الحركة الإسلامية والعواصم من القواصم
الحركة الإسلامية والعواصم من القواصم
التمسك بالمشروعية
تتشكل إحدى القواصم التي تقضي على الجماعات المنظمة أو تشل حركتها وفاعليتها من وجود أزمة مشروعية في بناء الجماعة أو في تسييرها وتدبير شؤونها. وأعني بالمشروعية قيام الجماعة وتسييرها وفق مبادئ وقواعد محددة متفق عليها، مع الدوام على ذلك، في جو تسوده حرية التفكير وحرية التعبير وحرية المبادرة في إطار القواعد المعتمدة.
التمسك القوي والنزيه بالمشروعية يمثل إحدى العواصم المنجية من عدة قواصم. فحينما تكون المشروعية مفقودة أو مختلة، لفائدة الاستيلاء والاستبداد، أو لفائدة التحايل والالتواء، أو لفائدة الضغط والكبت، أو لفائدة خرق القواعد بشتى التبريرات والاستثناءات حتى يصير الاستثناء هو القاعدة. حينئذ تنبت وتنمو الأمراض والأجواء المرضية، وتحتاج الجماعة إلى أدوية كثيرة لكن مع جدوى قليلة. وكلما استمر فقدان المشروعية أو الإخلال بها وبمقتضياتها، كان استفحال الأمراض والأجواء المرضية أكثر. فتكثر التعليقات والانتقادات الهامشية. وتصبح المواقف تتبلور أو تتقرر خارج إطارها الصحيح، وتتشكل الجيوب والدروب، وتتأسس الأجنحة والتيارات، وتبدأ القابلية للتصدع والانشطار، وربما التبخر والاندثار، وتلك هي القاصمة، فلنعد إلى العاصمة.
المشروعية النزيهة، والمشروعية الشفافة، والمشروعية المؤسسية، تعصم من كل ما سبق وتهيء المناخ الصحي والشافي إذا ظهر شيء مما سبق.
ففي ظل المشروعية والحرية يأخذ كل واحد مكانه، ويأخذ كل رأي حظه، وتأخذ كل فكرة حقها وكل مبادرة مقامها.
في ظل المشروعية تسود الثقة داخل الجماعة وتتحصن، فيما بين مسؤوليها وفيما بينهم وبين عموم أعضائها.
في ظل المشروعية والحرية تنتفي الحاجة إلى الجيوب الكواليسية والدروب الإبليسية، لأن المشروعية تسع الجميع وتنصف الجميع وتتلاشى احتمالات الشقاق والانشقاق.
المشروعية لا تمنع ظهور ذوي الأهواء والرعونات، ولكنها تجعلهم بلا أثر ولا ضرر.
والمشروعية الصلبة لا تمنع نزول المحن وتسلل الفتن ولكنها قادرة على استيعابها وتجاوزها والاستفادة منها (يا نار كوني بردا وسلاما).
وتحضرني في هذا المقام قولة عميقة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، طالما أثارت دهشتي وحركت شجوني. وسياق هذه القولة كما في صحيح البخاري هو >أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (لجماعة من الصحابة): أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال. قال: هات إنك لجريئ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم >فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر< قال ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها. إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال يفتح أم يكسر؟ قال: لا بل يكسر. قال ذلك أحرى أن لا يغلق…<.
فالباب الذي يفتح حتى ولو فتح بالسوء والشر يمكن أن يغلق، ويبقى قابلا للإغلاق. وهذا هو ما يقع في ظل المشروعية وفي ظل الاحتكام إلى المشروعية وقواعدها ومؤسساتها، وأما الباب الذي يكسر، أي يفتح بمنطق الفوضى والقوة والغلبة والغدر، فلا يبقى قابلا للإغلاق، لأنه بكل بساطة قدتم تكسيره وتخريبه. ولن يتأتى إغلاقه إلا بعد بناء جديد. وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن بطال في شرحه لعبارة عمر >ذلك أحرى أن لا يغلق< قال:>إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح (أي في الأبواب السليمة) فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر< (فتح الباري 7/310)
وقد دخلت على المسلمين في تاريخهم فتن وشرور كثيرة. ولكن ضررها وطول أمدها إنما كان بسبب أنها دخلت بعد تكسير الأبواب، مع أن تكسير الأبواب هو نفسه جزء من الفتنة. وبذلك نصبح أمام فتنة ثلاثية: تكسير الأبواب (أي تحطيم المشروعية)، ودخول الفتن بعد تكسير الأبواب على مصاريعها، ودوام الفتن واستشراؤها لعدم إمكان غلق الأبواب المكسرة. ويصبح علينا العمل والمواجهة على ثلاث جبهات: مواجهة الفتنة التي دخلت وأخذت في الاستشراء، وإيقاف تدفق الفتنة من الأبواب المحطمة، والعمل على إعادة بناء هذه الأبواب.
وأما في حال وجود الأبواب وبقائها سليمة، وذلك هو وجود بناء قائم على المشروعية وقواعدها، مع الالتزام بها والاحتكام إلى هيئاتها، فإن الفتنة التي تدخل أو تتسرب من أي باب، يمكن محاصرتها ويسهل القضاء عليها وتجاوزها. لأن الباب الذي يفتح قد يفتح بمقدار محدود لا على مصراعيه، ثم فور الانتباه إلى ما يدخل منه يمكن إغلاقه أو إحكام إغلاقه. فتبقى الفتنة محدودة ومحصورة وعابرة، وربما نافعة.
فهذه ثانية العواصم من القواصم.
أحمد الريسوني
نشر في التجديد يوم 28 – 07 – 2003