العمل بالأغلبية في الفكر الاسلامي
تم نشره في الجمعة 6 أيلول / سبتمبر 2013. 03:00 مـساءً
د.احمد الريسوني
“العمل بالأغلبية” ـ أو الأكثرية ـ يراد به : ترجيحُ الرأي الذي قال به أكثر المشاركين برأيهم في مسألة من المسائل المتداول بشأنها ، والأخذُ به .
وأما “الأغلبية” نفسها ، فهي العدد الغالب من ذوي الرأي في المسألة ، أي ما زاد على نصفهم . وهذا ما يعرف بالأغلبية المطلقة . فإذا قيل:”الأغلبية” بدون تقييد ، فهي المقصودة . وأما الأغلبية المحددة بنسبة معينة ، فهذه تذكر عادة بنسبتها المحددة ، كأنْ يقال:أغلبية الثلثين ، أو أغلبية ثلاثة أرباع ، أو نحو ذلك.
العمل بالأغلبية المطلقة ـ وأحيانا بأغلبية محددة ـ شائع ومسلم اليوم في مجالات واسعة وكثيرة ، كالاستفتاءات ، والانتخابات العامة والخاصة ، واتخاذ القرارات داخل الهيئات الجماعية، سواء في مؤسسات الدول والحكومات ، أو في الهيئات الأهلية ، وحتى في الهيئات الخاصة كالشركات.
فما هو موقع الأغلبية وحكمها في الإسلام ، وفي الثقافة الإسلامية؟
أول ما يسجل بهذا الصدد ، هو أن هذه القضية لم تبحث بشكل واسع جامع . بمعنى أنها ليس لها موضع معلوم تعالج فيه ، كبعض أبواب الفقه ، أو في مباحث معينة من علم أصول الفقه ، أوفي كتب السياسة الشرعية . وإنما تذكر بشكل مقتضب ، مع تطبيقات متفرقة لها ، فيعدد من العلوم الإسلامية . ولعل أول بحث جامع لها ـ نسبيا ـ هو الذي جاء في أطروحتي للدكتوراه ( نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية) ، التي نوقشت سنة 1992. ففيها فصل خاص عن هذه القضية.
الترجيح بالكثرة في الفكر الإسلامي
لعل مصطلح “الترجيح بالكثرة”، الوارد في عدد من العلوم الإسلامية ، هو الأكثر استعمالا والأكثر تعبيرا عن قضيتنا.
ـ ففي علوم الحديث ، نجد مناقشات وتطبيقات ، حول الترجيح بالكثرة بين الأحديث المتعارضة ، الواردة في الموضوع الواحد ، أو بين الروايات المختلفة للحديث الواحد ، إذ اختلفت بالزيادة والنقص أو غيرهما من وجوه الاختلاف .
وفي المسألة نقاش حول أي الترجيحين مقدم على الآخر : الترجيح بالأحفظية ، أو الترجيح بالأكثرية ؟ بمعنى: إذا اختلف الرواة ، هل نرجح رواية من هو أحفظ وأضبط ، أم نرجح الرواية التي عليها الأكثرية من الرواة ؟ وهذه الموازنة والمفاضلة بين الترجيحين ، إنما يُلجؤ إليها ، إذا كان جميع الرواة من أهل الحفظ والأمانة ، ولكن بعضهم أحفظ من بعض ، فحينئذ تجري المفاضلة ترجيح عنصر الحفظ أو عنصر الكثرة ، أما الرواة الضعفاء ، فلا يمكن ترجيحح روايتهم على رواية الثقة الواحد ، مهما كثر هؤلاء الضعفاء.
والذي يعنيني الآن هو أن الترجيح بالكثرة أو بالأكثرية ، بين الروايات الحديثية ، موجود ومعمول به لدى علماء الحديث . وأساسه أن زيادة عدد الرواة الثقات ، له مزية ورجحان على رواية الواحد الثقة ، وعلى رواية العدد الأقل من الثقات.
ـ وفي المجال الفقهي أيضا، يُعتمد الترجيح بالكثرة عند اختلاف الأقوال الفقهية الاجتهادية . وينطبق هذا ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم . قال أبو إسحاق الشيرازي “وإذا كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل ، قُدّم ما عليه الأكثر، لقوله صلى الله عليه وسلم “عليكم بالسواد الأعظم.” [1] وقال ابن القيم “فإن كان الأربعة ـ يقصد الخلفاء الراشدين ـ في شق، فلا شك أنه صواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب.” [2]
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: “استشارني عمر في أمهات الأولاد (يعني الإماء)، فأجمعت أنا وهو على عتقهم ، ثم رأيت بعدُ أن أُرقَّهم. فقال له عبيدة (هو عبيدة السلماني، تابعي): رأيُ ذَوَيْ عدل أحب إلينا من رأي عدل واحد.” [3]
وفي مسألة أخرى مماثلة قيل له : لَأمْرٌ جامعتَ عليه أمير المؤمنين، و تركت رأيك ، أحب إلينا من أمر تفردت به ، فضحك.[4]
قال البزدوي : “وإنما اختار أبو عبيدة أن يكون قول علي منضما إلى قول عمر رضي الله عنهما، لأنه كان يرجح قول الأكثر على قول الأقل ، وعلي لا يرى الترجيح بالكثرة بل بقوة الدليل”[5]
على أن الاختلاف ـ أحيانا ـ في الترجيح بالكثرة أو عدمه، لا يلغي كون هذا المبدأ قد عُمل به عند عامة الفقهاء ، وأن لكل فقيه أن يأخذ به ، إذا لم يظهر له وجه الصواب في المسألة ،” لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر” كما يقول أبو الحسين البصري [6].
ولذلك قرر شمس الأئمة السرخسي أن “ الترجيح بالكثرة … أصل في الفقه ، فإن للأَكثر حكم الكمال”[7]
وذهب بعض الفقهاء إلى الترجيح بالكثرة في شهادة الشهود أمام القضاء ، فتقدم شهادة الشهود الأكثر عددا على الأقل عددا . غيرأن هذا القول يجد اعتراضا أكثرلدى الفقهاء ، لما يمكن أن يشوب تكثيرالشهود من تلاعب وحشد للمأجورين أو التابعين أو المتحيزين .
وعموما يمكن القول : إن العلماء قد أخذوا بالأكثرية العددية ، واعتبروها مرجحا ، فيما ليس فيه مانع معتبر. وقد عملوا بهذا المبدأ في مجال الرواية ومجال الدراية معا.
ـ وأما في المجال السياسي ، فقد نص العلماء على فكرة الأغلبية، لكن بصيغ وعبارات مختلفة في معظم الأحيان . ويتجلى ذلك في اشتراطهم لانعقاد البيعة الصحيحة ، أن يؤيدها ويلتف حولها من الناس ، ما تحصل به الشوكة والمنعة والانقياد العام.[8]
غير أن الإمام الغزالي كان أكثر تصريحا وتوضيحا في التنصيص على اشتراط الأغلبية لذلك . فهو يرى ـ كشيخه الجويني ـ أن مبايعة عمر لأبي بكر لم تصبح لازمة نافذة ، إلا بالتأييد الواسع والفوري ، الذي حظيت به ، “ ولو لم يبايعه غيرُ عمر، وبقى كافة الخلق مخالفين ، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب ، لما انعقدت الإمامة.”
ثم يضيف : “فإن شرط ابتداء الانعقاد قيامُ الشوكة ، وانصرافُ القلوب الى المشايعة ، ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة ، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمعُ شتات الآراء ، في مصطدم تعارض الأهواء . ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة ، على متابعة رأي واحد ، إلا إذا ظهرت شوكته ، وعظمت نجدته، وترسخت في النفوس رهبته ومهابته ، ومدار جميع ذلك على الشوكة ، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من مـعْـتَـبَـري كل زمان.”[9] السيرة النبوية والأخذ بالأغلبية
نبي الله ـ كما هو معلوم ـ مؤيد بالوحي معصوم . فلو أنه لم يستشر قط في حياته أحدا ، لكان الأمر واضحا لا غبار عليه . ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يتصرف ليَسُن لأمته، وليرسم النهج للأئمة من بعده . فلذلك كان يستشير ويكثر الاستشارة ، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : ( ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم )[10]
لكن هل كان يلتزم ـ في مشاوراته مع الصحابة ـ الأخذ برأي أكثريتهم ، أم يُمضي ما يراه حتى لوكان على خلاف مستشاريه ؟
الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه ، بل الثابت هو العكس . وفيما يلي نماذج من ذلك
في غزوة بدر:
لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها . فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش ، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: “أشيروا علي أيها الناس”. قال ابن إسحاق: “وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس”.([11]) أي أكثريتهم.
فقد كان عيله السلام ، حريصا على معرفة رأي الأكثرية ، ومدى استعدادهم للقتال ضد قريش. فلذلك أراد أن يسمع رأي زعماء الأنصار بالذات . فلما علموا هذا وفهموه ، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة . فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم”.([12])
وفي غزوة أُحُد :
لما علم المسلمون بتجهز قريش وتحركها لمقاتلتهم بالمدينة ، استشار عليه السلام عموم الصحابة ، فكان رأي أكثرهم الخروج لمناجزة المشركين خارج المدينة ، حتى لا يظن الأعداء وعموم العرب ، أن المسلمين ضعفوا وجبنوا . وكان رأي النبي وجماعةٌ من شيوخ الصحابه ، هو الـمُـكث في المدينة ، فإذا دخلها المشركون سهُل على جميع المسلمين الانخراط في قتالهم ، ومع ذلك فقد أخذ عليه الصلاة والسلام ، برأي الأكثرية المخالفة لرأيه.
وفي غزوة الأحزاب
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تحالف المشركين واليهود والمنافقين ، وحصارهم للمدينة ، قد أوقع المسلمين في خطر ماحق ، فكر في خطة يكسر بها هذا الحصار المطبق ، فلجأ إلى أضعف حلقاته ، قبيلة غطفان ، ففاوض زعماءهم ، وعرض عليهم الخروج من هذ الحلف مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة ، فقبلوا . لكنه اشترط مشاورة أهل الثمار، وهم الأنصار أهل المدينة . فلما عرض الأمر على زعماء الأنصار، سألوه إن كان هذا وحيا من الله فيطيعوه ، أو هو شيئ يحبه النبي ويرغب فيه فيلبوا رغبته ، أم هو شيئ يصنعه رفقا بهم وتخفيفا عليهم ؟ فلما أخبرهم أنه اجتهاد منه ليخفف عنهم وطأة الحصار ، قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ : “يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟!