حوار فقهي فكري سياسي أجرته جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني (ج1) 12/4/2018
حوار جريدة (الأيام) مع الأستاذ الريسوني
الجزء الأول
أجرت أسبوعية (الأيام) حوارا مطولا مع الأستاذ أحمد الريسوني، تناول الكثيرَ من القضايا الإسلامية الراهنة: الفقهية والأصولية والفكرية والسياسية. وقد نشر الحوار في أربعة أجزاء، ابتداء من العدد 801 (بتاريخ 12أبريل2018)، ثم الأعداد الموالية: 802و803و804.
أجرى الحوار الصحفي محمد كريم بوخصاص.
وفيما يلي الجزء الأول، تليه الأجزاء الأخرى في الأيام القليلة المقبلة، إن شاء الله تعالى.
- يعيب البعض على العلماء والدعاة الإسلاميين تشبثهم بالتراث الإسلامي في الوقت الذي نشهد ثورة علمية غير مسبوقة، هل أنت مقتنع بضرورة توظيف التراث في عالم اليوم؟
** قبل الحديث عن مسألة توظيف التراث ينبغي التأكيد على أن التراث يشكل خلفيتنا التاريخية والحضارية والنفسية، وأمة بلا تراث هي أمة بلا ماض ولا سلف ولا شخصية، فلا يمكن إلا أن تكون تابعة وذليلة وليس لها أي إحساس أو اعتزاز بنفسها ومكانتها وإنجازاتها، لذلك فإن الأمة التي تعي دورها واحتياجات نهضتها وتماسكها لا تستغني عن تراثها، خصوصا أن التراث يمنح الأجيال إحساسا جماعيا بالذاتية والاستقلالية والرسالية، ويجعلهم يقتنعون بأنهم شيء ما في هذا التاريخ والوجود، وأنهم امتداد لإنجازات وقدرات عظيمة، وأنهم كما أعطوا للعالم سابقا يمكن أن يعطوا اليوم، وهذا التراث ليس مجرد “توظيف” لكنه “تأسيس” إن صح التعبير، بعد ذلك نأتي إلى مسألة التوظيف.
التوظيف يطرح سؤالا: هل تراثنا لا قيمة له؟ طبعا قد يقول بهذا الرأي الذين لا يعرفون حرفا واحدا من تراثهم، وبالفعل هناك بعض المثقفين الفرنكفونيين أو الذين يخلو تكوينهم من أي ثقافة إسلامية، وينطبق عليهم ما يقال “من جهل شيئا عاداه”. عندنا فئات تعادي التراث لأنها نشأت على ذلك، جهلته أولا، ثم لُقنت كراهيته واحتقاره، باعتباره شيئا ينتمي إلى “القرون الوسطى”، فهو شيء “قرسطوي” مرفوض… فهؤلاء على كل حال موجودون، ويستحقون كل شفقة. أما غيرهم من قوميين ويسارييين وإسلاميين، فإنهم يعلمون أن التراث فيه كنوز في العلوم الشرعية والاجتماعية واللغوية وغيرها، ينبغي الاستفادة منها كما استفاد غيرنا. فقط قد يقع الاختلاف في تفاصيل هذه الاستفادة ومقدارها ومجالاتها. وأكثر الذين درسوا التراث الإسلامي وروجوا كنوزه ونفائسه من المغاربة المعاصرين شخصان مختلفان تماما في توجهاتهما الفكرية، وهما عبد الله كنون، ومحمد عابد الجابري.
ومن المعروف أن الأوروبيين أنفسهم قد استفادوا في نهضتهم من علماء الأندلس، من فلسفة ابن رشد وأنواره، ومن فكر ابن خلدون وتحليلاته ونظرياته، كما استفادوا من أبحاث أطباء ومؤرخين وجغرافيين مسلمين، فمن باب أولى أن نستفيد نحن منهم ونعرف ونقدر قيمتهم ودورهم الحضاري.
من جهة أخرى، وهي الأهم بالنسبة لعموم المجتمع، فإن جزءا كبيرا من تراثنا العربي والإسلامي هو تراث ديني، وما دام للدين مكانته المحفوظة في المجتمع، ولا أحد يستطيع أن يزحزحه، فالتاريخ الإسلامي خلف لنا إرثا دينيا ضخما أنتجه مفسرون وأصوليون وفقهاء ومحدثون ومفكرون، تركوا لنا مدارس ومذاهب في فهم الدين وفقهه، تشكل اليوم جسورا لنا نحو الدين نفسه، لا يمكن الاستغناء عنها ولا محوها، وهنا تأتي بصفة خاصة القيمة الدينية للتراث العربي الإسلامي.
هذه بصفة عامة جوانب عن أهمية التراث، تؤكد أنه لا غنى عنه ولا أحد يستطيع إقصاءه أو تنحيته.
- ماذا تقصد بالتراث الديني؟ وهل كل ما خلفه أجدادنا من تراث ديني يصلح لواقعنا المعاش؟
** أولا، تراثنا ليس كله تراثا دينيا، بل يدخل في إطاره كل ما أنتجه أسلافنا في التاريخ والجغرافيا والطب والفن والموسيقى والخرائط والفيزياء والكيمياء والأدب والزراعة، وغيرها من العلوم والفنون والإبداعات، وهذا يعني أن تراثنا ليس بالضرورة تراثا إسلاميا فقط، أي تراثا دينيا، فالمعروف بشهادة المنصفين الأوروبيين، أن المسلمين أنتجوا في كافة العلوم، حتى أن بعضها وضع العلماء العرب والمسلمون أُسسها التي قامت عليها النهضة الأوروبية.
كما يدخل في التراث الفنون الموروثة كالموسيقى الأندلسية والملحون والزخرفة والعمارة، وأنا أتذكر على سبيل المثال أنه في وقت من الأوقات لاحظ الملك الراحل الحسن الثاني فوضى في الهندسة المعمارية، حيث أصبحت المباني بلا هوية، فأصدر أمره للمهندسين المعماريين باعتماد معالم الهوية المغربية الإسلامية في المعمار. عندنا تراث معماري ما زال يُطلب في عدد من الدول، كالجبص والزليج وهندسة الصوامع والقصور.. إلخ، وهذا الذي نعنيه بالتراث الإسلامي، هو مصطبغ بالتراث الديني لكن ليس كله دينيا، فالمقصود بالتراث الديني العلوم والدراسات التي تدور حول القرآن والسنة وما يؤدي إلى فهمهما وتفسيرهما وتطبيقهما.
- لكن هل كل تراثنا الديني ينبغي التشبث به؟
** ما معنى أن نتشبث به؟ إذا كان الأمر يتعلق بمعرفته ودراسته وتقديره ولو في سياقه التاريخي، أقول: نعم، جميع التراث ينبغي معرفته ودراسته واحترامه. لكن هل نتمسك به كما هو؟ هذا هو السؤال الأهم، أقول: لا. لا شيء منه يجب أن نتمسك به بحذافيره، بل كل ما هو موجود في تراثنا يؤخذ منه ويرد، والإمام مالك رحمه الله كان يقول: كل واحد يؤخذ منه ويرد، إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن تراثنا الفقهي والتفسيري والفلسفي والأصولي يؤخذ منه ويرد، لأن الكثير من الأقوال هي بنت سياقها، ثم كل عالم يصيب ويخطئ، وإذا كان تراثنا في القرن العاشر هو غير تراثنا في القرن الخامس أو الثالث أو السابع، فمن حقنا نحن ومن باب أولى وقد عرفنا هذه التطورات الهائلة والمذهلة أن يكون تراثنا وتديننا وفكرنا اليوم مختلفا قليلا أو كثيرا حسب ما تقتضيه حاجاتنا وما يقتضيه البحث والتقييم لتراثنا القديم.
إذا ليس كل ما في التراث يجب الالتزام به والقول به، بل ينبغي أن ننتج ونبدع ونطور ونراجع ونغربل ونأخذ ونرد. فتقديس التراث والتوقف عنده غلط، مثلما أن تنحيته والتنكر له غلط.
- فكيف السبيل إلى غربلة هذا التراث؟
** المسؤول عن غربلة التراث هم المتخصصون فيه، وغيابهم أو نقصهم هو الذي يفسح المجال أمام الشباب أو أنصاف المثقفين المتدينين ليأخذوا من التراث ما يصلح وما لا يصلح وما ينفع وما يضر.
لا بد لكل ما أنتجه تراثنا أن يكون فيه متخصصون ودارسون، بما في ذلك الطب مثلا، ودعني أتساءل معك: لماذا يزدهر مؤخرا طب الأعشاب والطب الشعبي ونحن في أوج التقدم الطبي؟ صحيح قد يكون الأمر مرتبطا أحيانا بالفقر وصعوبة الوصول إلى العلاج في المستشفيات والمصحات، لكن لا يمكن تجاهل أن المرضى يجدون عند العشابين والمعالجين الشعبيين فائدة حقيقية، ولهم تجارب وخبرات متوارثة بعضها منصوص عليه في الكتب، وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. وهنا أقول باختصار: في كل شيء من تراثنا نافع وضار، وفي تراثنا الديني والثقافي هناك عدد من الأمور هي مثل الأدوية والأغذية التي إذا انتهت صلاحيتها ومدة استعمالها تصبح سامة وضارة. ولكن هذا إنما يقدره ويقوله العارفون المنصفون، وليس الجاهلون بها الكارهون لها.
ونحن إذا أخدنا التفاسير القديمة مثلا سنجد أن فيها أشياء ضارة وغير نافعة، وأشياء ما زالت تثبت جدارتها وقامت على الدليل والعلم، هذا كله يحتاج إلى تمحيص من متخصصين وليس كل واحد يستطيع أن يدلي في ذلك بدلوه.
- إلى متى سننتظر من يغربل التراث، ونحن نرى بيننا متطرفين يختفون وراء التراث لتبرير تطرفهم؟
** أما أسباب التطرف وعوامل تغذيته فمتعددة كما هو معلوم، جزء منها يرجع بالأساس إلى سوء فهم التراث، ودائما عند الحديث عن هذا الموضوع أسترجع قصة ذكرتها مرارا في حواراتي، فقد ذهب السفير الأمريكي بعد أحداث 16 ماي 2003 عند أحد علماء المغرب، الذي لولا أن تسميته قد تزعجه لسميته، وسأله عن أسباب ما جرى بالمغرب؟ فرد العالم: السبب هو تهميش القرويين وتعطيل دورها، فتعجب السفير من رده، فقام العالم المغربي يشرح له كيف أن القرويين كانت عبر تاريخها تملأ ربوع المغرب بالعلماء والمدرسين والوعاظ، الذين كانوا يقدمون ثقافة دينية متوازنة، ويعرفون تنزيلها ويضعون الدواء على الداء، ويراعون الظروف والمتغيرات دون أن يحصل شيء مما يحصل اليوم.
المشكل اليوم أن هناك فراغا في الثقافة الدينية تملؤه شبكات الأنترنت والمواقع والفضاءات الإلكترونية المختلفة، الجميع يعرف أن الثقافة الدينية في الأزهر أو القرويين أو الزيتونة لم تنتج إرهابيا واحدا، وإذا أخدنا رموز الإرهاب سنكتشف أن لا علاقة لهم بالتراث، فأيمن الظواهري طبيب، والزرقاوي كان مهندسا، وأسامة بن لادن مهندس ورجل أعمال، وليس فقيها أو أزهريا، كما أن الشباب الذين تأثروا بهم وساروا على نهجهم لا علاقة لهم بأي مدرسة أو مؤسسة دينية، بل هم طلبة فيزياء وكيمياء ورياضيات وطب وهندسة وضباط سابقون…
إذا فمن أسباب التطرف غياب الثقافة الدينية وليس حضورها أو كثرتها، وقد قلت أكثر من مرة أن الذين صاروا في طريق التطرف أو الذين يقودونه تنطبق عليهم مقولة: كيف تصبح كذا وكذا في خمسة أيام بدون معلم؟ وكيف تصبح شيخ ومفتيا وإماما للشباب في سبعة أيام بدون معلم؟
قديما كان العلماء يقولون إن العالم الذي يتعلم بالكتب وحدها دون شيوخ تكون فيه رعونة وتشدد وشذوذ، لأنه لم يتعلم من الشيوخ، ولم يأخذ منهجهم وأدبهم، ولم يسمع إجاباتهم على الإشكالات ودقائق الأمور. لكن اليوم نرى من يقرأ الآية أو نصف الآية فيحمل مباشرة السلاح ليطبقها بكل رعونة وتهور وقصور. بعض الشباب اليوم يذهبون إلى التراث بأنفسهم ويأخذون أغذية وأدوية ووصفات انتهت صلاحيتها، أو يأخذونها بغير شروطها.
- كيف نوازن بين التراث والحداثة لخلق جيل معافى من أمراض التطرف والغلو؟
** هذا أمر تناوله عدد من المفكرين منذ القرن 19 ومطلع القرن 20، وقد أكد عدد من العلماء قديما أن شيئا فيه مصلحة حقيقية لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال متنافيا مع الدين، وإذا ظهر التنافي فلا بد أن هناك خللا يجب البحث عنه وتسويته.
عموما ليس في الدين ما يسد أي باب من أبواب الخير والتطور والمصلحة والحقائق العلمية والتجارب الصحيحة، هذا هو الأساس العقلاني المنهجي الذي يجعلنا نستوعب كل مكتسبات الحداثة ونتفاهم معها ونندمج فيها وندمجها فينا.
ولكن الحداثة التي تسأل عنها، ما هي أولا؟ عن أي حداثة نتحدث؟ وهل الحداثة ديانة جديدة لها مقدساتها وطابوهاتها ومسلماتها؟
كما تحدثنا عن التراث ينبغي أن نحدد المقصود بالحداثة؟ وهل هي كل لا يتجزأ؟ هل هي متصفة بالكمال والعصمة؟ أم هي اجتهادات وتجارب بشرية يؤخذ منها ويرد؟
إذا كانت الحداثة تعني الديمقراطية والعقلانية ودولة المؤسسات، ودولة الحق والقانون، ومجتمع العلم والمعرفة، فهذا لا إشكال ولا إشكال معه أبدا، وإذا كان في مجتمعنا حداثيون لادينيون وحداثيون لهم نظرة معينة للدين ويساريون ويمينيون وإسلاميون بأشكال متعددة، يحق لنا أن نتساءل هل الإسلاميون أقل حداثة ضمن هؤلاء؟ وما الذي ينقصهم من الحداثة؟حداثة الإسلاميين لا ينقصها سوى قلة الحياء.
أنا قبل قليل (الأربعاء 7 مارس) كنت أقرأ مقالا في أحد المواقع الإلكترونية عن التجربة الديمقراطية للإسلاميين، وضرب صاحبه مثالا بحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب “تواصل” الموريتاني، اللذين عقدا مؤتمريهما في دجنبر الماضي وغير الأول رئيسيه وزعيميه (عبد الإله ابن كيران)، وغير الثاني مؤسسه ومُنظره (محمد جميل ولد منصور)، وكل ذلك بطريقة حداثية ديمقراطية منضبطة لا تستطيعها أحزاب يسارية أو حداثية. وأتذكر أني قرأت في أيام الانتخابات الجماعية والتشريعية السابقة عددا من التقارير الإعلامية لصحافيين مغاربة يؤكدون أن حزب العدالة والتنمية هو الأكثر استعمالا للأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
ليست الحداثة في جوهرها سوى الديمقراطية النزيهة والنظر العلمي الواقعي للأشياء، وقيم الحق والعدل. وهل تجربة حزب الإسلاميين في المغرب قاصرة من ناحية الحداثة؟ هل تدبيره الحكومي وفي المجالس المنتخبة وفي عمله البرلماني أقل حداثة من غيره؟ هل عنده أزمة حداثة؟ لا أبدا. صحيح يوجد بعض الإسلاميين السلفيين، أو سلفيو السلفيين – لأن السلفييين شريط طويل متنوع الألوان – لديهم مواقف سطحية وغير قادرة على الاستيعاب والهضم، لكن عامة الإسلاميين وخاصة المثقفين منهم نجحوا نجاحا كبيرا في التعامل الإيجابي المتبصر مع الحداثة بكل مكتسباتها الإيجابية وفي جميع مجالاتها.
لكن مما لاشك فيه أن أي متدين لن يتفاعل إيجابيا مع بعض إفرازات الحداثة المتمثلة في بعض القيم والسلوكات الرديئة اللاأخلاقية. أما الحداثة في أسسها الحقيقية وخطوطها العريضة فلا أحد من علماء الإسلام: من محمد عبده والأفغاني والكواكبي، إلى ابن عاشور وعلال الفاسي وابن باديس والحجوي الثعالبي وعبد الله كنون والمختار السوسي إلى الآن، عنده إشكال أو خصومة معها.
- ما زالت الأمة تتمسك بما صدر عن المذاهب الأربعة علما أن أئمتها عاشوا قبل قرون عديدة؟ لماذا لا يحصل تجديد أو شيء من هذا القبيل يغني الأمة عن التمسك بهذه المذاهب؟
** التمسك بالمذاهب الأربعة له شقان: الشق الأصولي والشق الفروعي، فأصول المذاهب أصول كبرى ما زالت وستبقى ثابتة، وهي القرآن السنة والإجماع والمصلحة والقياس والعرف وقواعد فقهية أصولية، وهذه تثبت جدارتها ومكانتها بنفسها. أما الإنتاج الفروعي أو تفاصيل ما أنتجته المذاهب الأربعة فلا نجد أحدا من العلماء المعتبرين، يقول بضرورة التمسك بكل ما فيه وإلى الأبد، صحيح قد تجد شيئا من هذا عند بعض الضعفاء ممن ينتسبون إلى الفقه، لكن العلماء الحقيقيين في جميع العصور لا أحد منهم يقول يجب أن تبقى الأمور كما هي وأن الاجتهادات التي وضعت للقرون الماضية تصلح لجميع القرون.
عندنا أحكام ثابتة قطعية تصلح لكل العصور ولا ترتبط بالمتغيرات، لكن الفروع والاجتهادات الظرفية والزمانية والمكانية تتغير باستمرار، والإمام مالك الذي ننتسب له في المغرب كان له مجلسان في المسجد النبوي؛ مسجد للحديث وآخر للفقه. في الحديث كان يكتب الناس عنه ما يقول، وفي المجلس الفقهي كان ينهاهم عن كتابة إجاباته وفتاويه، لأنه كان يخشى أن تصبح مؤبدة وتتناقل في مختلف الأقطار، مع أنه هو نفسه قد يغيرها. بل أكثر من هذا مما قرأته في سيرة ابن هرمز شيخ الإمام مالك أنه جاءه شخصان من كبار تلاميذه وقالا له: أنت إذا جاءك مالك يسألك عن شيء تجيبه، وإذا سألناك نحن الاثنين لا تجيبنا. فقال لهما: أما مالك فإنه عندما أجيبه يناقشني فيقبل ويرد، أما أنتما فتقبلان كل ما أقول، سواء كان صوابا أو خطأ.
فهذا شيخ الإمام مالك يخشى أن يصبح ما يقوله كارثة في الدين إذا لم يخضع للنقد والمراجعة، والإمام مالك نفسه حين عرض عليه الخليفة العباسي أن يعتمد مذهبه وكتابه (الموطأ) في جميع مناطق الخلافة رفض ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين كل قطر سبقت له أمور وأقوال واجتهادات، فدع الناس وما هم عليه. وهذا يدل على أن الإمام مالكا كان يؤمن بأن الاجتهادات الفقهية تختلف حتى في الزمن الواحد، إذا اختلفت الأمكنة والأحوال وتعدد المجتهدون.
كما أن الإمام مالكا هو القائل “كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد”، فإذا كان هذا يقال عن الإمام مالك والصحابة والتابعين، فكيف إذا تباعدت العصور والأماكن.
في ذات السياق، كان الفقيه المالكي من أصل مغربي، شهاب الدين القرافي الصنهاجي، الذي ولد وعاش في مصر، يقول: إن اتباع أقوال المتقدمين على الدوام ضلال في الدين وجهل بمقاصد فقهاء المسلمين. لأن ما قاله فلان وعلان في هذا القرن وفي هذا القطر، في غالب الأحيان مرتبط بزمانه وظروفه وسياقه، فأَنْ تأتي أنت وتفتي بما قاله فلان على الدوام، ودون مراعاة للاختلافات والتغيرات، فهذا ضلال في الدين لذلك قال “على كل فقيه أن يراعي عوائد بلاده وزمانه ويبني عليها ويفتي بما يطابقها”.
- حتى نبسط الأمور أكثر، عندما يتبع المغرب بشكل رسمي المذهب المالكي فهل يقصد الأصول أم كل اجتهادات المذهب؟
** أنا عندي فهمي الذي أشرحه وليس بالضرورة هو ما عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وإن كانت الوزارة نفسها بدأت تتنبه إلى ما أقصده، ولذلك آخر ما رأيت نص قانوني صدر في الجريدة الرسمية يتعلق بتنظيم وظيفة القيمين الدينيين ونصوا فيه على أن من واجباتهم الالتزام بأصول المذهب المالكي، ولأول مرة استعملوا عبارة “الأصول”. لماذا؟ لأنهم أدركوا أن الدولة نفسها حتى في مدونة الأسرة لم تلتزم بالمذهب المالكي التزاما تاما، وإنما التزمت بأصوله فقط، وخرجت عنه في بعض الأمور الجديدة مراعاة للمصلحة وغيرها من الأدلة الشرعية، والمصلحة وسد الذرائع ومراعاة الخلاف ومراعاة العوائد، كلها من أصول المذهب المالكي.
- إذاً أنت تدعو إلى التشبث بأصول المذهب فقط؟
** نعم نتمسك بالأصول والقواعد المنهجية. وفي ضوء الأصول والقواعد نرى ونراجع الفروع، كما أنني لا أقول إن جميع الفروع انتهت صلاحيتها أو يمكن مراجعتها، فأحكام العبادات مثلا ثابتة، والأحكام المنصوصة بشكل صريح وقاطع أيضا ثابتة، ربما يطرأ عليها تغيير ضئيل، يتعلق ببعض الوسائل والأشكال الجديدة والصيغ التنفيذية…
مع العلم أن أصول المذهب المالكي وقواعد الاجتهاد هي نفسها تدلنا على ما يمكن تغييره وما لا يمكن. مثلا في عصرنا هذا أصبح عامة الفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم من المصلين يقبضون أيديهم في الصلاة، وهذا خلاف ما كان سائدا منذ قرون وقرون وإلى وقت قريب، حيث كان المشتهر في المذهب هو أن القبض مكروه. والآن صار هو المعمول به، لماذا؟ لأن الإمام مالكا روى أحاديث القبض في موطئه، ولم يثبت عنه السدل في يوم من الأيام، والقبض قال به فقهاء مالكية كبار من المغرب والمشرق، فظهر أن كراهية القبض كانت غلطا في النقل والفهم. وها نحن تركنا هذا الغلط ورجعنا إلى الصواب.
يجب على وزارة الأوقاف أن تفسح المجال لفقهاء المذهب ليجتهدوا ويراجعوا، وألا تفرض عليهم الحجر السياسي أو الإداري، سواء فيما يتعلق بالمساجد والعبادات وبعض الأمور التي فيها نظر أو نسبت للمذهب المالكي وتحتاج إلى تمحيص وتدقيق وتصحيح، أو بعض الأمور الجديدة المتعلقة بالمعاملات والحياة الاجتماعية. وحين يفتح باب الاجتهاد ليس بالضرورة أن يأتي بالصواب المطلق، لكن باب الاجتهاد ومبدأ الاجتهاد هو صواب مطلق، لأن الاجتهاد هو نفسه يصحح الخطأ الذي قد يقع، لذلك لا بد من فتح باب الاجتهاد لفقهاء المالكية في المغرب، وأن يجتهدوا بأصول المذهب المالكي ويقرروا أن يعدّل هذا أو يبقى هذا إلخ. هذا شيء ضروري.
وأنا دائما أقول: كل عصر يجب أن ينتج فقهه لنفسه، وحين ينتج فقهه سيستفيد من الفقه السابق بدون شك، وسيبقي الشيء الكثير منه، ولكن سننتج فقها جديدا بنسبة كبيرة هي بنت زماننا وظروفنا واحتياجاتنا.
- على ذكر مدونة الأسرة، هل تعتبرونها تجديدا من داخل المذهب المالكي؟
** هي تجديد مقبول في مجمله، فيها اجتهادات جيدة نبعت من أصول المذهب ومن احتياجات وتطورات زمانها، وكما هو معروف وعشناه جميعا، فالهيئة التي تداولت في هذا الموضوع كانت واسعة ومتعددة الاختصاصات، كانت تتكون من الفقهاء بالدرجة الأولى، إلى جانب قانونيين وحقوقيين وفاعلين في الحركة الإسلامية لهم اختلاط بالواقع، والمذهب المالكي ظل المرجعية الكبرى لهذه المدونة، وإن كان المذهب المالكي نفسه لا يمنع من الاجتهاد، والمقصود بالاجتهاد هو الإتيان بغير ما قال به الأولون، لكن الأصول لم تخالف بطبيعة الحال. ليس هناك شيء صريح في المدونة مخالف لأصول المذهب المالكي، ربما الشيء الوحيد الذي قد يكون مخالفة واضحة للمذهب، هو قضية إسقاط الولاية في عقد الزواج، الذي تم أخذه من المذهب الحنفي، وهو على كل حال لم يخرج عن دائرة الفقه الإسلامي. ومن المعروف قديما عن فقهاء المغرب بالخصوص، والأندلس بصفة أخص، أنهم خالفوا الإمام مالكا في عدد من الاجتهادات، لاختلاف الظروف المكانية والزمانية. المشكل الأبرز الذي صاحب إعداد المدونة الجديدة، وهو من سلبيات زماننا، هو الحملات الإيديولوجية والسياسية المكثفة، التي كانت تتعمد التشويش والضغط والتأثير على التفكير العلمي والمعالجة الموضوعية النزيهة.
- أنتم، وكما تقدم، من أكثر الداعين إلى إنشاء فقه جديد لهذا العصر، ما هي معالم هذا الفقه؟
** في البداية ينبغي تحديد مفهوم الفقه، لأن عددا من الناس يخلطون بين الشريعة والفقه، فالشريعة تطلق على كل ما هو منزل كما قال تعالى “ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها”، لكن الفقه هو فهمنا للشريعة وبناؤنا عليها بالقياس والاستنباط والاستلهام (نستلهم روحها ومقاصدها ونقيس على أحكامها المعروفة)، مع النظر إلى زماننا وأحوالنا، وكما أقول: المطلوب وضع عين على الشريعة وعين على الواقع لإنتاج فهم واجتهاد وممارسة وتطبيق جديد وجيد، فالفقه الذي أنتج في أي زمان لا يمكن أن يصلح كاملا لزمان آخر أبدا، والفقه في الأخير هو تفاعل ظرفي من حيث الزمان والمكان مع الشريعة، فلا يمكن أن نأتي بتفاعل الغزالي أو القرافي أو الشاطبي أو ابن تيمية لتنزيله بكامله اليوم، وفي حالة حصول ذلك فسيكون خطأ منهجيا ولن يعود فقها بل سيصبح محاكاة وتقمصا لا علاقة له بالعلم والفقه، لذلك فلكل زمان فقهه، وليس زماننا وحده هو الذي يحتاج إلى فقهه الخاص. ومن الأمثلة الشهيرة أن الإمام الشافعي له مذهبان: مذهب قديم كان عليه في العراق، ومذهب جديد صار عليه في مصر. وهذا وقع في نفس الزمان ونفس العصر.
تراثنا الفقهي نلتفت إليه ونتشربه وننهل منه، لكن يجب أن ننتج الجواب المناسب لكل لحظة ونازلة، وهذا ما يفسر ظهور “فقه النوازل” وغزارته في المنطقة المغاربية، لأنه لو كان الفقه القديم يغني لما ظهر، وأيضا ظهرت قاعدة ذهبية عظيمة عند مالكية المغرب، هي قاعدة “ما جرى به العمل”، والتي تعني أن القول المعتمد في المذهب يمكن العدول عنه بشروط معينة، فيقول الفقهاء “جرى العمل بكذا” وهو تغيير وانتقال في الحكم الفقهي المذهبي. ربما المقام لا يتسع لضرب العديد من الأمثلة وشرحها، ولكن العبارة الجامعة لهذه القضية هي أن الأقوال المعتمدة في المذهب وتعتبر هي قول المذهب، قد يأتي القضاة أو المفتون المعتبرون بمستوى علمي معين منصوص على شروطه، وفي ظروف معينة، فينتقلون من ذلك القول إلى آخر، قد يكون ضعيفا أو لم يسبق أن قيل به في المذهب، فإذا عمل به القضاة والمفتون دخل تحت قاعدة “ما جرى به العمل”، فيصبح هو المتبع والمعتمد. وهذا فتح الباب للتطوير العلمي المستمر في الزمان والمكان، فما عليه الفقهاء في قرطبة ليس ما عليه العمل في فاس، وما هو في فاس ليس هو ما في سوس أو القيروان. مع أنهم كلهم فقهاء مالكية.
لكن ونحن في زمان الحجر والوصاية على الفقهاء لم يبق شيء من هذا للأسف.
+++++++++++
- جاء في معرض حديثكم أن الموسيقى الأندلسية أحد مكونات التراث الإسلامي، لكن المعروف أن الفقهاء يحرمون الموسيقى، فما موقفكم من الموسيقى؟
** الموسيقى والغناء من الأمور التي فيها اختلاف فقهي قديم، والأقوال في المذهب المالكي ليست موحدة في هذا الشأن، بل حتى عند الإمام مالك نفسه تارة استحسن شيئا من الغناء سمعه، وتارة نقلت قولته المعروفة “إنما يفعله عندنا الفساق”، لكني أعتبر أن قوله هذا يصف واقعا ولا يعطي حكما فقهيا، بمعنى أن الموسيقى كما نرى اليوم مقترنة في معظمها بممارسات لصيقة بها ولو أنها ليست من صميمها، وهي مرفوضة قطعا.
وعندما يرى ويسمع الفقيه اليوم شهادات لعدد من رجال ونساء الفن يتحدثون عن كوارث يعيشونها من ابتزاز جنسي وغيره، فإن الفن يصبح في نظره طريقا نحو الفسق والفجور وهدر الأعراض.. وأعتقد أن هذا ما قصده الإمام مالك في قولته، فما أكثر الانفلاتات الساقطة في المجال الفني. لكني أرى أن هذا لا ينفي إمكانية تحرير الفن من هذه الممارسات، فإذا عزلنا الفن عن الممارسات المشينة والمرفوضة، وناقشنا الفن والموسيقى في حد ذاتهما، فالذي لا شك فيه عندي شخصيا هو الإباحة والجواز. وابن حزم – وهو فقيه كبير ومتشدد – نجده من القائلين بإباحة الغناء وآلات الطرب مطلقا، لأن ابن حزم من منهجه أنه ينظر في النصوص والأدلة ودلالاتها مجردة عن الواقع وملابساته، فلذلك قرر الحكم الأصلي وهو الإباحة. وغيره من الفقهاء نظروا إلى المسألة في ملابساتها الواقعية فذهبوا إلى المنع. فإذاً المسألة فيها نظر، فحين ينظر الفقيه من زاوية الاقتران بأشياء معينة، ثم هذه الأمور تؤول بصاحبها إلى أن يتفسخ وينحل ويترك الواجبات ويذهب مع المحرمات، فإنه يحكم على المجموع بالتحريم، لكن الذي يمارس نوعا من التمييز، فيعزل الفن هذه الملابسات والاقترانات فإنه يحكم حينئذ بالإباحة.
وعموما أنا أقول: إن الفن لا شك عندي في قبوله وإباحته، ولا شك في حتميته في المجمل للحياة البشرية سواء كان غناء أو موسيقى أو غير ذلك من الفنون، وأيضا لا بد من جعل هذه الفنون تستقل بنفسها وتتميز عن ملوثاتها، ولا ينبغي أن يظل الفن مقترنا بالعري والخمر والفسق والابتزاز الجنسي… وعلى هذا الأساس فالموسيقى الأندلسية نعتز بها لأنها كانت نموذجية في مضامينها وطريقة أدائها وأجوائها، لقد ظلت إنتاجا نستطيع أن نعتبره إنتاجا إسلاميا وفنا إسلاميا، وهناك فنون أخرى على نفس المنوال كالملحون الذي بقى من أرقى وأنقى الفنون.
- وما رأيك في الموجة الفنية الشبابية في المغرب؟
** أنا لا أتابع هذه الموجات أو التموجات، وقد يصلني شيء من رذاذها وضجيجها، كالذي ستعرفه شوارع الرباط عما قريب. ويبقى أن معيار القبول والاستحسان عندي هو: الجمال والجودة والفائدة والأصالة والإبداع الحقيقي، ومعيار الرفض والاستهجان عندي هو: الرداءة والتفاهة والإثارة الرخيصة. لكن الطامة الكبرى هي أن نسمع عن الفن، وفي النهاية لا نرى إلا استعراضات جسدية بذيئة ومبتذلة، ثم تصلنا روائح الفضائحية الفنية.
- ماذا عن موقفكم من الإنتاجات السينمائية؟
** المعيار هو المعيار والميزان هو الميزان. ما قلته عن الغناء والموسيقى ينطبق على الإنتاج السينمائي. وبالمناسبة أنا دافعت عن تمثيل الصحابة وحتى الخلفاء الراشدين، وكان ذلك بحضور الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان يعارض تمثيل الخلفاء الراشدين، لكنه اقتنع وغير رأيه في نفس المجلس، وكذلك فعل الشيخ المعتقل في السعودية سلمان العودة فك الله أسره وعجل فرجه. وقد كنت أنا والشيخ محمد الحسن الددو من موريتانيا ندافع عن جواز هذا العمل، بمراعاة شروط احترام هذه الشخصيات، وأن يكون تاريخها دقيقا وأمينا، وبما يليق بهم من الإجلال والاحترام. وهذا ما دافعت عنه بشدة وفي مناسبات عديدة.