الريسوني في حوار قديم عن قضية الصحراء، وقضايا أخرى…
نشر في هسبيرس 29/12/2010
حاوره يحيى الكرامي
في البداية أشكركم فضيلة الدكتور أحمد الريسوني على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار، وأبدأ مع فضيلتكم من موسوعة القواعد الفقهية، التي تشرفون على إعدادها وإنجازها في مجمع الفقه الإسلامي، فأين وصلت الموسوعة ومتى يمكننا الإطلاع عليها؟
بسم الله الرحمان الرحيم،
موسوعة أو معلمة القواعد الفقهية – والتي أصبح اسمها أخيرا معلمة القواعد الفقهية والأصولية، بعد أن تضمنت نحوا من ثمان مائة قاعدة أصولية، تضاف إلى القواعد الفقهية – هذه الموسوعة الآن يمكن أن نقول إنها في مرحلتها الأخيرة، وهي مرحلة القيام ببعض الاستدراكات ثم المراجعة الجماعية الشاملة لكل ما كتب فيها. وهذا العمل الذي هو المراجعة الشاملة بالإضافة إلى استدراك بعض القواعد المتبقية نقدر لها أن تستغرق سنة كاملة إن شاء الله، وهذا يعني أن المشروع نتوقع ونعمل على أن يكون جاهزا في بداية سنة 2012 إن شاء الله تعالى، بعدها تأتي مرحلة الإعداد الفني للنشر الإلكتروني أولا، وللنشر الورقي ثانيا، معناه أنها في أواسط 2012 يمكن أن تبرز النشرة الإلكترونية للموسوعة، وربما في أواخر 2012 قد تبرز النسخة الورقية بإذن الله. والمشروع كما هو معلوم ترعاه وتموله مؤسسة الشيخ زايد للأعمال الخيرية والإنسانية.
تم انتخابكم مؤخرا رئيسا لرابطة علماء أهل السنة، نود منكم أن تعطونا نبذة تعريفية عن هذه الرابطة وسياق تأسيسها وأهدافها؟
رابطة علماء أهل السنة تأسست قبل أن أتعرف عليها وقبل أن أنضم إليها وقبل أن أصبح رئيسا لها، ولكن فيما بعد، بعد ما يقرب من سنة من تأسيس هذه الرابطة اتصل بي الإخوة وكانوا لم يستقروا على اختيار رئيس بعد، كانوا قد شكلوا بعض الهيئات التأسيسية ولكن لم يستقروا على رئيس بعد، فاتصلوا بي وشرحوا لي فكرة هذه الرابطة، وناقشت معهم الإشكالات الطبيعية التي تتبادر، منها أن هناك اتحادا عالميا لعلماء المسلمين برئاسة شيخنا العلامة القرضاوي، وأن هذا الإسم (رابطة علماء أهل السنة) ربما يوحي بتوجه هذه المؤسسة لصراع سني شيعي، وناقشنا كل هذه الأمور وبعد أن اطمأننت إلى أن هذه التخوفات غير حقيقية وليست واردة، واطمأننت كذلك إلى الأعضاء المؤسسين وكلهم من العلماء ذوي المصداقية وذوي الثقة والاستقامة في علمهم ومواقفهم، بعد ذلك قبلت الانضمام إلى هذه الرابطة، ثم بعد ذلك جرت انتخابات لاختيار رئيس بواسطة الإنترنيت، ووقع التصويت على مرحلتين إلى أن استقر الأمر على انتخابي رئيسا لهذه الرابطة.
وقد عقدنا قبل نحو شهرين لقاءا مع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – وأنا عضو في مجلس أمنائه – واتفقنا على أن يكون التنسيق والتكامل دائمين بين المؤسستين. فإذنً الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين هو كما يدل اسمه مفتوح لجميع المذاهب وجميع الطوائف الإسلامية، بما فيها طبعا أهل السنة بمذاهبهم الفقهية والعقدية، والمذاهب الأخرى كالشيعة والإباضية والشيعة الزيدية وغيرهم، جميع الاتجاهات توجد في الاتحاد ويحرص الاتحاد على أن تكون فيه، فهو من هذه الناحية عالمي لجميع المذاهب والطوائف والتيارات، بينما الرابطة خاصة بأهل السنة. وحينما نقول خاصة بأهل السنة فليس معناه أنها توضع في مقابل أي طائفة أخرى، وإنما أهل السنة باعتبارهم أولا الجسم الأكبر للأمة عبر التاريخ، وباعتبارهم يمثلون منهجا معينا له سماته، ولست الآن بصدد ذكرها ولا الثناء عليها. فمن حق أهل السنة وعلماء أهل السنة أن يبلوروا مواقف واجتهادات وأنشطة تعكس المدرسة السنية في الإسلام، بالإضافة إلى أشياء كثيرة قد نشترك فيها مع مؤسسات علمية أو علمائية أخرى منها الاتحاد، وهذا الاشتراك والتداخل لا ضير فيه لأن الواجبات كثيرة جدا وتحتاج إلى مبادرات متعددة واستقطاب أقصى ما يمكن من الطاقات، فهذه هي المبادئ التي حكمت خروج هذه المبادرة.
كتبتم مؤخرا مقالا تعلقون فيه على الانتخابات المصرية، وما شابها من بلطجة وأعمال عنف واعتقالات وممارسات غير ديمقراطية، أسفرت عن إقصاء كامل للإخوان المسلمين، وأطرتم كذلك لقاء داخل حركة التوحيد والإصلاح عن معاناة المشاركة وضرورة الصبر والاستمرار، كيف تنظرون إلى ما يجري من تضييق على الحركات الإسلامية المشاركة؟ وهل ترون من مخرج أو سبيل لتجاوز هذا الإقصاء وهذه المعاناة؟
التضييق على الحركات الإسلامية في وجودها ومشاركتها السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، هو حالة مصاحبة للحركات الإسلامية عامة منذ عشرات السنين، فليس فيها جديد، ربما اشتدت الوتيرة في السنين الأخيرة بعدما دخلنا في عصر 11 سبتمبر وما بعده، نعم قد يكون هذا التضييق فيه شيء من الجدة وشيء من الحدة أيضا، وإلا فإن هذه الحالة، حالة التهميش والإقصاء مستمرة منذ زمن طويل، وهي أيضا لا تختص فقط بالحركات الإسلامية، وإن كان نصيب الحركات الإسلامية هو الأوفر والأكثر شراسة، وإنما تمتد لكل الحركات التي يمكن أن توصف بالاحتجاجية أو المعارضة أو غير المطاوعة للسياسات الفاشلة المتبعة في العالم العربي أو في مجمله على الأقل، فالحركات اليسارية والحركات القومية وحتى الحركات الديمقراطية – الحقيقية وليست المتاجرة بالديمقراطية – كل هؤلاء يشتكون وكلهم يعانون، وما حصل في مصر أقصى الجميع وتعسف على الجميع، وأعلن الحزب الحاكم نفسه حزبا وحيدا، مستبدا، متفردا، محتكرا لجميع السلطات، وجميع الثروات، وجميع مقدرات البلاد.
أما تجاوز هذه الوضعية فطبعا قد تأتيه رياح مساعدة في وقت من الأوقات، قد تكون هناك صحوة ضمير لدى بعض المسؤولين السياسيين، وقد تحدث انفراجات بشكل من الأشكال. ولكن السبيل المعول عليه والعمود الفقري، هو الاستمرار في المشاركة والحضور، واستمرار المشاركة والحضور طبعا يجب أن يكون بشكل واضح ومصر على توسيع دائرة المشاركة الشعبية، لأن توسيع المشاركة الشعبية هو نجاح لعملية المشاركة، ونجاح لعملية الاحتجاج، ونجاح لمسيرة التغيير التدريجي، بينما حينما تُدفع الجماهير وتدفع الشعوب إلى الإحباط واليأس، يكون هذا أكبر انتصار للمسيطرين والمتحكمين، وفي كثير من الحالات يتعمد هؤلاء إفساد الانتخابات وإظهارها بمظهر عدم الجدوى لدفع الناس إلى اليأس، فلا يبقى أمامهم إلا أن يلتمسوا أضيق ما يمكن من حقوقهم وأقل ما يمكن من أرزاقهم ومصالحهم، فإذن وضع التيئيس والإحباط والإبعاد والتنفير، هو عملية مقصودة، وهي تعتبر نصرا لعمليات الإفساد التي يجب مقاومتها بتوسيع المشاركة وبتوسيع الوعي، وهذا هو السبيل الأساسي، وإلا فقد تكون هناك كما قلت عوامل مساعدة أو تغيرات، ودوام الحال من المحال.
سبق لكم أن أصدرتم في شهر مارس الماضي مذكرة أكدتم فيها على الأسس الشرعية والواقعية لمغربية الصحراء، ما هي قراءتكم لمستقبل هذا الملف في ظل المستجدات التي عرفتها القضية وخاصة بعد أحداث العيون وما تبعها تفاعلات وتداعيات؟
أنا أستطيع أن أقول بكل صراحة وبكل إخلاص وصدق أيضا، إن المعالجة الرسمية الحكومية للقضية هي حتى الآن فشلها أكثر من نجاحها. ولذلك على المسؤولين أن يغيروا طريقة تعاطيهم وطريقة معالجتهم لهذه القضية، هناك معالم معروفة منذ ثلاثين سنة لمعالجة هذه القضية ولمواجهة الجزائر ولمواجهة البوليساريو وأنصاره، ولتقريب إخواننا ومواطنينا الصحراويين وإعادة دمجهم … هذه المقاربات كلها ضعيفة وفاشلة، أو على الأقل كما قلت فشلها أكبر من نجاحها.
فمستقبل هذه القضية لكي يتحسن وينهتي هذا المشكل وهذا التأزيم المفتعل حقيقة، هو رهين بتغيير السياسات الحكومية، بأن تكون سياسات شعبية، ومعتمدة على الشعب، ومعتمدة على القوى الوطنية، وقد أظهرت الأيام الأخيرة على قلة هذه التجربة الأخيرة، أن القوى الشعبية؛ سياسية وجماهيرية، من شأنها أن تغير المعادلة تغييرا تاما، وأن تبعث برسالة تيئيس إلى الخصوم، لأن الخصوم إذا عرفوا أن هذه قضية نظام وقضية حكومة سيستمرون، ومن السهل عليهم محاصرة هذه الحكومة وإضعافها، وتحريك كثير من الأوراق في وجهها، واعتبارها عنصرا ضعيفا، لأنها بمفردها تدبر هذا الأمر في خفاء ومفاوضات ومساومات إلخ …، لكن حينما يعلمون أن هذه قضية شعب بكامله، فهنا سيأتيهم اليأس من طموحاتهم الانفصالية، لأنهم هل سيستطيعون تغيير شعب بأكمله؟ وهل سيستطيعون تكسير إرادة شعب بأكمله؟ هذا لا يمكن. والحقيقة أنها حينما تصير قضية شعب بكامله، وبكامل قواه وتياراته، حينئذ حتى الشعوب الأخرى من إخواننا وأشقائنا في الجزائر وفي موريتانيا وفي تونس وفي ليبيا وفي السنيغال وفي كل هذه الدول المجاورة والقريبة، إذا عرفت شعوبها أن هذه قضية الشعب المغربي فإن الموقف يختلف، يعرفون أنها قضية شعب وليست قضية حكومة تربح قضية أو تخسر قضية أو تكسب مكاسب سياسية أو نقط في حلبة المعركة. يجب أن يظهر أن هذه قضية شعب. وإذا عرفوا أنها قضية شعب، فسيعلمون أنه يستحيل تغيير الأمر وتغيير هذا الوضع، ويعرفون ثانيا أن هذا حق، لأن ما تنهض له الشعوب وتتمسك به الشعوب لا شك أنه حق.
فنحن الشعب المغربي – بصحرائه وجباله وأطلسه وريفه وسوسه وشرقه وغربه وشماله وجنوبه – كلنا أمة واحدة وملة واحدة ومذهب واحد وعرق واحد وتاريخ، فيجب أن يظهر هذا من خلال تلاحم الشعب في هذه القضية. فإذن أعود وأقول بأن مستقبل القضية رهن بأن تغير الحكومة من طرائق عملها، وأن تفسح المجال أكثر للشعب ولعلمائه ودعاته وجمعياته أن يتحركوا في الصحراء وأن يتحركوا في اتجاه تندوف وأن يعبروا كما يريدون وأن يلتحموا مع إخوانهم وأشقائهم وأبنائهم لرفع جميع الالتباسات والتضليلات في هذه القضية، وإلا إذا لم يحصل هذا طبعا فإننا نتوقع مزيدا من الاستمرار في نفس الوضعية ونفس التأزيم.
بعثتم برسالة للأستاذ محمد المرواني في سجنه تناشدونه من خلالها بوقف الإضراب عن الطعام غير المحدود الذي خاضوه احتجاجا على ما يعانون من ظلم، وقد استجاب لندائكم ونداءات عدد من الفاعلين الآخرين، كيف تقرؤون تطورات وسبل معالجة هذا الملف وغيره من ملفات المعتقلين السياسيين عموما؟
أولا أجدد التحية للأخ العزيز والصديق الداعية المفكر الأستاذ محمد المرواني ورفاقه وإخوانه المعتقلين السياسيين والمعتقلين الإسلاميين من أهل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، أجدد لهم التحية ونسأل الله تعالى لهم الفرج واللطف في قضائه، وأشكره كذلك ومن معه من الإخوة على استجابتهم لمختلف الدعوات والنداءات التي وجهت إليهم تقديرا منهم لها ولأصحابها ولصدقها.
وطبعا الاعتقالات السياسية والمحاكمات السياسية الأخيرة هي جزء من ملف طويل ينفرج تارة وينتكس تارة أخرى، وهذا الملف أو هذا السرداب تعاقبت فيه قوى وأحزاب وتيارات ومناضلون سياسيون عديدون، إسلاميين وغير إسلاميين، ودائما الدولة في النهاية – ولكن مع الأسف بعد زمن طويل وبعد معاناة طويلة تمس الجميع – تضطر إلى أن تفسح المجال لأهل الرأي وأهل الكلمة وأهل الصراحة والنقد البناء، وهذا هو السبيل الوحيد للحل، فالإخوة – الأستاذ المرواني ومن معه – نعرفهم طويلا ونعرف كيف تدرجت ونضجت أفكارهم وتجربتهم – كغيرهم من الشباب – وكيف اتجهت أكثر فأكثر نحو الانفتاح ونحو التعاون ونحو العمل الواضح والمشروع. للأسف أنه بعد هذه التحولات والتوجهات الإيجابية كلها بدؤوا يحاسَبون بأشياء لم نسمع بها قط، وبأشياء لا ندري حقيقتها ولا ندري زمانها ولا ندري كيف تم نسجها وتركيبها. كان المفروض سياسيا ووطنيا التعامل مع الواقع ومع التطورات الإيجابية التي انخرطوا فيها مع فرقاء كثيرين كانوا أيضا معارضين أشداء وكانوا أيضا لظروف القهر والاستبداد والإقصاء يعملون في نوع من السرية والتكتم … الخ. لكن الجميع الآن انخرط في واقع معين ومسار جديد، فكان ينبغي ومازال ينبغي أن يتعامل مع هذا الواقع كما هو في واقعه الحالي وكما هو في توجهه المستقبلي، وليس البحث عن أسباب عتيقة للتأزيم والتوتير.
لا شك أن الموضوع الذي تحدثنا فيه قبل قليل، موضوع الصحراء، وموضوع العلاقات الخارجية للمغرب، والسمعة الخارجية للمغرب، كل هذا يتأثر بمثل هذه القضايا الداخلية، وتستغل مثل هذه القضايا، ولا شك أن أعداء المغرب وأعداء وحدته وأعداء استقراره يقولون: أنظروا إلى المغرب ماذا يقع فيه، هاهم المعتقلون وهاهم السياسيون وهاهم أصحاب الرأي وأصحاب الكلمة ورؤساء جمعيات وأحزاب يحكمون بعشرين سنة وثلاثين سنة سجنا، فإلى أين أنتم ذاهبون مع هذا المغرب ومع هذا النظام؟ فيستغلون هذا كله ويوظفونه، ولا شك أن المغرب يكون في موقع قوة إذا كان بريئا وسالما من هذه الأوضاع المتأزمة وغير المريحة لأحد. إذا كان المغرب يتباهى بالديمقراطية أو السير نحو الديمقراطية، فإنه لا توجد دولة ديمقراطية يرمى فيها أمثال المرواني داخل غياهب السجن، ولسنين رهيبة، تشكل زهرة أعمارهم، لا شك أن بلد ديمقراطية وبلد عدل وبلد قانون وبلد حرية لا يمكن أبدا أن يكون فيه أمثال هؤلاء في السجون.
برأت محكمة فاس المعتقلين السياسيين المنتمين لجماعة العدل والإحسان، هل تقرؤون أي إشارات في هذا الحكم؟
حينما سمعت هذا الخبر وأنا هنا قبل أيام قلت تلقائيا ودون تفكير: إن هذه نقطة مضيئة للقضاء المغربي، وهي للأسف نادرة الوقوع، لأن كثيرا من القضاة في المغرب بمجرد أن يسمع أن هذا متهم وهو من العدل والإحسان – أو ما شابه ذلك من الجهات – يعرف أن عليه أن يفعل ما يفعل مهما كان الملف والقضية، حتى ولو كان خلافا لأحد مع زوجته أو جيرانه أو في مهنته أو غير ذلك، فكون قضاة اليوم يبرئون أناسا من العدل والإحسان، فهذا في الحقيقة حدث، من الأحداث المتميزة في تاريخ القضاء المغربي، وأرجو أن يكون درسا للقضاة. فحتى إذا كان هناك ظلم سياسي، على الأقل لا يضاف إليه ظلم قانوني وظلم قضائي.
لكن لا ننسى أن ما يتردد الآن في الصحف من تفسير لما وقع، فمعظمها أو كلها تفسر هذا الحكم القضائي على أنه موقف سياسي من الدولة، وأنا أرى أنه إذا كان الأمر كذلك فهذا سيء جدا، لأننا لا نريد لا براءة سياسية ولا إدانة سياسية، لأن الذي يبرئك بإيحاءات سياسية هو نفسه الذي يقصم ظهرك بإيحاءات وإشارات سياسية، فإذا صح أن هذا الحكم كان بإشارات سياسية وبإيعاز سياسي ففي الحقيقة لا جديد، لأننا لا نطمئن إلى براءة تأتي بإيعاز سياسي، مثلما لا نقبل إدانة تأتي بإيعاز سياسي.
نرجو أن يكون السادة القضاة هذه المرة قد حكموا بأدلتهم ووثائقهم وتحرياتهم ونزاهتهم، فوجدوا أن لا شيء يدين هؤلاء المتهمين، فبادروا إلى الحكم ببراءتهم، فهذا هو الذي سيكون تطورا حقيقيا.
أفادت تسريبات “ويكيليكس” أن إغلاق سفارة إيران بالرباط لم يكن في حقيقة الأمر على خلفية السبب المباشر الذي تم الإعلان عنه في حينه، وإنما بسبب تحول السفارة الإيرانية في الرباط إلى قاعدة للانطلاق من أجل نشر التشيع في غرب إفريقيا، كيف تنظرون إلى مثل هذه المشاكل؟ وكيف تتصورون سبل معالجتها؟
أولا يجب أن نقول نحن جميعا، وخاصة المتتبعين من الناحية الفكرية والثقافية، يجب أن نقول للمسؤولين خاصة في العالم الإسلامي السني والعالم العربي تحديدا، إذا أردتم فعلا أن تواجهوا المد الشيعي والاكتساح الشيعي، في إفريقيا أو في آسيا، إذا أردتم مواجهة ذلك فانصروا الإسلام الصحيح والإسلام السني والدعاة والعلماء، مكنوا لهم وللثقافة الإسلامية وللجامعات الإسلامية وللدعاة الإسلاميين السنة، لأنهم إنما سيثبتون عقيدتهم ومذاهبهم في بلدانهم كما كانت، ولن يأتوا بجديد، أما إضعاف هؤلاء وإنهاكهم وعرقلة نشاطاتهم، أو ترك الحبل على الغارب، ثم نشتكي لماذا إيران فعلت كذا وتفعل كذا … فإيران بالنسبة إلي أولى من التنصير ومن اللادينية ومن النفوذ الإسرائيلي. فهذه الأنظمة التي تخشى من إيران عليها أن تنصر الإسلام ودعوة الإسلام في أفريقيا وغيرها بالمدارس والجامعات وإطلاق أيدي الدعاة والإعلام الإسلامي. وهذا هو المطلوب الذي لا يقومون به، ثم يقومون لشتم إيران والتخويف منها.
ولا ننسى أن إيران لها بريق آخر غير النشاط المذهبي والطائفي، وهو بريق إنجازاتها السياسية والصناعية الداخلية والخارجية، فالعالم الإسلامي والشباب المسلم يتطلع إلى دولة فيها تقدم علمي وتقدم صناعي، ويتطلع إلى قيادات ذات مصداقية وذات استقلالية في القرار، وذات إنجازات. ففي القضية الفلسطينية مثلا، أهم الإنجازات الآن في لبنان وفي فلسطين يوجد فيها الإيرانيون بشكل واضح لا ينكره أحد، حتى إن معاداة حماس غربيا وعربيا في جزء منه سببه تعاملها مع إيران، إذن إيران حاضرة، وحماس طبعا لو أغناها العرب بدعمهم السياسي والمالي لكانت علاقتها بإيران أقل، ولكانت حاجتها إلى إيران أقل، فهذه أمور واضحة ولا خفاء فيها، فإذن لإيران مكاسب سياسية ومنجزات علمية وصناعية، ولها مواقف مبدئية، وكل هذه الأمور لها بريقها وجاذبيتها في انتشار التشيع، بالإضافة إلى النشاط المذهبي والفورة المذهبية التي تعيشها إيران منذ ثورة الخميني.
أعلن عدد من العلماء على المشاركة في تنظيم قافلة لفك الحصار المضروب على غزة، هل لكم من معلومات وأين وصلت الاستعدادات؟
ليس عندي شيء جديد في الموضوع، لكن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وكذلك رابطة علماء أهل السنة وعلماء آخرون، يتحركون من مدة وكان من المفروض أن تتحرك سفنهم ومبادراتهم برا وبحرا منذ عدة شهور، ولكن بعض العراقيل التي يفاجأون بها من حين لآخر هي التي تجعل التأجيل يقع في كل مرة لتجاوز هذه الإشكالات والبحث عن مخارج جديدة. فالآن وكما تعرفون فإن الكيان الصهيوني وأمام تعدد وتكاثر المبادرات الرامية إلى فك هذا الحصار الظالم الهمجي على غزة، بدأ يتجه نحو فرض طوق آخر من الحصار ليس على غزة فقط بل على الطرق المؤدية إلى غزة، كاليونان وقبرص، وكذا الضغط على أصحاب شركات إيجار السفن وغير ذلك …، فهناك حركة نشيطة جدا لفرض الحصار من بعيد وليس فقط من قريب، وطبعا (إسرائيل) لا شك أن لها علاقات ولها شبكات. ومعظم الدول الغربية إن لم تكن كلها تقدم لها الدعم علنا أو سرا، فإذن بدأ الصراع يمتد إلى هذا المستوى وهذه الدائرة الأوسع مما يعرقل المبادرات، في الوقت الذي تلتزم فيه الدول العربية الصمت والتفرج، وما خفي كان أعظم. ولكن مع ذلك فإن الإصرار على التضامن مع غزة ونصرة أهلها والعمل على فك هذا الحصار يتعاظم ليس فقط في دائرة العرب أو المسلمين ولكن عالميا، ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.
التوجه الاستراتيجي الذي اتخذته الحركة للمرحلة المقبلة 2010 2014 يقوم على دعامتين أساسيتين، الأولى هي العمل على المساهمة في “ترشيد التدين وتعميقه” داخل المجتمع، فيما تتمثل الثانية في تعزيز المرجعية الإسلامية في تدافع الهوية والقيم ببلادنا “.
كيف تقرؤون هذا التوجه الذي اعتمدته الحركة؟
أولا كما هو معروف فإن الحركة ومنذ عدة سنين تبلورت عندها اختيارات ذات طبيعة إستراتيجية، بحيث لم يعد عملها مجرد دعوة وتدافع يومي وأنشطة متناثرة ومتفرقة، ومواجهات آنية بحسب الاستفزازات والوقائع التي تقع، وإنما الحركة تجاوزت كل هذا إلى أن تكون لها قواعد ومنطلقات إستراتيجية بعيدة المدى، قد تندرج فيها الأحداث اليومية، ولكنها لا تنطلق بالضرورة فقط من الأحداث اليومية والمشاكل الآنية، وهذا تطور كبير جدا ونضج نحمد الله تعالى عليه ونعتز به، ففي هذا الإطار تتحدد بعض التوجهات القريبة الأمد لكنها لا تخرج عن المخطط الاستراتيجي الكبير وهو مخطط أو رؤية إستراتيجية ذات بعد حضاري ووطني وأممي، ينطلق كما ذكرتم من قضية المجتمع وتدين المجتمع بل ونوعية تدين المجتمع. وهذا لأول مرة نراه في مخططات حركة إسلامية وبشكل صريح وواضح، أي قضية ترقية التدين وترشيد التدين، لأن الحركات الإسلامية اشتغلت ببث التدين وإنقاذ التدين وتوسيع دائرة التدين، وهذا كله جيد جدا وقد آتى أكله، لكن أن نجد في المخططات وفي الأولويات ترشيد التدين والارتقاء بالتدين، فهذا شيء جديد، لأن مشكلتنا نحن المسلمين ليست فقط في تراجع التدين بل إن تراجع التدين ليس مشكلة كبيرة في حقيقة الأمر، لأنه إذا استثنينا بقعا قليلة في العالم كالأندلس وبعض البقع في شرق أوروبا، فإن التدين ما زال كما كان، حاضرا بقوة ورسوخ، وما زالت له جماهيريته، ومازال الدعاة الصادقون يجدون الإقبال الجماهيري الكبير جدا. ولكن المشكل الأول الآن هو نوعية التدين، ودائما التقدم الكمي فيه نوع من السهولة لكن التقدم الكيفي والارتقاء الكيفي هو الصعب، فنحن اليوم لم نعد نعاني فقط من إشكالات اللاتدين والانحرافات اللادينية، بل نعاني أيضا من إشكالات التدين وانحرافات التدين وأضرار التدين غير الرشيد، وأقصد هنا بعض أصناف المتدينين، فإذن آن الأوان أن يوضع هذا الأمر موضع الاعتبار فنرقي تديننا ونحسنه ونصلحه، وطبعا ترشيد التدين لا يعني شيئا سوى التدين الصحيح كما هو في الشرع، وكما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن يكون تدين اقتناع ومحبة، تدينا حيا فاعلا جهاديا، وأن يكون تدينا واعيا متفقها، فهذا هو ترشيد التدين المقصود في هذا التوجه الاستراتيجي للحركة.
وأما العنصر الآخر من عناصر هذا التوجه، الذي هو جزء من رؤية استراتيجية أوسع، فهو رفع فاعلية الحركة في قضية التدافع مع أعداء المرجعية الإسلامية وأعداء الهوية الإسلامية للمغرب. وهؤلاء ربما لو تحدثنا عنهم قبل فترة أو عدة عقود، ربما كان يعني بهم الآخرين من خارج البلد، لكن الآن أصبحنا نعني بهم وللأسف بالدرجة الأولى بعض أبنائنا وبعض بني جلدتنا، وأصبح بيننا من يجاهرون برفض الهوية الإسلامية، وبرفض اللغة العربية كلغة رسمية للبلد، ومحاولة إقصائها وتنحيتها سرا وعلنا، واستئصال المرجعية الإسلامية من الدستور المغربي، ومن القوانين المغربية، ومن التعليم، ومن الإعلام، فإذن هذه الحرب التي أصبحت منكشفة ومستعلنة لمحاربة الهوية الإسلامية للمغرب ومحاولة إلحاقه أو إبقائه بدون هوية، فإن هذا أصبح كذلك أمرا في غاية الخطورة لو سكت عنه.
وبصراحة الآن الجهة الأكثر وضوحا في مواجهة هذه النعرات والدعوات هي حركة التوحيد والإصلاح، لا أقول إنها وحدها ولكن هي الأكثر صراحة والأكثر حماسة والأكثر إصرارا على الصمود في هذه الجبهة وفي هذا الثغر. طبعا كل مخلص وكل مؤمن في هذا البلد له نوع من أنواع الدفاع والمقاومة، ولكن مع ذلك هناك جهات عديدة سياسية وحقوقية وقانونية ليس لها جهد يذكر وليس لها مبالاة بهذا الموضوع، فإذن هذا يشرف حركة التوحيد والإصلاح أن تكون طليعية في هذه القضية وفي هذه المعركة. ولكن لا بد أن تكون متسلحة بقوة الصبر، وبقوة الخلق، وبقوة العلم والبحث العلمي، والتدافع القوي بكل متطلبات القوة العلمية والفكرية والإعلامية والسياسية، بما في ذلك الصمود والصبر في وجه هذه المخططات، التي أصبحت ليس فقط مستوردة وأجنبية، بل أصبحت مستنبتة في داخلنا، وتعمل بشكل صريح لم يسبق له مثيل من قبل، فإذن هذه جبهة أخرى والعمل فيها استراتيجي، لماذا استراتيجي؟ لأنه يتوجه إلى موضوع مصيري بالنسبة للأمة، ولأنه طويل الأمد، فلو كان هذا الموضوع تصدى له الناس قبل خمسين سنة، لكانت معالجته بسهولة، لكن الآن يحتاج إلى خمسين سنة أخرى ربما من الصراع، لا سيما وأن هناك مددا خارجيا يطيل عمر هذه الصراعات بل يغذيها، ويفتح لها فروعا وواجهات جديدة.
ونحن نعرف أن إضعاف الهوية الإسلامية الموحدة للمغرب- والشيء بالشيء يذكر والأمور متداخلة – له تأثير حتى على قضية الوحدة المغربية وقضية الصحراء؛ لأنه حين تنزع طابع الهوية الجامعة، ستجد الصحراوي يطالب بهوية خاصة به، والجبلي يريد هوية خاصة به، والريفي يريد نفس الشيء، وهكذا يصبح الانتماء إلى رمال الصحراء وجبال الأطلس وحوض البحر الأبيض المتوسط، ويصير كل واحد ينتمي إلى جبل أو صخرة أو بحيرة أو شاطئ أو أي شيء، لماذا؟ لأنه يتم إنهاك الهوية الجامعة والرابطة الموحدة.
في ختام هذه الجلسة الممتعة وهذا الحوار والأجوبة الصريحة والعميقة، أريد أن أشكر الأستاذ الفاضل الدكتور أحمد الريسوني جزيل الشكر، ولكن أود أن آخذ منكم كلمة لزوار موقع الإصلاح.
أحيي وأسلم على كافة الإخوة قراء وزوار هذا الموقع. فهذه مناسبة للتلاقي وتبادل التحية، فأنا أيضا من زوار هذا الموقع، ومن الزوار اليوميين، ومن المتابعين له، خاصة وأنا خارج المغرب ربما أجد فيه من الفائدة أكثر مما يجده الإخوان المقيمون في المغرب، فهو ملتقى لنا جميعا نعتز بأخباره وتحليلاته ومواقفه، فأحيي إخواني من زواره وأجدد التحية للإخوة في حركة التوحيد والإصلاح، وأسأل الله تعالى لهم مزيدا من الرشد والتوفيق والفاعلية في أداء رسالتهم والاضطلاع بواجباتهم والحمد لله رب العالمين.
عن موقع”حركة التوحيد والإصلاح”