، وكل العقوبات المحتملة ستكون عقوبات اجتهادية تعزيرية يقررها الفقهاء أو القوانين.
ثالثا: الصيام فيه أعذار ورخص عديدة، فنحن حين نرى شخصا يفطر لماذا لا نقدم حسن الظن ونقول: إنه يفطر لأنه له عذرا من الأعذار؟ فالمرأة إذا أفطرت قد تكون حائضا أو نفساء أو ذات حمل أوترضع، والمفطر رجلا كان أوامرأة قد يفطر لأنه مسافر أو مريض، فكم من شخص بنيته الظاهرة سليمة قوية، لكنه يعاني في صمت ويضطر إلى الإفطار في رمضان، فإذاً هناك أعذار كثيرة تجعلنا لا نستغرب إذا كان في المجتمع عدد ممن لا يصومون رمضان كله أو بعضه.
وإذا نظرنا في الأعذار الشرعية سنجد أن حوالي 10 في المائة من المغاربة على الأقل يجوز لهم أو يجب عليهم الإفطار في رمضان، لكن لا يوجد في مجتمعنا حتى 1 في المائة ممن يفطرون من الكبار. الإفطار في رمضان عندنا ليس ظاهرة تحتاج إلى معالجة واستنفار في صفوف الأمن والفرقة الوطنية والمحلية…
بالعكس؛ المغاربة معروفون بالمبالغة في الصيام أكثر من أي شعب آخر.
أما بالنسبة للإفطار الاستفزازي المنظم، أو التبجح بالإفطار، الذي يأتيه أولائك الذين سبق أن تظاهروا وقاموا بحملة إعلامية من أجل الإفطار، فلا مانع عندي من تدخل الشرطة في مثل هذه الحالة، ربما يكون ذلك في صالحهم وسيوفر لهم الحماية، لأن استمرارهم في استفزازاتهم قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. لا أحد من المواطنين يمكن أن يتعرض لمن يفطر علنا بشكل فردي، لكن عندما يأتي البعض ويعلنون أنهم سيجتمعون من أجل الإفطار، فهذا عمل آخر، وليس مجرد إفطار وعدم صيام.
- ما دمت تقول إنه لا مانع من الإفطار العلني في رمضان، لماذا لا تفتح المقاهي أبوابها طيلة النهار في رمضان؟
** هل يوجد ما يمنعها في القانون؟ على كل حال هذا ليس من شأني.
- إذا لا مشكل في فتحها من الناحية الدينية؟
** لا مشكل. المشكل عرفي لا غير، فليتفاهم المعنيون مع عرف المجتمع ومع القانون. ولكن هل أصحاب المقاهي والمطاعم سيقبلون فتحها نهار رمضان؟
- وإذا اختار شخص تناول الطعام في الشارع نهار رمضان كموقف، بغض النظر عن الأعذار الشرعية، هل هناك مشكل في ذلك؟
** لا مشكل في ذلك، لأنه في نظري ليس لأحد الحق في أن يسأله عن سبب إفطاره. وأمره إلى الله.
- لكن الفصل 222 من القانون الجنائي ينص على عقوبات ضد المفطرين في رمضان؟
** صحيح. ولذلك أنا لست مع القانون في هذه المسألة، وأحبذ حذف الفصل 222 من القانون الجنائي لأننا لا نحتاجه، بل هو يعطي استنتاجا مفتعلا مفاده أن المغاربة يصومون تحت ضغط القانون الجنائي.
كما أني أتساءل مع المشرعين، كيف سيتصرف أفراد الأمن إذا جاؤوا عند شخص يشرب أو يأكل في حديقة أو تحت ظل شجرة أو في سيارته نهار رمضان، وقال لهم: “إني مريض أو لدي عذر”، هل سيحققون معه هل سيؤخذ للحراسة النظرية، أو نحو الاعتقال الاحتياطي، أم يجب أن يعتذروا له وينصرفوا؟
أنا أرى منع التدخل في شأن المفطرين في رمضان، لأنه ليس في الدين ما يقتضي أن نسأل الشخص المفطر لماذا يفطر؟
- ما رأيك في دعوى البعض إلى حرية المعتقد؟
** موقفي من حرية الاعتقاد معروف وموثق في كتاباتي، وأرى أن لا مانع ممن اعتقد غير الإسلام أو ترك الإسلام إلى دين آخر أو غيره من المعتقدات. أحد أصدقائي الفقهاء بقطر تناقشت معه حول هذه المسألة وقرأ ما كتبته فيها، وظل مختلف معي لعدة سنوات، إلى أن اقتنع بنفسه برأيي، حينها سألني “متى أصبحت تقول بهذا الرأي؟”، فقلت له يومئذ: “كتبت رأيي هذا قبل عشر سنوات”، فرد علي بالقول: “إذاً أنا متأخر عنك بعشر سنوات”.
وإذا كان البعض يعتمد على بعض الأحاديث من قبيل “من بدل دينه اقتلوه”، أو “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: التيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه”، فإن هناك أحاديث أخرى توضح أن المقصود هو من فارق الجماعة وخرج بسيفه ضدها، يضرب برها وفاجرها… وعندنا سياقات عديدة تؤكد أن الردة ومفارقة الجماعة تعني الخروج المتمرد على الجماعة. وهذه ليست مجرد ردة، بل ردة مصحوبة بجرائم الدم والمال والأمن. والجدير بالذكر أن القرآن لم يذكر حكما للمرتد باستثناء الحكم الأخروي.
النتيجة عندي أن قتل المرتد الوارد في بعض الأحاديث والآثار، له سياقاته ومرافقاته ولم يكن مرتبطا بمجرد الردة الاعتقادية والفكرية.
- هل في الدين ما ينص على فقدان المرتد للمواطنة؟
** الحقوق والواجبات في الإسلام مرتبطة بالشخص نفسه وبأفعاله وتصرفاته ومسؤولياته العينية. والمواطنة مصطلح حديث ومفهوم حديث ينظمه القانون، ولا أقول يمنحه القانون، أو يسقطه القانون. فحق المواطنة حق طبيعي ملازم للشخص، فلا يـُمنح ولا يحذف، ولكن ينظم.
- في إطار حرية الاعتقاد، فتحت دولة الإمارات مؤخرا أول معبد للهندوس على أراضيها رغم ما جره ذلك من انتقادات عليها، لماذا لا نجد معابد في المغرب لغير المنتمين لأهل الكتاب؟
** أولا يجب أن نتفق على من هم أهل الكتاب؟ فعندنا إشارات في الأحاديث والآثار تفيد أن أهل الكتاب ليسوا فقط هم اليهود والنصارى، فالأديان المنتشرة في آسيا، ولها كتاب ونبي، أعتبرها أهلها من أهل الكتاب، والذي يخرج حتما من خانة أهل الكتاب في الاصطلاح الإسلامي هم مشركو العرب، وأمثالهم ممن نعرف أنهم لا دين ولا نبي لهم ولا كتاب.
- تقصد أن البوذية والهندوسية من أهل الكتاب؟
** ممكن، لكن هذا ليس موضوعنا وخارج عن سؤالك السابق. ما يهمنا في الجواب هو أنك حين تقبل أن تستضيف وتشغل عندك عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الناس، وهم على دين معين، فلا بد أن تسمح لهم بممارسة شعائر دينهم، أما في المغرب فلا يوجد بيننا بوذيون أو هندوس، ووجود شراذم أو أفراد إن وجدوا لا يتطلب بناء معابد لهم. فالمغرب غير معني بما في الإمارات أو قطر.
ونحن نعلم أن دول الخليج تعج بالعمالة القادمة من آسيا، و80 في المائة تقريبا من ساكنة الإمارات أجانب لهم ديانات مختلفة، لذلك لا بأس من السماح بفتح معابد لغير المسلمين منهم، إذا طلبوا ذلك.
- الحديث في موضوع الحريات لا بد أن يجرنا للحديث عن الحرية السياسية أو حرية التظاهر، وتعلم أنه حصل جدل حول هذه المسألة منذ اندلاع الربيع العربي سنة 2011 بين علماء يحرمون التظاهر وآخرون يدعمونها، ما هو موقفك من هذه المسألة؟
** موقفي واضح. حرية التظاهر حرية فطرية وأصلية، كانت قبل نزول القرآن ومجيء الإسلام، وقبل اندلاع الربيع العربي والله فطر الناس على الحرية، ولا تقييد للحرية إلا بنص شرعي أو قاعدة شرعية، ولا تحريم إلا بدليل واضح، فالأصل في الأشياء الإباحة.
الحرية ولدت مع الإنسان وأعطيت للإنسان منذ البداية كما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور، لكن أخطاء الإنسان وتعسفاته هي التي تفرض تقييدها بمقدار تلك الأخطاء والتجاوزات، لأن الحرية تبقى هي الأصل، من هذا المنطلق فلماذا نمنع الناس إذا تظاهروا وعبروا سلميا؟
ودعنا نكن صرحاء، فمشايخ السعودية هم وحدهم الذين تصدوا لحق التظاهر، واليوم نرى الحكام الذين استصنموهم ودافعوا عنهم بكل الأباطيل، نراهم يحطمون أفكار المشايخ ومنظومتهم من أساسها. كانوا يقولون للناس إن التظاهر بدعة لم يفعلها النبي والسلف من بعده، في الوقت الذين هم غارقون في أشياء وأنماط من العيش لم يفعلها لا النبي ولا الصحابة ولا السلف.
- ما حصل في ثورات الربيع العربي أن الشعوب التي خرجت للشارع في بعض البلدان كانت تطالب بتنحية حكامها قبل أن يتصدى بعض العلماء لمطلبهم؟
** “الخروج” اصطلاح فقهي يقصد به الخروج المسلح ضد الحاكم، وحين تخرج الشعوب والجماهير مطالبة بتنحية الرئيس فهذا ليس خروجا بالمعنى الفقهي، وإنما هو أسلوب حضاري سلمي لا غبار عليه، وكذلك المطالبة بتنحي الحكم، فهذا أيضا مطلب جائز ومتحضر، وهو أن يبادر الحاكم سلميا ويغادر منصبه، فهذا مجرد مطلب ودعوة ونصيحة. ونكون أمام خروج على الحاكم، عندما نرى عملا مسلحا ضد الشرطة والجيش ومؤسسات الدولة ونحو ذلك… هذا هو معنى الخروج على الحاكم.
لكن لا شيء يمنع التظاهر ضد الحاكم وإعلان التظلم والشكوى، ودعوة الحاكم إلى التنحي… لأن هذا الأخير لم يرسله الله، والله عز وجل أرسل إلينا الأنبياء، ولم يرسل إلينا الرؤساء.
من هذا المنطلق يجب التفريق بين ما يحرمه الفقهاء وعليه إجماع، وبين التظىاهر المطلبي السلمي، فيكون التظاهر محرما عندما يحمل الخارجون السلاح للإطاحة بالحاكم ويواجهون شرطته وجيشه وموظفيه ومؤيديه من الشعب، وحصول ذلك يعد عملا غوغائيا، وسيدخل البلاد في حرب أهلية، لذلك حرم الفقهاء هذا النوع من الخروج الذي يسبب الحرب والاقتتال والتطاحن.
لكن ما نحن فيه مختلف تماما، فالمطالبة بتنحي الحاكم هو فقط تعبير عن رأي، لكن بشكل جماعي.
- لكن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي تنوب عن رئيسه كان من أشد المؤيدين للثورتين السورية والليبية التي شهدت رفع الثوار السلاح في مواجهة نظامي القدافي والأسد، أليس موقفكم متناقض مع تأييدك لهاتين الثورتين؟
** المعروف لمن تابع تطور الأحداث سواء في ليبيا أو في سوريا، أن في البداية كان عمل سلمي، قبل أن يطلق الزعيم المعروف في ليبيا كتائبه على المتظاهرين ويعلن عن مطاردتهم زنقة زنقة وبيتا بيتا وفردا فردا، فانتقلنا بذلك إلى وضعية حاكم يعمل السلاح ضد شعبه وشبابه، نفس الأمر وقع في سوريا خشية اتساع دائرة الغضب الشعبي، مع العلم أن القدافي وبشار كانا سيستعملان السلاح ولو ضد متظاهر واحد، فكيف بالآلاف التي خرجت منذ البداية.
وإذا قمنا بتوصيف دقيق للحالتين السورية والليبية، سنجد أننا كنا أمام تظاهرات سلمية قبل أن يرفع الحاكم السلاح في وجه المتظاهرين. ولا أستحضر أن مثل هذه الحالة وقعت في التاريخ الإسلامي، فقديما كان الحاكم لا يستعمل السلاح إلا إذا قامت ضده جماعة مسلحة وتمرد مسلح. ما حصل في الثورتين السورية والليبية شيء جديد يحتاج إلى تأمل واجتهاد.
والاجتهاد الذي أقول به هو: إذا أعمل الحاكم سلاحه فقام المتظاهرون برد فعل، فهذا شيء مقبول يدخل في باب الاضطرار ودفع الصائل، ومن يقدر عليه ويجد سبيلا إليه، فإنه يبادر إليه بصورة طبيعية وغريزية واضطرارية. وكل من حمل السلاح في مواجهة كتائب القدافي أو جيش بشار، لم يقم بذلك بفتوى فقيه أو باستشارة القرضاوي أو لجنة الفتوى في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بل كان رد فعل طبيعيا وعفويا، على الأقل في البداية. وهنا يمكننا أن نتساءل: كيف سيكون رد الشخص إذا هاجمه شخص آخر وأخذ يضربه ويصفعه على وجهه، ثم أراد ذبحه؟ هل سيكون لدى المعتدى عليه الوقت للتفكير والاتصال بالشيخ الفلاني لمعرفة ما يمكن فعله؟
++++++++++++
- يشهد العالم ثورة علمية غير مسبوقة تطرح تحديات على مستقبل الدين، وتجعل الإنسان يؤمن فقط بكل ما هو محسوس ومادي؛ ما رأيك؟
** ليس في التقدم العلمي والتكنولوجي ما يقتضي تنحية الدين، كما أنه لا يقوم مقام الدين ولا يدخل معه في منافسة، ربما الذي يمكن أن يتنافى أو يتنافس مع الدين هو التقدم الفلسفي والفكري، رغم أن الواقع لا يشهد بذلك.
الجواب على سؤالك هو: أن العالم يشهد في عقوده الأخيرة صحوة دينية، عند الشعوب المسلمة وغير المسلمة، وخاصة في أوروبا التي ابتعدت شعوبها عن الدين بشكل واسع في القرنين 18 و19 إلى أواخر القرن 20، قبل أن يعود إلى الدين إلى الانتعاش.
كما أن عددا من الدراسات تؤكد أن الشعوب اليوم هي أكثر تدينا مما كانت عليه قبل خمسين سنة سواء في ذلك المسلمون وغير المسلمين. وعلى الأقل فالتقدم العلمي ليس بالضرورة متنافيا مع الدين والتدين.
من ناحية أخرى، فإن حاجة الإنسان إلى الدين هي حاجة ثابتة، والتدين يزيد وينقص بعوامل مختلفة، تجده في الشباب والشيوخ، والشباب اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية كالمغرب وتونس وتركيا هم أكثر تدينا من الشيوخ.
- تريد أن تقول إن التطور العلمي لا يغني عن التدين؟
** صحيح. وإذا انتبه البعض لوجود الإلحاد اليوم فإن الأمر عادي جدا في جميع العصور، فالإلحاد كان موجودا منذ عهد نوح وإبراهيم وموسى، بنسبة أكبر مما هو عليه اليوم.
- منذ عقود انتشرت في العالم الإسلامي “موضة” الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وما يزال إلى اليوم فقهاء يأخدون ما انتهى إليه العلم في الغرب ليقولوا إن تلك الإنجازات القرآن موجودة في القرآن منذ 1400 سنة؛ ما رأيك في هذا الكسل والتخلف الذي تعيشه الأمة؟
** المصيبة الكبرى هو أن نرفض ما توصل إليه العلم بدعوى أنه يعارض نصا من النصوص الدينية، كما حصل حين نفى الشيخ بن باز المفتي العام للسعودية كروية الأرض، بناء على فهمه للألفاظ الواردة في الآيات التالية: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}، لقد كان يقول إن الأرض مسطحة كالطاولة.
ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفهوم هي التي تجعل البعض يدعو إلى تنحية الدين، كما حصل في أوروبا في قرون خلت عندما كان المسيحيون يلاحقون الفيزيائيين والفلكيين ويعذبونهم لأنهم انتهوا إلى نتائج مخالفة لأقوال الكنيسة.
أنا أرفض رفضا قاطعا أن يتسرع علماء الدين ويقحموا الدين فيما لم ينزل لأجله، فالقرآن ليس كتاب طب أو فيزياء أو فلك أو كيمياء أو جيولوجيا، إنما هو هدى للناس في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بربهم وفيما بينهم، أما الأمور الأخرى المذكورة ففيها إشارات عابرة لتنبيه الناس إلى ما في الكون من إبداع ودلائل ساطعة على وجود الله ووحدانيته وعظمته، دون الدخول في التفاصيل، لذلك بعض الأمور التفصيلية اختلف تفسيرها بين القدماء والمعاصرين. ويختلف تفسيرها في العصر الواحد.
لذلك لا ينبغي أن ندخل في معارضة للعلم والبحوث العلمية، ولنترك التفاصيل يقررها أو يغيرها أهل الاختصاص، والإشارات التي عندنا لا تدخل في التفاصيل.
لكن بدورهم، بعض أهل التخصص في العلوم الطبيعية والفيزيائية والطبية وغيرها يتسرعون في أحكامهم، كما حصل مع داروين عندما قال “إن الله غير موجود” ولا حاجة إليه، فقد قفز بذلك من العلم إلى الإيديولوجية.
- كأنك تدعو إلى إبعاد العلم عن الإيديولوجية؟
** هذا صحيح، لا يجب أن نقحم الدين في التفاصيل العلمية، أو العلم في التصورات المذهبية، وكذلك الميول الإيديولوجية لا ينبغي إقحامها في البحث العلمي. لندع البحوث والتجارب العلمية تمضي في طريقها، سواء تعلقة بالاستنساخ أو التلقيح الاصطناعي أو غير ذلك…
- إذا لا مشكل عندك في الاستنساخ؟
** قد يكون عندي مشكل من الناحية الأخلاقية، لكن ليس عندي مشكل من الناحية العلمية الصرفة، وإن كان الاستنساخ البشري يطرح إشكالات قانونية حتى في الغرب وفي الدول العلمانية، فهذا موضوع آخر، لكن بالنسبة إلى العلماء والأطباء والباحثين فليقوموا بتجاربهم دون أن يتدخل فيهم الدين ولا الإيديولوجيا أيا كانت.
كما أن لا ينبغي أن نواجه البحوث العلمية ونعارضها بالإشارات الموجزة الواردة في القرآن، لندع البحوث العلمية تمضي وهي بنفسها ستعدل آراءها ونتائجها إذا كان فيها خلل أو قصور.
- بعض كتب التفاسير تستوقف القارئ عند بعض التفسيرات المتخلفة والمتجاوزة التي توردها عن نشأة الكون وغيرها من القضايا التي كشفها التطور العلمي، كيف نتعامل معها؟
** إذا كانت متجاوزة حقيقة فمع السلامة، وهي تلزم صاحبها ليس أكثر. نحن أيضا واقعون اليوم تحت تأثير بعض المقولات المحسوبة على العلوم الحديثة، وفي عصور قادمة سيسخرون منا ومن علمائنا، لأننا كنا نظن كذا ونتصور كذا…
- ما رأيك في العلماء والمفكرين الذين يأتون بالإنجازات العلمية التي توصل إليها الغربيون ليروجوا أنها موجودة في القرآن؟
** أنا قلت إن الذي يخشى عادة هو حمل الآيات على بعض التفاصيل العلمية، وهي عبارة عن إشارات وتعبيرات مجملة ومختصرة، لا ينبغي أن نقحم الآيات القرآنية في التفاصيل، فالمطلوب هو معرفة المقصود بها. لكن الدلالات العلمية الصريحة الواضحة في القرآن لم لا نقول بها ونظهرها؟ فقط أنا ضد التكلف والتمطيط، للقول بأن هذا موجود في القرآن أو في السنة.
- ألا تخشى بدعوتك إلى عزل البحوث العلمية عن الدين أن نسقط في تعارض مع الدين؟ كيف تدعوا إلى أن نفتح البحوث العلمية على الآفاق هكذا؟
** تريد أنت أو غيرك أن نمنع شيئا غير قابل للمنع؟ وهل سيقف التفكير إذا قلنا له قف؟
من الحمق أن نطلب شيئا مستحيلا، ما علينا فعله هو أن نتبع الفكر إذا أتى بالصواب، وأن نقومه إذا انتهى إلى الخطأ، ولا خوف من إعمال الفكر والبحث العلمي النزيه. ونحن نشهد جدلية وسجالا في العلم ونتائجه، فهناك بحوث متعددة ومتضاربة في القضية نفسها، وهناك نظريات وتوجهات متضاربة حتى في الطب. وفي الدين أيضا لا نخشى من التفكير والتعبير، فليتحدث الجميع، فالمسلمون في الأول لم يكن لهم مجلس علمي أو مجلس إفتاء أو وزارة وصية على الشؤون الدينية، كان كل واحد يقول ما يشاء بما في ذلك الأفكار السخيفة والضعيفة، وفي الأخير (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
- يلاحظ أن الدول التي تقود العالم اليوم تتبنى نموذجا علمانيا أو أبعدت الدين عن نطاق تفكيرها، لكن ما يزال في الأمة من يردد أن سبب تخلف المسلمين هو تخليهم عن دينهم، هل تتفق مع هذا التفسير؟
** سبق أن كتبت مقالا شهيرا تحت عنوان “الانحطاط في تفسير الانحطاط”، وأعني به ما جاء في سؤالك. فبعض المسلمين لكسلهم الفكري يقولون إننا تأخرنا فقط لأننا تركنا ديننا، ولأن النساء متبرجات، أو لأننا لم نعد نتوكل على الله. والبعض يرون أن مشكلتنا كلها في ترك الفريضة الغائبة، يقصدون الجهاد… نعم الدين يمنحنا قوة وإذا تركنا الدين نفقد تلك القوة، والدين يعطينا سدادا ورشادا، لكن الدين لم يأت ليعطي القوة معلبة للناس، أو ليسلمهم راية التقدم في المساجد، أو على إثر التراويح. وأنا قلت في محاضرة سابقة لي “إن النصر لا يأتي بالتهجد وكثرة الصلاة”. فليصل المرء ما يشاء لكن الانتصار عنده قوانينه وأسبابه، والدعاء مع العمل ينفع، لكن الدعاء بدون عمل، بل فقط مع الكسل، هو عين العجز والفشل. وهو مذهب قدماء بني إسرائيل الذين قالوا لموسى عليه السلام “اذهب أنت وربك فقاتلا إننا ها هنا قاعدون”، وهنا يحضر السؤال: ما فائدة بني إسرائيل وما فائدة إيمانهم، إذا كان موسى وربه سيقاتلان العدو، وهم قاعدون يتفرجون؟
وعلى نفس المنوال أتساءل أيضا: إذا كان الله تعالى سيهبنا الانتصار والتقدم، بدون جهود منا، وبدون شروط وأسباب وسنن، فما الفائدة من خلق الإنسان وتكليفه أصلا؟
يعجبني جواب معروف لسعيد النورسي رحمه الله عندما سئل مثل هذا السؤال: “لماذا المسلمون ينهزمون ويتأخرون وهم مؤمنون ومعهم كتاب الله”، فقال: “على الإنسان المسلم أن يكون مؤمنا في دينه، ومؤمنا بوسائله”، والذي يحسم الكثير من الصراعات هي الوسائل، وأضاف قائلا: “أولائك كفار، لكن وسائلهم مؤمنة، ونحن مؤمنون لكن وسائلنا كافرة”، معنى ذلك أن المسلمين لم يأخذوا بالسنن النابعة من الإيمان، من الإعداد والتخطيط والعلم والتنظيم والإتقان، بخلاف الكفار الذين سلكوا هذا السنن وتمسكوا بها وعرفوا لها قدرها؛ فهم يستعلمون وسائل مؤمنة، لكونها من سنن الله.
ويمكن للملحد أن ينجح ويحقق التقدم والرقي في أموره الدنيوية، إذا اتبع سنن الله في تلك الجوانب، والله عز وجل لا يحرم من يجتهد، فالذي يعمل من أجل تحصيل المال يعطيه المال، سواء كان ملحدا أو غير ملحد، وإذا كان لدى الدول صناعة وزراعة وتجارة مضبوطة ستحصد النتائج المستحقة، وإذا تخلفت في الأساليب والأعمال ستحصل على نتائج معاكسة. والغرب عنده العلوم والخبرات والأداء الجيد، وهي كلها جزء من الدين، وسنن الله جزء مما حث عليه الدين، لذلك هم نجحوا فيما نجحوا فيه. ونحن عندنا الفساد والاستبداد والكسل والغش والعشوائية ورداءة الأعمال، فلذلك نحصد ما يليق بهذه الصفات، وسنة الله تعالى أنه (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
- ألا يدفعكم تجربة بعض الدول الإسلامية التي أصبحت قوة صاعدة في العالم بعد تبنيها نموذجا علمانيا، إلى الدعوة إلى تبني هذا النموذج الذي أثبت فاعليته في هذه المرحلة؟
** هل تقصد تركيا؟
- هي إحدى هذه الدول.
** تركيا أكبر نهضتها مقترنة بالعودة إلى الدين، وأتاتورك نفسه لم يبدأ من الصفر ولا من خراب. فعند وصوله إلى الحكم كانت الدولة العثماني متقدمة، صحيح أن الدول الأوروبية تفوقت عليها من بعض النواحي فهزمتها وكسرت شوكتها في الحربين العالمية الأولى والثانية، لكن الدولة العثمانية كانت قد قطعت أشواطا في درب التقدم الصناعي والزراعي والإداري والتشريعي. أما فترة أـاتورك والأتاتوركيين فلم تحقق الشيء الكثير، كان فيها الاستبداد والعسكرة والتبعية للغرب. فالنهضة التركية الباهرة تحققت مع حزب العدالة والتنمية الإسلامي. بل إذا أردنا أن نسقط التفسير الكسول على النهضة التركية الحالية، يمكن أن نقول: إن أردوغان رجل مؤمن، فلذلك جاءت معه النهضة.
لا. لم تأت النهضة التركية لأن أردوغان رجل مؤمن مسلم، ولكن لأنه عمل بقواعد النهضة وبسننها وشروطها، فحقق ما حقق.
عندنا الآن دولة ثانية تعطي نموذجا مشرقا في العالم الإسلامي، هي ماليزيا التي جل أحزابها الحاكمة إسلامية، سواء إسلامية قومية، أو إسلامية على الطريقة الإخوانية.
فهذه نماذج مشرقة في العالم الإسلامي، ونهضتها مقترنة بصعود في التدين الواعي، وإطلاق العمل الراقي.