جزء من حوار جريدة الأيام مع أ.د أحمد الريسوني (ج2) 2018م
حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني
الجزء الثاني
- أليست القوانين الوطنية في البلدان الإسلامية تحقق التجديد المطلوب في مسألة الفقه الإسلامي؟
** قبل الجواب عما إن كانت القوانين التي حلت عمليا محل الفقه تغني عنه، أو تمثل تجديدا يغني عن التجديد الفقهي، ينبغي التنبيه على أن الفقه أوسع مساحة من القانون، وإذا كان القانون يتدخل في العلاقات والمعاملات، خاصة التي تكون عادة موضوع اختلافات ومنازعات، فإن الفقه يتدخل في العبادات والسلوك الشخصي للإنسان؛ في طعامه وشرابه ولباسه ونيته ومشاعره، فهو يغطي جميع المجالات ويجيب على كافة تساؤلات الناس، ويمنحهم إرشادات وأحكاما وآدابا في حياتهم، ما ظهر منها وما بطن.
فإذا قلنا مثلا: إن مدونة الأسرة تنظم الحياة الأسرية، فينبغي أن نعلم أنها لا تنظم سوى نحو 10 في المائة من العلاقات الأسرية، أما 90 في المائة الأخرى فإنها لا تخضع للقانون، لأنها علاقات حميمية وعاطفية وقلبية وأسرار زوجية، بعضها منحصر في غرفة النوم، وبعضها يتعلق بآداب الخطاب، وبعضها يتعلق بمائدة الطعام، إلى غيرها من بواطن الحياة الزوجية، وعلاقات الأقارب وخصائصها.
لكن إذا تحدثنا في المجال المشترك بين الفقه والقانون، وهو تنظيم العلاقات والحقوق والشؤون العامة والمشتركة التي يمكن تقنينها وضبطها، فيمكننا القول: إن المفروض في الدول الإسلامية أن تضع قوانين إسلامية، فتجمع بذلك بين الفقه والقانون. وبذلك سيكون القانون أو التقنين ضربا من التجديد الفقهي. ومما ينبغي الإشارة إليه أن لفظ القانون ليس جديدا على الفقه والفقهاء؛ عندنا كتاب معروف في الفقه المالكي اسمه “القوانين الفقهية” لابن جزي الغرناطي، كما أن الدولتين العثمانية والمغربية في القرن 19 وبداية القرن 20 كانتا تسيران في اتجاه تقنين الفقه الإسلامي، فيكون الفقه قانونا والقانون فقها، حيث صدرت مجلة الأحكام العدلية في الدولة العثمانية وقوانين في نفس الإطار في الدولة المغربية، وفي بداية استقلال المغرب شكل الملك محمد الخامس لجنة لتقنين الفقه الإسلامي في جميع المجالات، ترأسها ولي العهد آنذاك مولاي الحسن، وكان مقررها الأستاذ علال الفاسي رحم الله الجميع، وهذا يدل على أن المغرب كان لديه قوانين مؤسسة على الفقه الإسلامي وتوظف الثروة الفقهية الإسلامية سواء من المذهب المالكي أو بالاجتهادات الجديدة، وكانت مدونة الأحوال الشخصية التي وضعت في أواخر الخمسينيات ثمرة لعمل هذه اللجنة، وقد أتت في ذلك الوقت المبكر باجتهادات جديدة كتحديد سن الزواج، والتوثيق الرسمي للزواج، وتحديد أقصى مدة الحمل في سنة، واشتراطها موافقة الزوجة أمام العدلين، بخلاف الفقه المالكي الذي كان يتحدث عن إمكانية إجبار الأب لابنته على الزواج بغض النظر عن موافقتها.
كل ما سبق يؤكد أن مدونة الأحوال الشخصية – رغم أنها عدلت في ما بعد- كانت متقدمة جدا في ذلك الوقت، وأدخلت عنصري الاجتهاد والتقنين، وهذا هو المفروض والمطلوب في العالم الإسلامي حتى لا نقع في الازدواجية التي يعكسها السؤال: هل القانون يُغني عن الفقه؟
إن المطلوب هو الدمج بين القانون والفقه لأن إحلال القوانين المستمدة من القانون الفرنسي أو مواثيق الأمم المتحدة دون الالتفات إلى الأصول الإسلامية والفقه الإسلامي يُحدث فجوة وهوة، وهي التي تؤدي إلى تطرف بعض الشباب الذين يشرعون في انتقاد القوانين الوضعية وتكفيرها.
وخلاصة الكلام أن الفقه لا يقوم مقام القانون من حيث أن الفقه يغطي مساحات أوسع، كما أن القانون لا يلغي دور الفقه رغم ما فيه من تحديث، بالنظر إلى أن هذا التحديث ينقصه الاستناد إلى المرجعية الإسلامية وربط الأمة بما تؤمن به وتعتقده.
- من ضمن المسائل الفقهية التي يجر الحديث عنها سيلا من الآراء المتناقضة مسألة “الحدود”، ما هو موقفكم منها؟
** أولا: إن مصطلح الحدود في القرآن يراد به كافة أحكام الله التي تحدد وترسم الحدود، أي تحدد ما يجوز وما لا يجوز، لكن وقع الاصطلاح الفقهي على أن الحدود تطلق على العقوبات المحددة، مقابل العقوبات غير المحددة التي تسمى “التعازير”، وهي العقوبات الاجتهادية المعتمدة من طرف القضاة والولاة والمؤسسات المختصة.
ثانيا: مسألة الحدود يقع فيها سوء فهم والتباس كبير يحتاج إلى توضيح ولو بشكل سريع، فالحدود التي يجري الحديث عنها عددها قليل جدا بحيث يتعلق الأمر بحد السرقة والزنا والخمر والردة والحرابة، أي أننا إزاء خمسة حدود لا أكثر، لذلك قال علال الفاسي في كتابه “دفاع عن الشريعة” إن أقل العقوبات وأخفها في الأنظمة التشريعية كافة هي الموجودة في التشريع الإسلامي، فلا يوجد قانون ديني أو جنائي في العالم يتضمن فقط خمس عقوبات منصوصة والباقي متروك للقضاة والولاة، وفي القانون المغربي عندنا آلاف العقوبات، حتى أننا اكتشفنا مؤخرا قانونا مليئا بالعقوبات الخطيرة اسمه “الاتجار بالبشر”.
ثالثا: هذه الحدود توضع في الشريعة والفقه في آخر القائمة، فهي ليست من الأسس أو البدايات أو الأركان، بل توضع في أوخر كتب الفقه، فهي من قبيل قولنا “آخر الدواء الكي”، كما أنها نزلت متأخرة، وهي تشكل أقل من 1 في المائة من مجموع أحكام الشريعة الإسلامية.
رابعا: هذه الحدود أحيطت بشروط وضمانات وتوجيهات تجعل تطبيقها نادرا وليس قليلا فقط، وقد جاء في الحديث النبوي “تعافوا الحدود بينكم”، أي لا ترفعوها إلى الإمام بل عالجوها بالعفو والصلح ما أمكن، ولا ينبغي البحث والتقيب عنها كما يقع اليوم من اقتحام للبيوت وتتبع الناس في سياراتهم ومكاتبهم، فهذا منكر كبير في الشريعة، لأن المطلوب هو ستر الناس والتغاضي عنهم ما داموا مستترين، وحتى إذا اكتشف الناس بعضهم بعضا فيمكنهم أن يتركوا ذلك فيما بينهم، ولا يفرضون الأمر الواقع على القضاء.
خامسا: أن الراجح في الفقه أن الشخص إذا تاب قبل عرضه على القضاء يُعفى عنه في الحد، وتبقى عليه عقوبة تعزيرية، مع تحميله ما تسبب فيه من أضرار.
سادسا: أن الحدود أحيطت بضمانات واحتياطات تجعل مفعولها بالدرجة الأولى في مجرد اعتمادها وفي هيبتها كعقوبات زاجرة رادعة، أما التنفيذ الفعلي فدونه كثير من الشروط ومن التوجيهات المانعة، كما في الحديث النبوي “إدرؤوا الحدود بالشبهات”. فأي شبهة تحوم حول ثبوت الجناية تجعل تنفيذ العقوبة الحدية مستبعدا. لكن عندنا اليوم العقوبات تثبت بالشبهات ولا تدرأ بالشبهات، والصحافة اليوم تعاقب قبل القضاء، وقد قلت أكثر من مرة أني لو كنت قاضيا وثبتت التهمة على أحد، فسأكتفي في عقوبته بمجرد التشهير الذي قامت به الصحافة، لأني أعتبر التشهير الذي تقوم به الصحافة هو عقوبة شديدة وبليغة تصيب المتهم وأسرته وما تنبقى من حياته.
ولعل أفضل من تناول هذه القضية هو علال الفاسي في كتابه “دفاع عن الشريعة”، حيث بين أن شروط تنفيذ الحدود تكاد تكون منعدمة بما فيها شرط أهلية القاضي ومستواه، وكان رحمه الله يصف قضاة اليوم يأنهم “مجموعة من حملة الليسانس (أي الإجازة) في الحقوق”، وهؤلاء لا يصلحون أن يكونوا قضاة يقيمون الحدود، فالقضاة الذين كانوا يقيمون الحدود هم كبار العلماء والفقهاء في المكانة والصلاح والفهم والخبرة الحياتية.
- سبق للمجلس العلمي الأعلى أن أثار فتوى عن “قتل المرتد” قبل أن يتراجع عنها، ما هو الموقف الذي تتبناه في هذه المسألة؟
** عقوبة المرتد مذكورة في بعض الأحاديث النبوية وليست في القرآن الكريم، وكذلك عقوبة شارب الخمر، بخلاف بقية الحدود المنصوص عليها في القرآن (الحرابة والسرقة والزنا)، كما أن المسألة فيها اجتهاد قديم واجتهادات معاصرة كنت ممن أسهموا فيها.
بالنسبة للاجتهاد القديم، السائد فيه أن المرتد يقتل ما لم يتب، وإن كان المذهب الحنفي يرى عدم قتل المرأة إذا ارتدت، ويعلل ذلك بأنها ليست محاربة، وهذا معناه أن الردة مرتبطة بالحرب والمحاربة، والمرأة عادة تجلس في بيتها وتحتاج إلى من يدافع عنها، بخلاف الرجل الذي كان إذا ارتد حمل سيفه، ويفهم من هذا الاجتهاد القديم الذي استندت عليه الاجتهادات المعاصرة أن عقوبة المرتد الموجودة في بعض الأحاديث النبوية مقترنة بأن يلتحق الشخص المرتد بالصف الآخر المعادي ويصبح محاربا ويصبح خائنا، كمن يرتد اليوم وينضم إلى جيش الاحتلال أو مخابراته.
انطلاقا مما سبق نفهم أن عقوبة قتل المرتد كانت عقوبة سياسية على جرائم سياسية وأمنية، على غرار ما تقوم به دول تنفذ اليوم عقوبة الإعدام في جرائم التجسس والخيانة العظمى وتهريب المخدرات.
لذلك فإن عقوبة الردة ينظر إليها من خلال ما رافقها أو أعقبها من جرائم، فتكون بذلك موكولة للإمام (أي الدولة) وموكولة للتقدير الزمني. فهي تدبير سياسي زمني وليست حدا ثابتا دائما.
أما الردة العقدية وحدها – وهو الموضوع المثار اليوم – فرأيي أن أمرها متروك للحكم الأخروي، وليس فيه عقوبة دنيوية.
- أثار إعلان انحيازكم للصحافي توفيق بوعشرين في قضيته المعروفة، ردود فعل من طرف البعض، خصوصا أنكم لم تنتظروا أن يقول القضاء كلمته في القضية التي أحد أطرافها مشتكيات ومصرحات يقلن إنهن وقعن ضحية تحرش واغتصاب واستغلال جنسي من طرف “بوعشرين”، وأعاد للواجهة اتهام الإسلاميين بأنهم يتساهلون مع مواضيع الاعتداء الجنسي على المرأة، ما هو ردكم؟
** كيف للإسلاميين أن يتساهلوا مع الاعتداءات الجنسية والاغتصاب وهو يؤمنون بالتجريم والعقوبة الشديدة لكل علاقة جنسية خارج نطاق الزواج، حتى ولو كانت رضائية واختيارية؟
أما السيد بوعشرين فلا تربطني به أي علاقة مذهبية أو حزبية ولا أي توافق فكري أو سياسي أو أي مصلحة شخصية. وقد كنت وإياه على طرفي نقيض في بعض القضايا السياسية. وعندما وقعت الواقعة انتظرت ثلاثة أسابيع قبل أن أعلق. وتعليقي لا دخل له في صلب العمل القضائي الذي ذكرت أننا ننتظر حكمه، وأيضا حكم القضاء والقدر الذي سيعتني به الدارسون والمؤرخون. تعليقي تركز على أمرين:
الأول، هو ما أحاط بالقضية من تضخيم وتهويل وحشد غير مسبوق وحزم غير معهود.
والثاني، وهو مترتب على الأول، هو أن الرجل أصابته حتى الآن عقوبات ساحقة ماحقة، قبل أن يصدر في حقه أي حكم قضائي، بل قبل أن يشرع القضاة في فحص الملف. فهل ستنفعه البراءة لو صدرت في حقه؟ وهل ما زال بحاجة إلى عقوبة إضافية أكثر مما حاق به حتى الآن، فيما لو تقررت إدانته؟
- ألم يكن يجدر بكم أن تنتظروا إلى أن يقول القضاء كلمته، أو على الأقل أن تعلنوا تضامنكم أيضا مع المشتكيات الذين قلت في حقهن “أما النسوة اللاتي يتم إخفاؤهن في القاعة المغلقة، فمن المؤكد الآن أنهن قد ساهمن أو استعملن في اغتصاب رجل”؟ وهل كان يجب عليهن – إذا تأكد أن اتهاماتهن للرجل حقيقية- أن يلزمن الصمت على الاعتداءات كي لا يغتصبن سمعة الرجل كما تقول؟
** أنا ذكرت أن تهمة الاغتصاب وتهمة الاتجار بالبشر وبقية التهم الموجهة لبوعشرين، هي الآن في طور الادعاء، فهل تريد مني أن أتضامن مع الادعاء، مع أنه قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا، وقد يختلط فيه الصدق والكذب؟ التضامن مع المشتكيات في هذه المرحلة لا معنى له إلا إدانة المدعى عليه أو المشتكى به، مع أنه يقضي من الآن عقوبات متنوعة لم يصدر بها بعدُ أي حكم قضائي. هذا هو ما أسميه بالعدالة المستحيلة.
- يرى البعض أن المرأة كانت على مر التاريخ مهضومة الحقوق في بلاد المسلمين، وذلك عكس ما يدعي البعض من أن الإسلام أعزها ومنحها حقوقا، لماذا –برأيكم- هذا التناقض؟
** من الناحية المنهجية، ينبغي أن نتساءل ونقرر: كيف نحاكم التاريخ؟
هل نحاكمه بأن ننتقل إليه ونفهمه كما هو، أم نأتي به أو بنُـتف منه، ونضعه أمام قضاة حقوق الإنسان في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين؟ الصواب في نظري هو أن نذهب إلى التاريخ ونفحصه ونحاكمه في وقته، بالمعايير والأعراف والفلسفات التي كانت سائدة آنذاك. وبعد ذلك يمكن أن نعلق وفق ثقافتنا وواقع عصرنا.
من جهة أخرى، عندما نتساءل: كيف كانت وضعية المرأة المسلمة على مر التاريخ، يجب أن نتساءل أيضا عن كيف كانت المرأة في الأمم الأخرى وعلى الضفة الأخرى، لكي نتحدث بصفة عامة ونقارن ونوازن. وحتى الذين ينتقدون عالما أو فقيها قديما لأنه أفتى بكذا وكذا، يجب عليهم أن يضعوا أنفسهم في مكانه وزمانه، ليروا ما الذي كانوا سيفعلونه. فليس من العدل أن نحاكم تاريخنا وعلماءنا وأسلافنا بالمعايير القانونية الحديثة التي تحكم العالم اليوم، فالمطلوب أن نضع كل شيء في سياقه قبل أن نحكم عليه إيجابا أو سلبا.
الأمر الآخر الذي ينبغي أن ننتبه إليه، هو أنه يجب أن نفرق بين الدين الإسلامي وتصرفات المسلمين، وفي جميع الدول وجميع الأحوال قد يخالف الناس المبادئ والقوانين التي ينتسبون إليها.
فمثلا: هل تحترم الدول الغربية المبادئ المثالية التي عندها؟ ومنها دعوات السلام العالمي والعيش المشترك وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب… لننظر إلى حجم الدمار والقتل والظلم الذي تخلفه أنظمتهم وأسلحتهم وسياساتهم في العالم؟
لا أحد ينكر أن المسلمين شهدوا عبر تاريخهم اختلالات وأخطاء عديدة، تارة كان مصدرها من الحكام وهو الأكثر، وتارة أخرى من الشعوب، وتارة من الفقهاء أو بعضهم، لأنهم في النهاية أبناء بيئتهم أو ربائبها، والفقيه في الدولة المرابطية ليس في هو الفقيه في الدولة الموحدية، ومهما حاول الفقيه التعالي بأدلته المرجعية فوق زمانه وبيئته، فإن الواقع يرخي بظلاله عليه بدرجة ما وبشكل ما.
ومن هذا المنطلق لا أنكر أنه وقعت بصفة خاصة انتكاسة في موضوع المرأة، بين ما جاء في الإسلام وطبق في العصر النبوي بالفعل، وما وقع في العصور اللاحقة، وهناك كتاب مفيد جدا في هذا الموضوع، وهو كتاب المرحوم عبد الحليم أبو شقة “تحرير المرأة في عصر الرسالة”، فهو يظهر بشكل مفصل كيف حصل التحول والتقهقر في موضوع المرأة.
ورغم أنه قد حصل تراجع ونكوص في موضوع المرأة، كما رصده كتاب أبو شقة بالتفصيل، فلا يمكن أن نطلق القول بأن المرأة كانت دائما مهضومة الحقوق أو محتقرة في المجتمعات الإسلامية، وأعدل توصيف لحالها هو أن نقول: إن احترامها كان يتم بطريقة لا نتفق معها اليوم، لأن الناس مثلا حين كانوا يضيقون من خروج المرأة للمجتمع وللمرافق العامة، فقد كان ذلك عندهم نوعا من احترامها والخوف المبالغ فيه عليها وعلى سلامتها وكرامتها. ونحن اليوم نرى ونسمع أن أكبر مشكل تعاني منه المرأة عبر العالم في الأماكن العامة هو التحرش بها في كل مكان. أسلافنا حلوا هذه المشكلة بطريقتهم التي لم تعد مقبولة، ولكن نحن لم نجد لها حلا بعد، بل تزداد تفاقما.
الزوج أو الأب عندما كان يفرض على المرأة عدم الخروج والمشاركة في المجتمع، فإن ذلك كان يتم من باب الغيرة عليها وحرصا على سلامتها كي لا ينال منها أحد، وليس انتقاصا أو احتقارا لها.
ومن الطرائف التي أتذكرها الآن في هذا السياق أن أحد أصدقائي وهو في سني تقريبا حكى لي أنهم حين أراد هو وإخوته بإقليم الراشيدية أن يربطوا منزلهم بشبكة الهاتف قبل أربعين أو خمسين سنة، اعترض الأب على ذلك اعتراضا شديدا، والمثير أن اعتراضه كان يقوم على شيء واحد عبر عنه بقوله “كيف يأتي شخص أجنبي ليتحدث في أذن زوجتي”، لقد كان الرجل يتصور أن الرجل إذا حدث زوجته في الهاتف فكأنما سيضع شفتيه في أذنها. كما أتذكر أننا قبل نحو ثلاثين سنة كنا بصدد إعداد عريضة للتوقيع عليها من طرف العلماء، فاقترحت بعض الأسماء النسائية لتكون معنا، فقال لي أحد الفقهاء: “كيف نأتي بالمرأة وندخلها وسط الرجال؟” (يضحك)، ولم يقتنع حتى عندما قلت له: “هذا مجرد اسم يوضع مع الأسماء يا أستاذ!”. فهذه غيرة وحساية مفرطة، إن لم نقل منحرفة عن سواء السبيل، لكنها ليست من باب الاحتقار والظلم المقصود.
فهذه تقديرات وتصرفات هي في النهاية تعسف وتخلف، ولكنها لا تصدر عن كراهية أو احتقار.
أما أكبر تعسف وظلم لحق بالمرأة المسلمة عبر تاريخنا، فهو أنه لم يسمح لها بالتعلم مثل الرجل، وهذا الظلم مارسه الآباء وعموم المجتمع، وغض الفقهاء عنه الطرف، وهو الذي جعل المرأة تجهل حقوقها ورسالتها، وساهم في إنتاج نمط معين من النساء أصبح سائدا، بينما لا يوجد في الشرع بتاتا ما يقتضى التفريق ولو ب1 في المائة بين الذكور والإناث في التعليم، بل النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب والنساء يسمعن في آخر الصفوف، ثم تخطى الرجال وذهب إلى النساء ووعظهن وعلمهن مسائل إضافية، ثم إن بعض النساء جئنه وقلن له “غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما”، فجعل لهن يوما خاصا، كما كان صلى الله عليه وسلم يقول “لا تمنعوا إماء الله بيوت الله”، فمن شاءت أن تأتي للمسجد النبوي تأتي متى شاءت.
- بمشاعر اليوم كيف يرى الريسوني مسألة التعدد في الزواج؟
** نعم أحيانا قد أقيس بعض الأمور بمشاعري وذوقي، ولكن ذلك يبقى في حدود، لأنني أحتكم قبل ذلك وبعده إلى مرجعية ومنهجية محددة لها كلمتها ومخرجاتها. وحين نتحدث عن التعدد من الناحية الفقهية نقول إنه مباح، وهذا يعني أنه ليس مطلوبا في الشرع فهو ليس من واجباته ولا من مندوباته، هذا معنى أنه مباح. ولكن هذا المباح جاء في القرآن في سياق شرطي واضح ومتكرر، وهو قوله تعالى “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع”، ثم قال أيضا: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة…”.
والإسلام وجد أشياء كثيرة لم يلغها دفعة واحدة، وإنما قام بتهذيبها أو تنظيمها أو الحد منها. والتعدد قبل الإسلام كان سائدا وبلا حدود، لكن الإسلام حد منه وقيده كما وكيفا.
ومعلوم في أصول الفقه ومقاصد الشريعة أن المباح يتأثر ويتغير بمؤثرات عديدة ظرفية وشخصية، فيمكن أن يصبح مندوبا أو واجبا أو مكروها أو محرما، لذلك فالتعدد وإن كان مباحا في الأصل، يمكن بحسب الأحوال والدواعي والآثار والمصالح والمفاسد، يمكن أن يصير واحدا من هذه الأحكام الأربعة، ومجرد الخشية من الإخلال بشرط العدل فقط، يخرجه من دائرة الإباحة ويدخله في دائرة الحظر. ولذلك ذهب علال الفاسي إلى منعه منعا مطلقا تاما، من باب سد الذرائع، بالنظر إلى تقديره للأضرار والمفاسد التي أصبحت ملازمة له في أغلب الأحيان.
ومن المعلوم في الفقه وأصول الفقه أن المباح يمكن تقييده وضبطه بما يقتضيه جلب المصلحة ودرء المفسدة. لذلك أنا أدعو من مدة إلى أن يصبح التعدد مشروطا بمراعاة حال المرأة، وليس بناء على طلب الرجل فقط، وذلك باشتراط أن تكون الزوجة الثانية ومن بعدها، فوق سن الثلاثين، أو أن تكون مطلقة أو أرملة. ففي هذه الحالة سيكون التعدد مفيدا ونافعا ولصالح المرأة والمجتمع. وسنحُدُّ من تعدد الزواج الذي هو مجرد نزوة وترف.
- ما يزال في المجتمع أشخاص يتزوجون بالفاتحة ويرفضون توثيق زواجهم، ما هو موقفكم من زواج الفاتحة أو ما يسمى بالزواج العرفي؟
** أولا الزواج العرفي حقيقة هو الزواج الموثق بالطريقة القانونية المعتمدة رسميا. فهو عرفي بمعنى أنه هو ما عليه عرف الناس اليوم. فالعرف اليوم في الزواج هو الذهاب إلى العدول وفق الطريقة المتعارف عليها. أما الزواج الذي تسأل عنه فلم يعد عرفيا، بل عرف الناس جرى بخلافه. ويمكن تسميته بالزواج غير الموثق، أو الزواج غير الرسمي، أو الزواج الشفوي.
أما موقفي الشخصي في المسألة، فأنا مع وجوب توثيق الزواج وتعميم العمل به، والفقهاء جميعهم اليوم يقرون أن التوثيق مفيد وضروري للمجتمع وللأسرة وللأشخاص. وهو موافق لمقاصد الشرع في توثيق الحقوق والمعاملات والالتزامات، تلافيا لضياعها والتنازع فيها. وعلى الدولة أن تنهي العمل بالزواج غير الموثق وألا تعترف به إلا في الحالات الاضطرارية التي يتعذر فيها توثيقه. ولكن بالمقابل يجب تسهيل التوثيق وإنهاء التعقيدات الإدارية الطويلة التي تعترض سبيله.
ثم إن توثيق الزواج قد اعتمدته الدولة وجعلته ملزما، فالالتزام به أصبح داخلا في طاعة ولي الأمر ما دام ليس فيه معصية.
- ماذا تقصد بطاعة ولي الأمر؟
** طاعة ولي الأمر اليوم هي احترام القوانين والمؤسسات المختصة وما يصدر عنها. لذلك فزواج الفاتحة أو الزواج غير الموثق أو الزواج الشفوي، لم يعد مقبولا. والدولة إذا قامت بشيء لا يتنافى مع الشرع فضلا عما إذا كان يخدمه فيجب الالتزام به.
ومن هذا المنظور أرى مثلا وجوب الالتزام بقوانين السير، وأعتبر ذلك واجبا شرعيا دينيا، وليس فقط واجبا قانونيا، وأن خرقها ليس ممنوعا فقط وإنما حرام شرعا. وهكذا فأي تشريع أو قرار تعتمده الدولة وفيه عدل ومصلحة، ولا يخالف نصا شرعيا صريحا، فالعمل به واجب شرعي دياني، ومخالفته تكون ارتكابا لمخالفة شرعية. فهذه هي الطاعة بالمعروف التي أمرنا الله بها لولاة الأمور (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).
- من القضايا التي تستأثر بالاهتمام في موضوع المرأة، قضية المساواة في الإرث، خصوصا أن المرأة أصبحت تشارك الرجل في الإنتاج والعمل ومن الحيف – برأي البعض- أن يبقى للذكر مثل حظ الأنثيين، أن يتموقع الريسوني؟
** أولا: المساواة أو المفاضلة في الإرث هي جزء من منظومة كاملة متكاملة. وهذه المنظومة تتكامل حتى مع المنظومة الفطرية الطبيعية القائمة على وجود تمايز تكاملي بين الذكر والأنثى.
وثانيا: دعاة المساواة الحرفية دائما يقدمون مطالب ومشاريع هدم وإلغاء، ولا يقدمون بديلا كاملا اجتماعيا وتشريعيا. ولا يجيبون على الأسئلة والإشكالات الملازمة لمشاريع الهدم: نفقة الزوجة؟ نفقة الأبناء؟ نفقات العدة؟ المتعة؟ المهر؟ تجهيز بيت الزوجية؟ رعاية الأبناء الصغار؟ الحضانة ونفقاتها عند الطلاق؟
وثالثا: أنا ذكرت سابقا في هذا الحوار أن علينا الاجتهاد وإنتاج فقه جديد لما جد وتغير في حياتنا، لكن من يجتهد؟ وكيف؟وعلى أي أساس؟ وبأي مرجعية؟ وهل الاجتهاد يكون بإطلاق العرائض المائوية والعرائض الألفية أو المليونية المضادة؟
فليحددوا لنا من سيجتهد ويغير القانون، لكي نلجأ إليه ونقدم له اقتراحاتنا. أليس عندنا ملك أمير للمؤمنين؟ أليس عندنا مؤسسات عُلمائية؟ أليس عندنا أهل الميدان وخبراؤه من القضاة والعدول ومؤسساتهم؟ أليس عندنا مؤسسة تشريعية ضخمة تسمى البرلمان؟ أليس عندنا فرق برلمانية ولجان برلمانية مختصة؟ لماذا لا يوجهون مشاريعهم ومقترحاتهم إلى الجهات المختصة بدل توجيه أوراق دعائية إلى السوق؟ أم يريدون أن نحتكم للشارع والعرائض والمسيرات؟ أم يريدون فقط الغوغائية والاستفزاز والنيل من الإسلام؟
إثارة الفتنة والبلبلة والضوضاء شيء سهل وفي متناول الجميع، فحتى العدد القليل من الأطفال قد يروعون الحي بكاملة بألعابهم العاشورائية.
على كل حال أنا أرفض الأساليب الغوغائية في قضايا دقيقة وعميقة مثل هذا الموضوع، وأرتضي الاجتهاد إذا تم بحقه ومن أهله. وحينئذ حتى لو جاء الاجتهاد بما يخالف رأيي فأنا أحترمه وأعتبره صراطا مستقيما.
- لكن مع ذلك هناك حالات في المجتمع لنساء يشتغلن طيلة حياتهن لتوفير لقمة العيش لآبائهن وإخوانهن، وعند وفاة آبائهن يجدون أن إخوانهن الذكور يستفيدون من الإرث أكثر منهن؟
** أولا: التشريع لا يبنى على الأمثلة الافتراضية أو الحالات النادرة. فالذي نعهده في مجتمعنا الكريم الأصيل، هو أن الإخوة يهرعون إلى التكافل وإلى احتضان بعضهم، وخاصة أخواتهن الإناث الصغيرات. فهذا الذي نراه ونبني عليه وليس الحالات الاستثنائية أو الخيالية.
وثانيا: لا شيء يمنع الآباء في حياتهم من أن يعطوا لبناتهم ما يريدون من ممتلكاتهم.
وثالثا: المرأة أو البنت إذا كان لها مجهود وإسهام معلوم في تكوين تركة الأب أو الزوج، فلها أن تأخذ ما يساوي إسهامها قبل اقتسام التركة، لكونها شريكة قبل أن تكون وارثة. وهذا اجتهاد فقهي مغربي رائد، وللأسف لحد الآن لم يصل التشريع المغربي المعاصر إلى مستواه أو إلى الأخذ به. وأما الحداثيون الكونيون فإنهم يتحاشون ذكره أو المطالبة به، لكونه اجتهادا نابعا من المرجعية الإسلامية. وقد عمل به قضاة المغرب وفقهاؤه منذ عدة قرون. وهو المعروف عندهم بحق الكد والسعاية.
- على ذكر مدونة الأسرة، ما هي الجوانب التي ترى ضرورة تعديلها خصوصا أننا مقبلون على فتح ورش تعديلها؟
** مما يحضرني في هذه اللحظة هو التنصيص على حق “الكد والسعاية”، لفائدة البنات والزوجات، وذلك بأن يحتسب للبنت أو الزوجة ما أسهمت به من جهد في تكوين تركة الأب أو الزوج المتوفى، سواء بتقدير كونها شريكة أو بتقدير كونها أجيرة، ولم تتقاض أجرتها لعدد من السنين. ويستفاد في هذا الموضوع من فتوى القاضي الفقيه أبي عبد الله بن عرضون ومن فتاوى فقهاء سوس، مع الصياغته القانونية المفصلة.
التعديل الثاني وهو أيضا سبقت الإشارة إليه، وهو أن ينص على أن التعدد الذي يسمح به هو الذي تكون فيه الزوجة الجديدة قد أكملت الثلاثين سنة من عمرها، أو تكون أرملة، أو مطلقة. بالإضافة إلى الشروط الأخرى المنصوصة في مدونة الأسرة.
- سبق أن أعلنتم في حوار سابق مع “الأيام” عن موقف متقدم في مسألة مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية، والذي أثار ردود فعل متباينة في الأوساط الإسلامية، ما هي الأسس التي استندتم عليها لاتخاذ هذا الموقف؟
** موقفي هذا لا أعتبره لا متقدما ولا متأخرا.
وهو يقوم على أساس أن التحريم يحتاج إلى دليل، لكن ما يقدم من أدلة للتحريم للمصافحة بين الرجل والمرأة لا يفيد ذلك في الحقيقية، فالتحريم في نظري إنما جاء وتقَوّى من طبيعة المجتمع، أكثر مما هو ثمرة للأدلة الشرعية.
فحين يستهجن الناس المصافحة بين الرجل والمرأة ويعيبونها ويستقر ذلك بينهم، يسهل على الفقيه أن يقول بالتحريم ولو بمستندات ضعيفة وبعيدة، في حين لا يوجد في النصوص ما يفيد التحريم بشكل صريح يعول عليه. وعلى سبيل المثال يستدل أهل التحريم بحديث “لَأَنْ يُطعن في رأس رجل بمخيط من حديد , خير له من أن يمس امرأة لا تحل له “، وهو عند عامة المحدثين حديث ضعيف. وحتى إذا نظرنا في معناه تجوزا نجد أنه لا يحرم المصافحة ولا يتعلق بها، ومسُّ المرأة ورد في القرآن بمعنى الجماع. وعليه فالمس في هذا الحديث الضعيف قد يكون المراد به الزنا وما يتصل به. وهذا الذي يتناسب مع ما فيه من وعيد شديد.
ونأتي إلى حديث صحيح يستدلون به على التحريم، وهو في الحقيقة أكثر دلالة على الإباحة منه على التحريم، وأعني به حديث عائشة أن النبي حين جاءته النساء يبايعنه لم يصافحهن وقال: “إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة”، وقالت عائشة رضي الله عنها “ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه يبايعهن بالكلام..”.
ولنا أن نتساءل: لماذا الرسول قال: إني لا أصافح النساء، ولم يقل لا تصافحوا النساء، أو لا يصافح النساءُ الرجال، علما أنه كان يشرع للأمة؟ لقد كان المفروض لو أنه أراد التحريم أن يقول للمرأة التي تريد مصافحته “لا تجوز المصافحة” أو: “لا تصافحي رجلا”، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم “فإني لا أصافح”، والعبارة واضحة في الخصوصية أي أنه هو تنزه واختار عدم المصافحة عند المبايعة، وأنا أقول كذلك: من تنزه أو تنزهت عن هذه المصافحة فهو أسلم وأطهر، ولو صافح فلا بأس. مع العلم أن المصافحة التي أتحدث عنها هي المصافحة العابرة التي تقع بصورة عفوية عرضية، كما يقع بين الأقارب ونحو ذلك.
وأما الدليل الصريح عندي على أن المصافحة بين الرجال والنساء ليست محرمة ولا بأس بها، فهي الأحاديث الواردة في شأن تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع الضعيفات وذوات الحاجات. من ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال: (إنْ كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت). وفي رواية أخرى عند غير البخاري: (فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في حاجتها).
والحديث واضح وفي غنى عن أي تفسير أو تأويل.