العدل والحرية أساس التقدم والتمدن..
العلامة محمد الطاهر ابن عاشور:
العدل والحرية أساس التقدم والتمدن
“.. العدل أصل العمران، وبه قامت الأرض ودامت الدولات، وكان أهمُّ ما ينشأ عنه صفتين إن هما تحققتا سعدت الأمة ودام بقاؤها، ألا وهما: الحرية، والأخوة.
فإنّ الحرية إن لم يكن معها عدل ذبُلت حتى تسَّاقطَ إلى الحضيض؛ إذ حقيقتها أن يأخذ المرء بكل حقوقه، وأن يفي بجميع حقوق غيره، وأن يصدع بآرائه. وهذا كله لا يكون بغير العدل، كيف يجد المرء بغير العدل الأخذَ بكل حقوقه وهو يرى الكثير منها مستترًا في حصون العظماء، فلا تستطيع يده وصولًا إليه، ولا فمُه أن يبدي حنينًا إليه؟ أم كيف يمكنه أن يُسلِّم حقوق غيره وهو إن تُرك أخذ حقه وزاد.. وكيف يمكنه التجاهر برأيه وهو يعلم أن كلمة تُغضب زيدًا، وعملًا يسوء عَمرًا، فلا يأمن من الأذى بأصنافه؟ وبهذا ينمحي تغيير المنكر والأمرُ بالمعروف من الناس؛ ذلك الوصف الذي إن فقدوه فسدوا وذلوا، قال عمر بن الخطاب لأبي مريم الحنفي يومًا: إني أبغضك لأنك قتلت أخي زيدًا، قال أبو مريم: يا أمير المؤمنين هل يُعدمني بغضك إياي حقًّا لي في الإسلام؟ قال عمر: اللَّهم لا، قال أبو مريم: إذن، لا يرغب في الحب إلا النَّساء.
أما التآخي فضروري أنه لا يحصل ما دامت الأمة متنافرة، هذا يسلب حقًّا، والآخر يسترجعه، وثالث يرى سلب الأول إياه ملكًا، فيثأر بحب أخذه من يد مسترجِعِه. وكذلك يكون أمرهم تنازعًا حتى يفشلوا وتذهب ريحهم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله». فانظر كيف قرن بين الأخوة ونفي الظلم…”
تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة (ص: 64)