الحركة الإسلامية والمسألة العلمية
الحركة الإسلامية والمسألة العلمية
الحركة الإسلامية المعاصرة تواجه تحديات كثيرة من جميع الأشكال وبجميع الأوزان الثقيلة والخفيفة والمتوسطة، تحديات من داخلها ومن ذاتها، وتحديات من خارجها. من محيطها القريب والبعيد. وقد لا يستقيم ولا يسلم لنا القول بأن التحدي الأكبر والأخطر هو التحدي العلمي، وهو المسألة العلمية، باعتبار أن كثيرا من المسلمين ومن العلماء والدعاة ومن الدول الإسلامية وشعوبها، إنما هم غارقون في تحديات سياسية واقتصادية وإعلامية وحزبية، وغارقون في نزاعاتهم وصراعاتهم المذهبية والحزبية والطائفية، فهي التحديات المخيمة على دنيا المسلمين بظلماتها ومآسيها وآثارها المدمرة على الأفراد والجماعات والدول والشعوب. وحتى على مستوى التدين والسلوك الفردي، فإن المسلم في الغالب ينقصه العمل بالدين أكثر مما ينقصه العلم به. بل قد يقال: هاهم حتى بعض العلماء والدعاة والمنتسبين إلى العلم الشرعي، هم أنفسهم مع ما لهم من علم، جزء من المشاكل والفتن والنزاعات والتحديات التي يعاني منها المسلمون. فهم سبب من أسبابها وطرف من أطرافها. فمشكلة هؤلاء، ومشكلتنا معهم، ليست في غياب العلم، وهنا قد يقفز من يقول: إن المشكلة الأساسية والتحدي المركزي إنما يتمثل في غياب التربية أو نقصانها…
إن حسم
هذا النقاش والجواب على ما في ضمنه من تساؤلات، هو نفسه عمل علمي قبل كل شيء،
ويؤكد أننا بحاجة إلى العلم أولا.
ومما
يدعو إلى العجب والإعجاب أن الإمام البخاري رضي الله عنه قد افتتح كتابه العظيم
بموضوع الوحي والإيمان، ثم أتبعه مباشرة بموضوع العلم (كتاب العلم). ومن أبواب هذا
الكتاب بابه العاشر الذي قال فيه: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى
(فاعلم أنه لا إله إلا الله) فبدأ بالعلم، وإن العلماء ورثة الأنبياء…<فكأنه رحمه الله أراد أن يقول: بعد الإيمان بالوحي تأتي الحاجة
إلى العلم قبل أي شيء آخر، دون أن يغيب عنا أن الإيمان بالوحي هو نفسه علم ويحتاج
إلى العلم.
على أن
أهمية العلم وأولوية المسألة العلمية لا تقف عند كون العلم قبل القول والعمل أي
أننا نحتاج إلى العلم قبل الدخول في العمل، وإنما تتجلى أكثر من ذلك في مسيس
الحاجة إلى العلم أثناء العمل وبعد العمل، وذلك من أجل مواجهة إشكالات العمل
وتحديات العمل ومنزلقات العمل ومتطلبات العمل ونتائج العمل ومآلات العمل… بعبارة
أخرى: إذا كنا نحتاج إلى العلم قبل العمل مرة واحدة، فنحن نحتاج إلى العلم أثناء
العمل وبعد العمل مرات ومرات.
وإذا
استحضرنا أن الحركة الإسلامية خاصة تواجه من الإشكالات والتحديات ما لا أجد له من
الأوصاف أقل مما جاء في بعض الأحاديث فتن كقطع الليل المظلم وأن هذه الفتن تحتاج
من العلم والفهم والتبين أكثر مما تحتاج من العمل والتضحية والجهاد، إذا استحضرنا
هذا علمنا مرة أخرى ثالثة أو رابعة أننا بحاجة إلى العلم أولا ومن الكلمات المضيئة
الملهمة في هذا المعنى، ما روي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
حيث قال لأصحابه وتلاميذه أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع. وسيأتي بعدكم
زمان يكون خيركم فيه المتثبت المتبين [1](
فحيث
تشتد الفتن والشبهات وتتعقد الإشكالات وتتلاحق المستجدات، يكون أفضل الناس المتثبت
المتبين أي صاحب البصر والنظر، وصاحب العلم والفهم، بخلاف حين تكون الأمور بسيطة
واضحة بينة، فخير الناس حينئذ أكثرهم عملا وأسرعهم مبادرة وأسبقهم إنجازا وتنفيذا،
ولاشك أن حاجتنا اليوم هي إلى الصنف الأول أولا، ولا غنى لنا عن الصنف الثاني
ثانيا.
ولكي
يكون العلم والعمل العلمي جزءا أساسيا من الحل، ولا يكون جزءا من مشاكلنا
وتحدياتنا، فإن علينا أن نناقش ونصحح ونحسم كثيرا من قضايا العلم مفهوما ومقصودا
ومنهجا. وعلينا أن ندرك جيدا مواطن الخلل والزلل في ذلك كله. ويحضرني هنا الكتاب
القيم الطريف للعلامة أبي الفرج عبد الرحمان بن الجوزي رحمه الله، وهو كتاب (تلبيس
إبليس) حيث ذكر فيها وحلل مظاهر الالتباس والتلبيس التي تقع فيها كل طائفة أو فئة
من الناس، من أهل مختلف الديانات والمعتقدات من مسلمين وغير مسلمين، ومن الصوفية
والعباد والزهاد، والأدباء والشعراء، والحكام والعوام… ولعل أطرف ما فيه وأعجبه
هو بابه السادس المخصص لذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم.
فها هم
العلماء أيضا وفي مجالهم العلمي ومجالهم التخصصي يصبحون واقعين تحت طائلة التلبيس!
فيا
علماء الدين يا ملح البلد ** من يصلح الملح إذا الملح فسد
ولاشك أن
ما ذكره ابن الجوزي من تلبيسات إبليس على أصناف العلماء في علومهم وتخصصاتهم، إنما
هي نماذج من زمانه، قد تكون باقية كلها أو بعضها إلى زماننا وعلماء زماننا وقد لا
تكون، ولكن المؤكد أن التلبيس لا حد لتناسله وتشكله.
إن
الجميع اليوم وقبل اليوم يتفقون على تمجيد العلم، وعلى المكانة الجليلة والرفيعة
التي أعطاها الإسلام للعلم والعلماء، وصغارنا قبل كبارنا يعرفون ويحفظون أن طلب
العلم فريضة على كل مسلم، وأن العلم نور والجهل عار… فكل هذا لا غبار عليه ولا
إشكال فيه عند أحد، والإشكالات والاختلالات لا تكون عادة في أصول المبادئ ورؤوس
المسائل، وإنما في تصور حقيقتها وترتيب أولوياتها وضبط قواعدها وتطبيقاتها…
علم
الدين بين الرواية والدراية
قد يكون
من المسلمات التي لا يناقش ولا يتردد فيها أحد أن العلم بالدين يقوم على ركنين
كبيرين هما الرواية والدراية.
فالرواية يقصد بها نقل القرآن والسنة من فرد لآخر أو لآخرين، ومن جيل لآخر، سواء بالمشافهة أو بالكتابة، مع ما يتطلبه ذلك من تحر وضبط ضمانا لسلامة المروي من الزيادة أو النقص أو التحريف…
والدراية يقصد بها الفهم والتفقه في معاني النصوص المروية وأحكامها ومقتضياتها، فعلى هذا يقوم العلم بالدين عند المسلمين عامتهم وخاصتهم.
غير أن
المشكلة تكمن في التفصيل والتنزيل، وما يتبعهما من تحقيق وتطبيق؛ فنجد كثيرا من
الناس من المعدودين علماء أو فقهاء، ومن المفكرين والمثقفين يخوضون في الدين
وأحكامه وكتابه وسنته، برواية دون دراية، أو بدراية يحسبونها دون رواية، أو بتكثير
أحد الركنين وتضخيمه مع تقليل الآخر وتحجيمه.
وإذا كان
الذين يتجاوزون الرواية ويجعلون الدين وأحكامه مجرد فكر ورأي، أو يهمشون الرواية
حتى تصبح نصوصها مجرد جزيرات في بحر أفكارهم ومذاهبهم وتحليلاتهم، إذا كان هؤلاء
قد ظلوا مهمشين ومتجاوزين بدرجة كبيرة عند عامة المسلمين، كما عند جمهور علمائهم،
فإن الأمر ليس كذلك مع الذين يتجاوزون الدراية ويقللون من شأنها ويقصرون فيها
اعتمادا على كثرة الحفظ والرواية.
فنظرا
لجلالة قدر القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن الحفاظ والرواة للكتاب العزيز
وللحديث الشريف، قد حظوا وحظي علمهم بتبجيل وتكريم بالغين عند المسلمين. وهم
يستحقون ذلك. لكن المشكل الذي حصل ويحصل هو أن يصبح حفظ القرآن الكريم والتفنن في
إتقان تجويده وترتيله، والإحاطة بقراءاته وحروفه، وأن يصبح حفظ الأحاديث والآثار
بمتونها وأسانيدها وطرقها وصيغها، هو العلم وهو منتهى العلم، وأهله هم العلماء.
إن
الإغراق في الرواية والانهماك فيها، وإعلاء منزلة أصحابها مع ضعفهم وقصورهم أو
تقصيرهم وتفريطهم في الدراية، يؤدي إلى أمرين كلاهما أسوأ من الآخر:
- تعطيل المعاني التي يحتاج استخراجها إلى الدراية والتدبر والتفقه.
- 2- ترويج الفهم السطحي والظاهري والسقيم للدين ونصوصه.
مما لاشك فيه أن في
نصوص الدين كثيرا من المعاني والأحكام الواضحة القريبة المنال، ولا يحتاج إدراكها
إلى كثير تفكر وتدبر. ولكن مما لاشك فيه أيضا أن الكثير من نصوص الدين وأحكامه
تحتاج إلى كثير من التدبر والتفكير، ومن البحث والمدارسة.
بل إن ما
يكون ظاهرا واضحا من نصوص الدين وأحكامه، إذا تدبرناه وتدارسناه وقلبنا وجوهه،
فإنه يعطينا أكثر مما تعطينا ظواهره وقطوفه الدانية، كما روى ابن عبد البر عن بعض
علماء السلف أنه كان يقول “ثلاث أحبهن لي ولإخواني: هذا القرآن يتدبره الرجل
ويتفكر فيه فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه. وهذه السنة يتطلبها ويسأل عنها.
ويذر الناس إلا من خير”[2]
فتدبر
القرآن والسنة والتفكير فيهما ومدارستهما، كل هذا يعطي المزيد من العلم ويعطي سداد
العلم. وهذه هي الدراية التي ينبغي ألا تنفك عنها الرواية. وقد أمر الله تعالى
بتدبر القرآن الكريم وشنع على الذين لا يفعلون {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب
أقفالها}[3] . فالتدبر شيء زائد على
مجرد التلاوة والفهم الأولي الظاهري. وفي الحديث الصحيح ( ما اجتمع قوم في بيت من
بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم…) الحديث. فجمع إلى التلاوة
المدارسة، التي هي البحث والنقاش وتقليب النظر. وفي هذا تجاوز لمجرد المعاني
اللغوية الحرفية والإدراكات الأولية. لأن هذه لا تحتاج إلى تدبر ولا مدارسة.
على أن
الدراية والتدبر والمدارسة لا تعني بالضرورة إبطال المعاني الظاهرية أو تعديلها.
فقد تكون هذه مطابقة لتلك. وهذا هو الأصل. ولكنها تعني زيادة فهم وزيادة علم،
وتعني استنفاد الطاقة الدلالية الكاملة للنص، بما في ذلك المعاني والدلالات المركبة
من عدة نصوص.
والمقصود
عندي الآن هو إثبات ضرورة الدراية والدراسة المتدبرة لنصوص الشرع منفردة ومجتمعة،
وأن الرواية وحدها مهما كثرت وتضخمت ليست هي العلم. وقد جاء في الحديث النبوي
الشريف ( نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها غيره. فرب حامل فقه غير فقيه،
ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) . فالحديث ينص على الوعي بالرواية قبل نقلها،
وينص على أن الرواي قد يكون غير فقيه بما يرويه، أو قد يكون أقل فقها من غيره. وكل
هذا مرجعه إلى الدراية وعدمها.
وقديما
كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول “إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور
جعله الله في القلوب” ويقول “العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء
وليس بكثرة المسائل”.[4]
فالعلم
في الحقيقة إنما يتجلى في البصيرة المستنيرة النافذة، وفيما تبصره من حقائق
الأمور، وليس بكثرة الجمع وكثرة الحفظ وكثرة السرد. قال ابن الجوزي رحمه الله
“فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها[5]“. (.
ومن هنا
وجدنا الإمام الغزالي رحمه الله يوصي طالب العلم الشرعي بقوله: “فينبغي أن
يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال، فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء
للعلم ولا يكون عالما. ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم. فلا يسمى عالما إذا
كان من شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار”[6]
جدلية
الوحي والرأي
منذ
القديم وإلى اليوم يمتلئ تراثنا العلمي والفكري بمناقشات نظرية وتطبيقية حول
المسألة المعبر عنها بمصطلحات متعددة من قبيل: النقل والعقل، الرواية والدراية،
الأثر والنظر، النص والمصلحة. هذه الثنائيات تتداخل وتتقارب أحيانا حتى توشك أن
تتطابق، وتختلف وتتباعد أحيانا أخرى، ولكنها في العمق تحوم حول شيء جوهري وأساسي
مشترك بينها، وهو موقع الإنسان وقواه الإدراكية فيما أنزله الله له من رسالة وكتاب
ومن شريعة وخطاب، وكيف ذلك وما حدوده؟
وقد
اخترت أن أعبر عن هذه المسألة بما هو مذكور في العنوان أعلاه دون غيره من التعابير
المستعملة وحتى الشهيرة منها، مثل (العقل والنقل)، لما وجدته في هذا الاختيار من
دقة ووضوح ونفاذ مباشر إلى جوهر القضية.
فالمسألة
إذن هي مسألة علاقة الوحي بالرأي، ومنزلة الرأي من الوحي، وهل الوحي يغني عن
الرأي، وهل الرأي يستغني عن الوحي؟ وإذا كان لابد منها معا فكيف يتعاملان؟
فأما أنه
لابد منهما معا في كافة شؤون الحياة الدينية والدنيوية فأمر لا يمكن تصور غيره إلا
بكثير من التعسف والمكابرة، ويشبه بعض العلماء هذا التلازم بين الوحي والرأي (أو
بين النقل والعقل حسب العبارة الأشهر) بتلازم العين والنور وضرورتهما معا للإبصار.
فالعين مهما كانت سليمة تامة النظر، فلن ترى شيئا بدون نور. وكذلك النور مهما كان
ساطعا قويا، فلن يجدي شيئا ولن ينتفع به أحد دون عيون مبصرة. والعين ترى قليلا أو
كثيرا، رؤية جيدة أو رديئة، بقدر سلامتها من جهة وبقدر درجة النور الذي تتحرك في
نطاقه وتعتمد عليه، وكذلك النور لا يكون نفعه وجدواه إلا بقدر ما وجد من عيون
سليمة صافية. ومن طرائف الأمثلة التي تحضرني في هذا السياق ما سمعته منذ سنين
طويلة من أستاذنا الدكتور عبد السلام الهراس حفظه الله حينما قال لي، ونحن نتحدث
فيما يعانيه بعض الدعاة والجماعات من نزاعات وخصومات، “إنهم يقرؤون القرآن
بعيون مريضة معمشة فيبدو لهم قوله تعالى {واعتصموا}: واختصموا”. وهكذا فعند
فقدان العيون المبصرة السليمة يصبح القرآن الكريم مصدرا للاختصام
بدل الاعتصام. ومن هنا لا يستغرب أن يقول الله تعالى عن كتابه العزيز {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} بينما هو في الأصل محض
الهداية {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}
فالانتفاع
بالوحي لا يكون إلا بالرأي السديد المسدد، والرأي لا يتحقق له السداد والأمان إلا
بالوحي، وبنور الوحي وهذا ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله (الأدلة الشرعية ضربان:
أحدهما ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي
بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر، لأن
الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا
استند إلى النقل)[7].
وقبل الشاطبي نجد الإمام الغزالي يقول “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل
والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع… فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع
بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد
والتسديد”[8]
والحقيقة
أن ما نقلته عن الإمامين الغزالي والشاطبي إنما هو تعبير من حيث المبدأ عما عليه
جماهير العلماء من مختلف المذاهب وإنما يبقى التفاوت والخلاف في درجة إعمال الرأي
مع الوحي وحدود ذلك وشروطه.
وقد شذ
عن هذا التوجه العلمي العام التيار الظاهري الذي حاول إلغاء أي دور للرأي والنظر
والتدبر في فهم نصوص الدين والبناء عليها وعلى نهجها. وإنما قلت التيار الظاهري
دون المذهب الظاهري لأن المذهب والانتساب الرسمي إليه قد انقرض، وحتى حينما كان له
وجود معلن وصريح، لم يكن يتجاوز بقعة هنا وبقعة هناك، سواء في الزمان أو في
المكان، لكن النزعة الظاهرية وجدت قبل داود الظاهري (ق 3هـ) وبعد ابن حزم الظاهري
(ق 5هـ)، بل توجد وتنتعش في زمننا هذا، وإن لم يعترف أصحابها بأنهم ظاهريون، ومنهم
دعاة وزعماء في الدعوة والجهاد.
العلامة
ابن حزم رحمه الله وهو الإمام الأكبر للمذهب الظاهري عرَّف الرأي بقوله
“والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان” وبعده عرَّف الاستحسان وهو
ضرب من ضروب إعمال الرأي بأنه “هو ما اشتهته النفس ووافقها، كان خطأ أو
صوابا”[9]
وإذا كان
تعريف ابن حزم للرأي والاستحسان، لا علاقة له بتاتا بالرأي الذي يتحدث عنه ويعتمد
عليه جمهور العلماء، فإنه على الأقل يكشف جانبا من الاستعمالات والنزعات التي قد
يسميها أصحابها رأيا وفكرا وعقلا!
وإذا كان
العلماء قد ميزوا بين الرأي المحمود والرأي المذموم، وبين الرأي المأخوذ والرأي
المنبوذ، فإن جوهر القضية يصبح هو هذا التمييز ومعاييره.
لاشك أن الوحي هو نور الله وهداه لعباده {قد جاءكم من الله نور
وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}[10]
ولكن هذا النور كما تقدم لا يجدي ولا ينفع إلا مع عيون مفتوحة مبصرة، سليمة في أصلها سليمة في نظرها. فبدون رؤية ولا رأي ولا نظر يبقى الوحي كالمادة الخام، أو قد يساء التعرف عليه، ويساء فهمه، ويساء استعماله.
فمضامين الوحي وأحكامه ومقاصده تحتاج إلى تدبر واستنباط، وتحتاج
إلى تأمل وتعقل، وتحتاج إلى معرفة مواضعها ومواقعها، ومقاديرها ومواقيتها، وتحتاج
إلى تقدير عواقبها ومآلاتها… وكل هذا يحتاج إلى إعمال الفكر والنظر والرأي،
وبدونه تنغلق النصوص على نفسها، أو توضع في غير مواضعها، أو قد تنقلب إلى ضدها،
وبالمثال يتضح المقال:
وردت أحاديث صحيحة متعددة فيها النهي عن سفر المرأة بدون محرم
معها، كزوجها أو والدها أو أخيها… وبعضها حدد السفر المنهي عنه بمسيرة يوم،
وبعضها بمسيرة يوم وليلة، وبعضها بثلاثة أيام، فالذين يأخذون هذه الأحاديث بلا رأي
ولا نظر، وبلا تفهم ولا تعقل، يحرمون على كل امرأة، في كل حال، وأي ظرف، السفر
بدون محرم لها، رفعت الأقلام وتعطلت الأفهام وعلى الدنيا السلام.
وأما الذين تأملوا وتعقلوا، فأدركوا أن مدار النهي ومقصوده حفظ
المرأة وصيانتها في نفسها وعرضها. ونحن نعرف أن المرأة المختلية والمغتربة
والمنفردة، عرضة لطمع الطامعين وأيدي المعتدين. يقع هذا ويتفاوت في كل زمان ومكان.
فلهذا احتاط لها الشارع الرحيم الحكيم، فأوصى ونهى وحذر، ونحن نعرف ظروف السفر
قديما، فلا نحتاج إلى وصفها.
فإذا عرفنا هذه الحكمة، ثم وجدنا حالات من السفر مضمونة مأمونة،
سالمة مطمئنة، فلا شك أن النهي مرفوع عنها. فبهذا توضع الأحكام في مواضعها ولا
تضيع في غير مواضعها، قال الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي: “ولما ثبت هذا
الأصل، وفهم العلماء العلة، قالوا: يجوز لها السفر في الرفقة المأمونة الكثيرة
الخلق الفضلاء الرجال” واستدل كذلك بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين
بشر المسلمين بالنصر والمنعة والأمن حتى تخرج المرأة من الحيرة إلى مكة لا
تخاف إلا الله عز وجل، أي أنها يمكن أن تسافر هذه المسافة كلها وحدها بدون محرم
وبدون رفقة، ثم قال رحمه الله: “والأصل في ذلك ما نبهنا عليه من وجود الأمن
بأي وجه كان”[11] فمهما تحقق وتأكد الأمن والسلامة في السفر، بأي
صورة وبأي سبب، فلا نهي ولا تحريم، ومتى كان السفر مخوفا على المرأة وسلامتها وجب
الاحتياط لها بما يتطلبه الأمر.
ومما لاشك فيه أن نسبة عالية من الأسفار اليوم، وخاصة في وسائل
النقل العمومية كالقطارات والحافلات والبواخر والطائرات، هي أسفار مأمونة سالمة من
المخاطر والمخاوف، بدرجة كبيرة ليس لها نظير فيما مضى من الأزمان. فالسفر الآن حتى
من قطر إلى قطر، ومن قارة إلى أخرى، أصبح أكثر أمنا من السفر القديم ما بين قرية
وأخرى. بل هو أكثر أمنا وسلامة من خروج المرأة وربما حتى الرجل إلى مسجد الحي أو
سوقه، أو إلى حي مجاور، أو إلى مقر عمل أو دراسة… وقبل أيام فقط، تعرضت جارة لنا
وأمام منزلي لهجوم شابين انتزعا حقيبتها ولاذا بالفرار. وقع ذلك في وقت الظهيرة،
ووقع مثل هذا في نفس المكان والتوقيت قبل نحو سنة أو أكثر، بينما السفر والتنقل
عبر المطارات والمحطات والأقطار والقارات، هو أكثر أمنا وسلامة وطمأنينة من هذا
الذي يقع في بعض أحيائنا وشوارعنا. ورغم ذلك ما زلنا نجد من يحرمون على المرأة
أسفارا مأمونة مضمونة، ويحرمونها من دراستها أو من حجها أو عمرتها أو غير ذلك من
مصالحها ومصالح مجتمعها. وأظن أنه قد آن الأوان للمملكة العربية السعودية أن تلغي
اشتراط المحرم على المرأة الحاجة أو المعتمرة، خاصة وأننا نعلم أن ليس على وجه
الدنيا الآن سفر أكثر أمنا وطمأنينة وسلامة من سفر الحج والعمرة. وليس هناك اليوم
مكان أكثر أمنا وسلامة من الحرمين الشريفين. فمقتضى هذه النعمة هو التوسعة ورفع
قيود لم تعد في محلها. ولا أتحدث عن قيود قد تفرض على النساء أو على الرجال لأسباب
أخرى عملا بقاعدة “تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور“.
الرأي
المأخوذ والرأي المنبوذ
إذا كان
تعاملنا مع الوحي واستعمالنا له ولنوره لابد فيه من الرأي، وكما قال الشاطبي، فإن
“كل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر، لأن الاستدلال بالمنقولات لابد فيه من
النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل”[12]
فما هو
هذا الرأي الذي تصل قيمته ووظيفته إلى هذه الدرجة؟
أولا:
الرأي الذي يتحدث عنه العلماء ويعتمدونه في المجال الشرعي، هو الرأي الذي تشبع
بمضامين الوحي واستنار بأنواره، من عقائد ومقاصد وأحكام وقواعد. وهو الذي يدمن
النظر في نصوصه والبحث عن فصوصه… وليس هذا من باب التحكم والمصادرة على أصحاب
الرأي وحرية الرأي. وإنما هو من باب البدهيات العلمية والمسلمات العقلية. فهي التي
تقضي بأن من يخوض ويجتهد في مجال ما فيجب أن يكون خبيرا به راسخا فيه وليس متطفلا
عليه. وإذا كان هذا بدهيا ومسلما في كافة العلوم والمجالات، فهو في أمر الدين آكد
وأوجب. فمن لم تكن له بالدين ونصوصه خبرة ولا بصيرة، ولا رواية ولا دراية، ولا عدة
ولا آلية، ثم قام يفسر ويعلل ويفتي ويؤول، فهو إلى أهل الشعوذة أقرب منه إلى أهل
العلم والرأي.
وقديما
شنع ابن الجوزي على بعض الفقهاء وهم أبناء الشرع ومنه وإليه واعتبر أن انشغالهم
وإغراقهم في حفظ الفروع الفقهية والتمادي في الإفتاء بها والتخريج عليها، مع الجهل
بنصوص الشرع أو الغفلة عنها، هو نوع من تلبيس إبليس، وسطر رحمه الله هذه القاعدة
العلمية الذهبية “الفقه استخراج من الكتاب والسنة فكيف يستخرج أي الفقيه من
شيء لا يعرفه”[13]
ثانيا:
الرأي المقصود، والرأي المأخوذ، إنما هو الرأي الذي يتسلح بمناهج البحث والدراسة
وقواعد العلم والنظر، ومعلوم أن القواعد المنهجية، منها ماهو مشترك بين جميع
العلوم، ومنها ماهو مشترك بين بعضها، ومنها ماهو خاص بكل علم وبكل مجال معرفي. فهي
مثل وسائل الإثبات القانوني القضائي. فهناك وسائل وقواعد تصلح للإثبات (أو النفي)
في جميع المجالات وجميع القضايا، من جنائية ومدنية وتجارية وأسرية، ووطنية
ودولية… وهناك ماهو صالح ومعتمد في بعضها دون سائرها. وفي جميع الحالات لا يسع
قاضيا أن يصدر حكما ولا أن ينظر في قضية أصلا، دون قواعد ومبادئ معتمدة، وهكذا في
كل رأي وكل حكم مضمن إثباتا أو نفيا أو تحسينا أو تقبيحا أو ترجيحا.
فالرأي
الذي لا يستند إلى مبادئ وقواعد، ولا يتعزز بوسائل الإثبات والترجيح، إنما هو مذهب
فرعون الذي حكى الله تعالى عنه أنه قال (ما أريكم إلا ما أرى) فهو صاحب رأي، ولكنه
رأي فرعوني لا يحتاج إلى دليل ولا يتوقف على إثبات. فكل من يرى رأيا لا لشيء إلا
لأنه هكذا يرى، وهكذا يريد، فهو على مذهب فرعون، ولو كان مفكرا أو فيلسوفا أو
مجددا أو مجتهدا، وهو كما قال تعالى: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل}
فكثير من
الناس زينت لهم أمور، وتعلقت بها نفوسهم، وركنت إليها أمزجتهم، فصاروا يتبنونها
ويجندون لها ثقافتهم وعقولهم، يعتبرونها اجتهادا وفكرا ومذهبا وعلما وحقا.
والأمثلة تتزاحم في ذهني بالعشرات، ولو استرسلت في التفكير فيها لأصبحت بالمئات…
وأقرب
مثال إلى ذهني وإلى ساعتي هذه، هو يوم 10 أكتوبر الذي جعله بعض الناس يوما عالميا
لإلغاء عقوبة الإعدام، وقد قرأت وسمعت في صحفنا وتلفزتنا لهؤلاء المدافعين عن حق
الحياة، المناهضين لعقوبة الإعدام، لأنها تسلب الحق في الحياة!
فيا عجبا
ويا أسفا ويا حسرة على العباد، كيف تقلب الحقائق وتزين الأباطيل! كيف أن أهم إجراء
وأهم تشريع أجمعت عليه شرائع الأرض والسماء من أجل حفظ الحق في الحياة وتأمينه
وتحصينه، وهو عقوبة الإعلام، لم يبق له من معنى إلا أنه يسلب الحق في الحياة. فيجب
محاربته وإلغاؤه وتخصيص يوم عالمي وأيام غير عالمية لمحاربته وتضليل الناس في شأنه.
إذا بقي
لهؤلاء المفكرين والمثقفين الإنسانيين والحقوقيين الغيورين، إذا بقي لهم شيء من
العقل والعلم والمنطق، فأنا أسألهم سؤالا واحدا (من بين أسئلة أخرى مثله)
وهو:حينما يتم إلغاء عقوبة الإعدام، في أي بلد، أو في العالم، هل تكون النتيجة
العامة هي زيادة حفظ الأرواح أم زيادة إزهاق الأرواح؟
إذا كان
ما تنادون به يقلص إزهاق الأرواح ويحفظ الحياة لعدد إضافي من الناس فقد أحسنتم
وأنصفتم ونعم الرأي ما رأيتم، وكلنا معكم. وإذا كان العكس هو الصحيح، فإنما أنتم
تناضلون لفائدة الإجرام والمجرمين، وضد الحياة وضد الحق في الحياة، وبئس الرأي ما
ترون وبئس العمل ما تصنعون.
تصحيح
وتوضيح
تلقيت من
الأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز بوبكري رسالة تضمنت بعض الملاحظات حول الحلقات
الماضية من أوراق التجديد، وأود بعد شكره والتنويه بمبادرته، أن أصحح وأوضح مايلي:
- استشهادي (في الحلقة 3) بقوله تعالى (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) باعتبار أن الضمير يعود على القرآن الكريم كان خطأ. والصواب هو ما نبهني عليه الدكتور بوبكري، وهو أن الضمير يعود في أظهر الأقوال وأصحها على المثل المضروب في القرآن لا على القرآن نفسه.
- 2-
المعنى الذي قصدته من الاستشهاد يبقى قائما وصحيحا،
وهو أن بعض الناظرين في القرآن بعيون مريضة وبعقول معتلة وطرق مختلة قد يجعلون منه
سبب ضلالهم، ومصدرا للاختصام بدل الاعتصام.
وهذا المغزى يمكن اقتباسه أيضا من قوله تعالى في سورة التوبة (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) - 3- الحلقات التي كتبتها تحت عنوان الحركة الإسلامية
والمسألة العلمية، كنت أريدها في البداية حلقة أو حلقتين، أبين فيها أو فيهما مدى
حاجة الحركة الإسلامية إلى العلم وإلى العناية بالمسألة العلمية، لكن ما إن شرعت
في الكتابة حتى تشعبت أمامي الإشكالات والقضايا. ووجدت أن المسألة العلمية لا تخص
الحركة الإسلامية وحدها، ولا يمكن عزل الحركة الإسلامية في هذا الموضوع عن غيرها
من المشتغلين في العمل العلمي، وفي الحقل الديني والدعوي عموما. ولذلك سرت ومازلت
أسير وفق متطلبات الموضوع وتداعياته، أكثر من السير وفق العنوان الأولي، وإن كانت
القضايا التطبيقية التي ستعقب هذه المقدمات النظرية، ستكون إن شاء الله تعالى
وبعونه أقرب إلى واقع الحركة الإسلامية وإشكالاتها.
والله المستعان وعليه التكلان
[1] – عن المدخل لابن الحاج 4/286
[2] – جامع بيان العلم وفضله 2/35.
[3] – سورة محمد 25
[4] – جامع بيان العلم 2/31)
[5] – تلبيس إبليس 110
[6] – إحياء علوم الدين 1/94
[7] – الموافقات 3/41
[8] – المستصفى ص 4
[9] – الإحكام 1/45
[10] – المائدة .15
[11] – عارضة الأحوذي 3/118 119
[12] – الموافقات 3/41
[13] – تلبيس إبليس ص 114).