النص والمصلحة بين التطابق والتعارض / أ.د أحمد الريسوني
النص والمصلحة بين التطابق والتعارض
من القضايا الآخذة في البروز والاحتداد على صعيد التشريع الإسلامي
بأصوله وفروعه، قضية النص والمصلحة. ويبدو أنها ستصبح محوراً أساسياً في الجدل
العلمي الإسلامي في هذا العصر على غرار قضية العقل والنقل، وقضية خبر الواحد، وقضية
خلق القرآن، ومسألة الصفات، ونحوها من القضايا الشهيرة في تاريخ العلوم الإسلامية.
وقضية النص والمصلحة قريبة جداً من قضية العقل والنقل، بل هي وجه من وجوهها، أو فرع من فروعها.
وقد بدأت هذه القضية في الرواج والنمو منذ انتشار رسالة الطوفي (توفي716ه) في المصلحة واشتهارها أوائل هذا القرن الميلادي على يدي الشيخين جمال الدين القاسمي ورشيد رضا، ثم تجدد نشرها أواسط هذا القرن على يدي الأستاذين مصطفى زيد وعبد الوهاب خلاف.
وها نحن في أواخر القرن نشهد انتعاشاً وتطوراً في الفكرة التي نادى بها نجم الدين الطوفي، كما نشهد بموازاة ذلك ردوداً وانتقادات مضادة.
وعلى العموم فإن عدداً من الكتّاب المفكرين “الحداثيين العصريين” ينادون بفكرة أولوية المصلحة على النص باعتبار النص خادماً للمصلحة وساعياً إلى تحقيقيها، والمصلحة هي الأساس وهي المقصد من التشريع ومن النص. أما “الأصوليون السلفيون” فيتلقون هذه الدعوة بالارتياب والرفض.
وقبل أن أفصل القول في هذه القضية وأبيّن وجهة نظري فيها، أريد أن نميز بين مجالين من مجالات إعمال المصلحة والاحتكام إليها:
1- مجال القضايا والمسائل التي تناولتها النصوص وقررت لها أحكامها بتفصيل ووضوح.
2- مجال القضايا المستجدة التي لا يتناولها نص خاص وبشكل محدد ومباشر. ولا شك أن النقاش الذي ينمو اليوم ويحتدم إنما يتعلق بالمجال الأول خاصة، أما المجال الثاني فالخَطْب فيها يسير والتنازع فهي قليل، على الأقل من حيث الأساس النظري. ولذلك أدع الحديث عن المجال الثاني مُرَكِّزاً على المجال الأول، وعلى بعض مسائله خاصة.
الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة
أما كون الشريعة مصلحة، فهو أمر مسلم به لدى عامة المسلمين وخاصتهم، مقول به عند جماهير العلماء من كل عصر وفي كل مصر وعند كل المذاهب سوى الظاهرية.
ومن أقوال العلماء المعبرة عن هذا المعنى:
– الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.
– الشريعة نفع ودفع.
– الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.
– الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.
– الشريعة بمناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وصالح كلها.
– حيثما كانت المصلحة فَثَمّ شرع الله، وحيثما كان شرع الله فَثَمّ المصلحة.
بل إن نجم الدين الطوفي الذي اشتهر بالقول بإمكان التعارض بين النصوص والمصلحة، نجده في الكتاب ذاته يقول: “… وبالجملة، فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح”،1 ثم يضيف أن شأن السنة كشأن القرآن لأنها، كما يقول: “بيان للقرآن، وقد بيّنا اشتمال كل آية منه على مصلحة والبيان على وفق المبيَّن”.2 هذا عن كون الشريعة مصلحة، وهو كافٍ فيما أحسب.
أما عن كون المصلحة شريعة، فيتمثل عند علمائنا في عدد كبير من الأصول والقواعد التشريعية إلى ترجع إلى اعتبار المصلحة. وأصرحها وأشهارها هو أصل “المصلحة المرسلة” الذي يُعَدُّ حجة ومصدراً تشريعياً عند عامة الفقهاء، خلافاً لمـا يشتهر من اختصاص المالكية بهذا الأصل. قال القرافي: “وأما المصلحة فغيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة”.3
وهناك –سوى أصل المصلحة المرسلة- أصول أخرى أساسها وجوهرها مراعاة المصلحة وبناء الأحكام عليها.
فهناك الاستحسان، الذي يرجع في كثير من صوره وتطبيقاته إلى مراعاة المصلحة، كما قال ابن رشد: “ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل”.4
ولذلك قيل في بعض تعريفات الاستحسان: هو ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.
وهناك أصل سدِّ الذرائع، الذي يرجع حاصله إلى درء المفاسد.
وتظهر مصلحية هذا الأصل بقوة في كونه قد يسمح بمنع ما هو مباح بالنص. وفي هذا مخالفة ظاهرية للنص، تحقيقاً للمصلحة وحفاظاً عليها.
وهناك العرف، والاستدلال، وهما معاً متضمنان رعاية المصلحة وبناء الأحكام عليها.
كما أن هناك قواعد فقهية كثيرة تؤسس “التشريع المصلحي” وتضبطه، منها:
– الأصل في المنافع الحل وفي المضار المنع.
– لا ضرر ولا ضرار.
– الضرر يزال.
– الضرر لا يزال بمثله.
– يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
– الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
– التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
وهكذا يظهر جلياً –من خلال ما ذكرته من أصول وقواعد تشريعية- مدى حجية المصلحة ومرجعيتها في التشريع الإسلامي. ولذلك حق لنا أن نقول: إن المصلحة شريعة، وهو مقصود قولهم: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، ولذلك قال الإمام الغزالي: “ونحن نجعل المصلحة تارة عَلَماً على الحكم، ونجعل الحكم أخرى علماً لها“.
أي مصلحة نعني؟
من السهل جداً أن ندافع عن المصلحة وعن أحقيتها بالرعاية والاعتبار، وعـن حجيتها في التشريع، وعن أولويتها في الاجتهاد… لكن المشكلة هي: هل المدافعون عن المصلحة والمنادون بها، فيما بينهم أولاً، ثم فيما بينهم وبين مخالفيهم والمتحفظين عليهم ثانياً، هل هم جميعاً يتحدثون عن شيء واحد واضح، وعن معنى محدد مضبوط؟ أم كلٌّ يبكي على ليلاه؟ تلك هي المشكلة.
فالمشكلة إذاً هي: متى نعد الشيء مصلحة ومتى لا نعدّهُ كذلك؟ متى نعد الشيء مفسدة ومتى لا نعده كذلك؟ ومتى نعد الشيء نفعاً ومتى نعده ضرراً؟ ومتى نعده مصلحة راجحةً ومتى نعده مصلحة مرجوحة؟ ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة؟
وإذا كنا نتسامى بمفهوم المصلحة حتى نضعها في مقـام الحجية والمرجعية الشرعية فإن مفهوم المصلحة يتدنَّى أحياناً حتى يصير معنى مذموماً، فنجد أن الشخص يذم لأنه إنسان “مصلحي”، ولأنه “صاحب مصلحة”، ونجد علاقات وتصرفات تنتقد لكونها “مصلحية” ولذلك كان من اللازم أن نقف ونتساءل: أي مصلحة نعني؟ مع العلم أننا نتحدث في نطاق المجال الشرعي والتشريعي.
ولأجل الحصول على إدراك جيد وصحيح لمفهوم المصلحة، لا بد أن ننظر إليها من عدة جهات وفي عدة مستويات:
– يمكن في البداية أن ننظر إليها نظرة مبسطة جامعة، فنقول: إن المصلحة هي كل ما فيه خير ومنفعة لمجموع الناس ولأفرادهم.
– وننظر من جهة أخرى، فنجد الوجه الآخر للمصلحة وهو درء المفسدة، بحيث لا نستطيع التمسك حقاً بالمصلحة ونحن غافلون عمّا يلازمها أو يتبعها من مفسدة وهكذا يصبح من صميم المصلحة اتقاء المفاسد التي في طريقها سواء كانت سابقة أو لاحقة أو ملابسة أو مصاحبة.
– وننظر من جهة ثالثة فنجد أن المصالح التي يحتاجها الناس وينتفعون بها تقع على أنواع وأشكال. وإذا اقتصرنا على الأنواع الأساسية –حسب تقسيم علمائنا- نجد خمس مصالح كبرى جامعة هي: مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة النسل، ومصلحة العقل، ومصلحة المال.
ويمكن أن ننوعها بشكل آخر، فنتحدث عن مصالح مادية، ومصالح معنوية، ويدخل في المصالح المادية: الأبدان والأموال وما يخدمهما. وتدخل في المصالح المعنوية المصالح الروحية والعقلية والنفسية والخلقية.
– وننظر من جهة رابعة، فنجد أن المصالح والمفاسد تتفاوت تفاوتاً كبيراً في رتبها وقيمها كماً وكيفاً. بل هناك مصالح تعد كلا شيء بجانب مصالح أخرى أعظم قدراً وأعلى قيمة. ولذلك قسم العلماء المصالح إلى : ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات. وداخل كل مرتبة مراتب متفاوتة لا حصر لها. فإذا نظرنا إلى مصلحة أو جملة مصالح فيجب ألا يغيب عنا غيرها، وخاصة مما يفوقها قدراً وقيمة.
– وننظر إلى المدى الزمني الواسع، فنجد الشيء يكون مصلحة، ثم يصير مع الزمن مفسدة والعكس. وتكون المصلحة صغيرة في الأمد القريب، فيعظم شأنها ويظهر خطرها مع تطاول الأزمان، وبالعكس. ونجد ما فيه مصلحة جيل معين، قد يكون ضرراً على الأجيال اللاحقة. وأكبر من هذا كله نجد ما قد يبدو مصلحة في هذه الدنيا يكون مفسدة ومهلكة في الدار الآخرة والعكس، ومن المصالح ما يكون مصلحة في زمن فهو مصلحة حقيقية في ذلك الزمن، ثم يصبح في زمن آخر مفسدة، فيكون حينئذٍ مفسدة دون أن ينقض كونه مصلحة في الزمن الأول.
ومن روائع الأمثلة لهذا الوجه، قضية الأراضي المفتوحة في خلافة عمر بن الحطاب رضي الله عنه، حيث طالبه بعض الفاتحين –ومنهم بعض الصحابة- بقسمة تلك الأراضي عليهم، ولكن بعضهم عارض قسمتها حتى يبقى ريعها ونفعها للأجيال القادمة من المقاتلين ولغيرهم من المسلمين، وهو الرأي الذي صار إليه عمر وأيده فيه كبار المهاجرين والأنصار. وكان ممن أشار عليه بهذا الرأي –معارضة للرأي الأول- علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، الذي قال لعمر: “إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم. ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل أو المرأة. ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدّاً وهم لا يجدون شيئاً. فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم…”، قال أبو عبيد: “فصار عمر إلى قول معاذ… وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه”.6
لقد كانت القسمة على الفاتحين مصلحة لهم لا شك، ولكن النظر البعيد، والمستقبل المديد كان لهما كلمة أخرى، هي التي رجحت عند ذوي النظر الاستصطلاحي البعيد.
هذا يقودنا إلى جهة أخرى –سادسة- من جهات النظر إلى المصلحة، وهي جهة عمومها أو خصوصها. فما قد يكون مصلحة للخواص قد يكون مفسحة للعموم وضرراً عليهم. والمصلحة الحق هي التي يشمل نفعها وخيرها الخاصة والعامة معاً.
وهذا يوصلنا إلى التعارضات القائمة –على الدوام- بين المصالح. فلا تكاد توجد مصلحة نقدمها ونتمسك بها، إلاّ وفي تقديمها تفويت مصلحة ما، أو وقوع مفسدة ما. فيجب أن نضع في الميزان كل ذلك، ثم ننظر ونوازن من جميع الجهات الآنفة الذكر، وبعد ذلك يظهر لنا ما يستحق التقديم والاعتبار، وما يستحق التأخير والإهدار. وحينئذٍ فقط نكون قد عملنا بالمصلحة حقاً، مقدّرين لها حقّها. وتلك هي المصلحة التي أعني.
دعوى تعارض النص والمصلحة
من المعلوم أن الشيخ نجم الدين الطوفي قد ذهب إلى افتراض تعارض المصلحة مع النص، وهو يرى –في هذه الحالة- أنه يجب تقديم المصلحة على النص. وهذا عنده خاص بمجالي المعاملات والعادات، دون العبادات والمقدرات. قال: “أما المعاملات ونحوها، فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا. فإن اتفقا فبها ونعمت… وإن اختلفا، فإن أمكن الجمع فأجمع بينهما… وإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، لقوله ?: “لا ضرر ولا ضرار”، وهو خاص في نفي الضرر، المستلزم لرعاية المصالح، فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل. والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل”.7
وقد احتفى كثير من المعاصرين بهذا الافتراض، وذهبوا يروجون له وينوهون به، ويلتمسون له التخريجات، ويضعون له الأمثلة والتطبيقات.
كما أن كثيرين آخرين –من المعاصرين أيضاً- قد ردوا على الطوفي وناقشوا ما ذهب إليه، وقد كنت أحد هؤلاء في مناسبتين سابقتين.8 ولذلك لا أريد هذه المرة أن أقف عند الطوفي، وإنما أتجاوزه إلى بعض الآراء المعاصرة المتعلقة بالموضوع. غـير أني أعيد القول: إن الطوفي لم يأتِ ولا بمثال واحد حقيقي يؤكد التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة، فبقي رأيه مجرد افتراض نظري.
أما المعاصرون –أو العصريون- فلهم أمثلة عديدة، يذهبون فهيا صراحةً أو ضمناً إلى أن المصلحة أصبحت تقتضي خلاف ما جاءت به بعض النصوص. وأنا أورد وأناقش ثلاث مسائل نموذجية لذلك، واحدة في العبادات، والثانية في العادات، والثالثة في الجنايات.
1. مسألة الصيام
ذهب الرئيس التونسي السابق ومؤسس الدولة التونسية الحديثة، الحبيب بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج، ودعا العمال (سنة 1961) إلى الإفطار حفاظاً على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر. فهل الصيام حقاً يتعارض مع مصلحة الإنتاج ومصلحة النهوض الاقتصادي؟ لعل أول ما كان ينبغي قبل إطلاق الدعوى السابقة هو إجراء دراسة شاملة ودقيقة عن مدى تأثير الصيام في الإنتاج سلباً وإيجاباً، وهو ما لم يقع، فبقي الادعاء مفتقراً لأي أساس علمي صحيح.
ثم، هب أنه تحصلت لدينا ملاحظات وانطباعات مفادها أن الصيام يسبب نقصاً ما في الإنتاج، فهل ذلك راجع إلى الصيام ذاته، أم إلى عادات وممارسات خاطئة يمارس فيها الصيام أو تمارس فيه، وليست من ضروراته ولا من شروطه الشرعية؟
فإذا كان العنصر الثاني هو السبب فقد برئت ذمة الصيام، وكان أولى بمن دعا إلى ترك الصيام أن يدعو إلى تغيير تلك العادات والممارسات السلبية، وهي دعوة أقرب إلى الواقعية والتحقيق والاستجابة من دعوة شعب مسلم إلى التخلّي عن ركن من أركان دينه.
ثم ألم يكن بالإمكان الاستفادة من الصوم في تنمية الإنتاج وزيادته. فالصوم مثلاً يلغي وجبتين غذائيتين تقعان عادة في وقت العمل: هما وجبة الإفطار ووجبة الغداء، والصوم يوفر على العمال والموظفين وقت هاتين الوجبتين. وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، وكم من العمال والموظفين نراهم يحضرون إلى أماكن عملهم ثم يختلسون أوقاتاً لتناول الإفطار. ثم يأتي وقت الغذاء فيأخذون وقتاً أوسع، سواء بصفة قانونية أو غير قانونية. وفي الحالتين فإن الصيام يوفر هذا الوقت لصالح العمل.
ثم إن الصيام يمنع المدخنين عن التدخين ويوفر الوقت الضائع فيها. ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة كل يوم، قد تفوق ساعة كاملة من ساعات العمل.
وإذا تحدثنا عن التدخين الذي يتوقف في شهر رمضان، فلنتحدث عن التدخين وصلته بالإنتاج في غير رمضان، ذلك أن أي غيور حقاً على العمل والإنتاج، أو أي باحث محايد لا يمكنه أن يغفل عن النقص الكبير في الإنتاج الذي يتسبـب فيـه التدخين، سواء بشكل مباشر يتمثل في ضياع وقت التدخين، أو بأشكال غير مباشرة تنتج عن الحالة النفسية والبدنية والصحية للمدخنين. فلست أدري لماذا لم يتفطن الزعيم المذكور إلى هذه الآفة المحققة من آفات الإنتاج والعمل؟ لقد تغافل عن شيء يُرى ويلمس ويشم، وانتبه لشيء لا يرى ولا يلمس ولا يشم! (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
ومع ذلك فلنذهب مع هذا الافتراض إلى نهايته، ولنقل: إن للصيام أثراً في نقص الإنتاج، وقد نجد من يقول: إن الصلاة في وقت العمل تسبب هي الأخرى نقصاً في الإنتاج، وهو ما يتعارض مع المصلحة ويضر بها…
وهنا أذكر بما قدمته قبل قليل عن المفهوم الصحيح للمصلحة وإلى الوجوه المتعددة التي ينبغي النظر منها إلى أي مصلحة.
فإذا فرضنا أن إنتاجنا يصاب في رمضان بنقصان كمي يصل مثلاً إلى العشر (10%) أو نصف العشر (5%) فماذا نربح من الصيام؟
هذا يحيلنا إلى الفوائد الكائنة أو الممكنة في الصيام، سواء من الناحية الروحية، أو التربوية السلوكية، أو الصحية، ولا أتحدث هنا عن الثمرة الأخروية. وهذه الفوائد، أو المصالح، قد تكفلت ببيانها وتفصيلها كتاباتٌ كثيرة قديماً وحديثاً. ولذلك لا أريد الخوض فيها هنا. فأكتفي بالإشارة إليها والتذكير بها، لأقول: إن أي عاقل يريد أن يتحدث عن النقص الذي قد يسببه الصوم في الإنتاج، لا بُدّ أن يضع في الميزان كل ما يجلبه الصوم لصاحبه أو لغيره، من فوائد ومصالح مادية أو معنوية عاجلة أو آجلة، وحينئذٍ سيختلف الوزن والتقويم قطعاً.
وحتى على صعيد الإنتاج نفسه، لا بُدّ أن نستحضر أن الصوم –إذا أُدّي على حقيقته- يعلّم صاحبه الإخلاص في العمل، والتخلي عن الغش والزور والاختلاس. وكل هذا في صالح الإنتاج كما لا يخفى. وهي آثار إيجابية تستمر طيلة السنة أو طيلة العمر، وليست منحصرة في أيام الصيام.
ومن طريف ما يتذكر ويذكر في هذا السياق ما حدثني به أحد أقاربي من أن رجلَ أعمال إسبانياً كان يحتفي بعماله المغاربة الذين كانوا يصومون ويصلون، وكان يشجعهم على الصيام، ويعتني بتهييء طعام فطورهم وسحورهم، لأنه كان يجد من الإخلاص والجدية والأمانة ما لا يجده في غيرهم من المسلمين غير المتدينين.
2. مسألة الحجاب
يقصد اليوم بالحجاب –على خلاف الاستعمال القرآني- اللباس الساتر الذي تلبسه المرأة المسلمة المتدينة، ليغطي كامل جسدها ما عدا الوجه والكفين. وقد يراد به بصفة خاصة تغطية الرأس والشعر.
ويرى عدد من المعاصرين العصريين أن هذا اللباس لم يعد اليوم ملائماً للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لمجالات الحياة العامة كافة، من مدارس وجامعات، ومن معامل وإدارات، ومن أسفار وتجارات. ويرون أن هذا الحجاب يعوق المرأة ويعرقل تقدمها وتحضرها.
ومرة أخرى، فأنا لن أناقش المسألة من الناحية الفقهية بنصوصها وأحكامها، فكل ذلك معلوم لدى الخاص والعام. ولكني أناقشها مناقشة مصلحية. فهل النصوص والأحكام المتعلقة بالموضوع تعارض المصلحة؟ وهل هي نفسها تخلو من المصلحة؟
إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوّتها. وأحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله، في العالم الإسلامي، وفي العالم الغربي، أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب. فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزاً للثبات والمعاناة في سبيلها. وله معانٍ رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عادياً يقبله الجميع ويسلم به الجميع.
فالحجاب اليوم أصبح مصدر حرمان ومضايقة واستهزاء لكثير من المتمسكات به ولذلك صار التمسك به رمزاً للتمسك بالمبادئ والحقوق، ومقاومة الضغوط والتعسفات. فالمرأة المتحجبة هي امرأة متحررة ومناضلة بمجرد تسكها بحجابها في وجه الضغوط والمضايقات كافة.
وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها، أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن.
هذا من جهة الادعاء بأن حجاب المرأة يكرس تخلفها ويعوق تقدمها ويفوت مصالحها.
وأما من جهة أخرى، فإن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ووظيفتها في الجسد المزوّق المنمّق المعروض في كل مكان.
والمرأة على نطاق واسع –وعت أو لم تَعِ، قصدت أو لم تقصد- واقعة هي أيضاً في فتنة الجسد، وفي فتنة اللباس، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج. وجميع المتبرجات -من حيث يدرين أو لا يدرين –هن عارضات أزياء وعارضات أجساد. وكثيرات منهن يعشن يومياً –وكلما خرجن إلى العموم- في منافسة استعراضية لا تنتهي، في الشوارع والإدارات، وعلى الشواطئ وفي المتنـزهات، وفي المدارس والجامعات، وفي المناسبات والحفلات. وكمن يصب الزيت على النار، يقوم عدد لا يحصى من الرجال بالإغراء والتشجيع، وتقوم مؤسسات تجارية وإعلامية وسياحية بتغذية هذا التوجه وتأطيره والمتاجرة به بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا تدخل المرأة –الضحية الأولى لهذا المنـزلق- في دوامة تنحط فيها كرامتها وقيمتها، وتنحط فيها اهتماماتها وانشغالاتها،حيث تستهلك قدراً كبيراً من وقتها ومن مالها ومن تفكيرها في تدبير شؤون جسدها ولباسها ومظهرها.
والحقيقة أن الذي أصبح يعوق المرأة اليوم عن رقيها وتحررها، وعن دراستها وعملها، ليس الحجاب، بل هو الانغماس في التبرج والتزين والهواجس الاستعراضية.
وهذا كله لم يعد إثباته بحاجة إلى الروايات المتواترة، أو الاعترافات والشهادات الخاصة، بل أصبح واقعاً طافحاً يعرف ويشاهده من أحب ومن كره.
هذا الواقع الرديء الذي تنجرف فيه المرأة انجرافاً يخرج بها –أو يهبط بها- من التكريم إلى التجسيم، هو الذي يقف اليوم في وجهه اللباس الإسلامي، الذي يمنع المرأة من الانزلاق في المنحدر المذكور، ويمنعها من أن تصبح مفتونة أو فاتنة بجسمها وأعضائها، أو بلباسها وحليها، أو بأصباغها وعطورها، أو بمعاملاتها وعلاقاتها.
إن اللباس الساتر المتعفف، المعتدل المتواضع، أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة، ومساعدتها على إعلاء قيمتها وهمتها، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها. وتلك هي المصلحة حقاً.
3. قطع يد السارق
لا أريد هنا أن أناقش الرافضين للشريعة الإسلامية، الذين يرون فيها مظهراً للتخلف والماضوية. ويرون بصفة خاصة أن بعض العقوبات البدنية التي نصت عليها تمثل بدائية وهمجية لا تليق بهذا العصر المتحضر. فأولئك يقال لهم: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:6).
ولكني أناقش بعض المفكرين المسلمين، الذين يبحثون عن فهم الشريعة فهماً متجدداً ومتطوراً، في حدود ما يظهر لهم من مقاصدها، وفي حدود تقديرهم للمصالح التي ينبغي رعايتها وتقديمها.
وفي هذه المسألة –مسألة قطع يد السارق- سأناقش بصفة خاصة ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري، باعتباره نموذجاً لما يقال في مسائل أخرى من التشريع الإسلامي.
أورد الجابري مثال قطع يد السارق، ليوضح كيف ينبغي أن يكون الاجتهاد والتجديد اليوم، وذلك باعتماد مقاصد الشريعة واعتماد المصلحة التي هي المقصد النهائي للتشريع، وهي لذلك “أصل الأصول كلها”.9
وعلى هذا الأساس يرى أن الحكم بقطع يد السارق كان في وقته وظروفه يحقق المصلحة ويلائمها تماماً، حيث لم يكن يومئذٍ سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتطعمه… “وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تماماً في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال”.10
ومفهوم هذا الكلام وسياقه، يعنيان أن قطع يد السارق لم يعد محققاً للمصلحة ولم يعد ملائماً، ولم يبق لها ما يسوغه.
وجرياً على ما سرت عليه في المثالين السابقين، لا أريد أن أدخل في مناقشة فقهية أصولية لمسألة قطع يد السارق، وما تقتضيه الأدلة المعروفة من قرآن وسنة وإجماع إلخ، لأن ذلك –أولاً- معلوم ومشتهر، ولأني –ثانياً- أبحث في مدى ما يقال من تعارض المصلحة مع النص.
وأود في البداية أن أوضح بإيجاز جملة أمور:
أولها: أني لست ممن يجعلون تطبيق الشريعة مرادفاً لإقامة الحدود. وإنما الحدود جزء صغير ومتأخر في الترتيب ضمن خريطة التشريع الإسلامي.
وثانيها: أن إقامة الحدود –ومنها حد السرقة- مشروطة بشروط ولوازم، يكون تطبيق الحدود بدونها عسفاً على الناس وعلى الشريعة نفسها.
وثالثها: أن العقوبات المنصوصة في الإسلام تتسم بقوة الزجر، وسهولة التنفيذ، فهي زاجرة إلى أقصى الحدود للجناة ولغيرهم. ومن حيث التنفيذ لا تكلف ميزانية ضخمة ولا جهازاً بشرياً واسعاً، ولا وقتاً طويلاً، كما هو الشأن في عقوبة السجن.
فإذا جئنا إلى حد السرقة –وهو القطع- وجدناه محققاً لمقصوده ومصلحته بدرجة عالية. والحق أن مجرد الإعلان عن إقرار عقوبة القطع يؤدي إلى زجر عدد واسع من السراق –أعني السراق المستحقين للقطع لا الجائعين والمعوزين- وإراحة المجتمع من سرقاتهم ومحاكماتهم وحراستهم وإطعامهم في سجونهم…
وتحقق هذا بدرجة أوسع وأبلغ حين يشرع فعلاً في تنفيذ العقوبة ولو على فرد واحد أو أفراد معدودين.
فإقرار عقوبة القطع والشروع في العمل بها يمكن أن يخفض جرائم السرقة إلى العشر أو أقل.
وهذا هو عين المصلحة وأقصى درجاتها في موضوعنا، الذي هو صيانة الأموال وأصحاب الأموال من العدوان والخوف.
بقي أن يقال: إن هذه العقوبة شديدة وفادحة، وقد أصبح بالإمكان اليوم الاستعاضة عنها بغيرها، وأقول: إن شدة هذه العقوبة تخف وتهون بعدة أسباب:
الأول: هو ما تحققه من المصلحة العامة الواسعة، مما سبقت الإشارة إليه.
والثاني: هو القلة المتزايدة في حالات القطع بمجرد الأخذ به والمضي في العمل به.
والثالث: هو كثرة الشروط التي يلزم توافرها للحكم بالقطع، وهي شروط مبسوطة في كتب الفقه لا يتسع المجال لذكرها الآن. لكن المهم هو أن تلك الشروط تضيق جداً من الحالات التي يطبق فيها القطع.
والرابع: هو قاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات.
ومعنى هذا أننا سنكون أما مصالح عظمى سيجنيها الأفراد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وميزانيتها مقابل أفراد قلائل سيتضررون جزاءً وفاقاً بما كسبوه ظلماً وعدواناً.
وإذا كان قطع بعض الأيدي يسبب تعطيلاً جزئياً لأصحابها في عملهم وإنتاجهم، فإن في سجن الألوف من السراق لشهور وسنوات تعطيلاً أكبر لهم. وفضلاً عن ذلك فإن السجن يشكل –في كثير من الحالات- مدرسة ممتازة لتعليم الإجرام وربط العلاقات بين المجرمين… فهاتان مفسدتان لا بُدّ من وضعهما في الميزان.
أضف إلى ذلك ما قد يرافق السرقة من اعتداء على الأبدان والأرواح… وهو ما يتقلص حتما بتقلص حالات السرقة لشدة العقوبة عليها.
فهل إذا نظرنا إلى المسألة من مختلف وجوهها المصلحية، مما ذكرت ومما لم أذكر، يبقى مجال للظن بأن حد السرقة لم يعد ملائماً للمصلحة ولظروفنا الحالية؟
أنا أعتقد أن الإشكال الحقيقي عند الذين لا يروقهم قطع يد السارق، هو أن هذه العقوبة وما شابهها من العقوبات البدنية المعمول بها في الشريعة الإسلامية، ليست معتمدة لدى الدول الغربية المتقدمة، بل أصبحت في نظر أهلها عقوبات مستهجنة ومستنكرة إلى درجة أصبح معها عسيراً على كثير من المسلمين، ومن مثقفيهم خاصة، استساغة هذه العقوبات والنظر إليها بتجرد وعقلانية.
ولذلك فأنا دائماً يراودني السؤال بعفوية وصدق: تُرى لو كانت الدول الأوربية أو بعضها، أخذت بعقوبة قطع يد السارق، هل كان السياسيون، والمفكرون، والقانونيون، في العالم الإسلامي سيجدون غضاضة أو حرجاً في تبني هذا الحكم وتفهم مصالحه وفوائده؟
وفي اعتقادي أن الضغط الجاثم على النفوس والعقول له أثر حاسم في تكييف النظرة وتوجيهها إلى كثير من القضايا التي استقرت عند العالم الغربي “النموذجي” على نحو مخالف لما في شريعتنا.
التعامل المصلحي مع النصوص
حين يتقرر بجلاء واتفاق كون الشريعة لا غرض لها سوى مصالح العباد، وأن كل نصوصها وأحكامها إنما تروم تحقيق تلك المصالح مع ما تستلزمه من درء للمفاسد… حين يتقرر هذا، يكون من حقنا ومن واجبنا أن نتعامل مع نصوص الشريعة وأحكامها كافة على هذا الأساس، فنفهمها فهماً مصلحياً، ونطبقها تطبيقاً مصلحياً، وأيضاً نتخذها معياراً مصلحياً.
وهذا التعامل المصلحي مع النصوص –الذي سأوضحه قليلاً في هذه الفقرة- هو البديل الصحيح عن افتراض تعارض النص والمصلحة، كما أنه بديل أيضاً عن افتراض خلو نص ما من المصلحة، وهو الافتراض الذي يساعد على التعامل الظاهري الجامد مع النصوص. فالتعامل المصلحي مع النصوص يجنبنا السقوط في ذلك الفخ المفترض (تعارض النص والمصلحة)، الذي يجعل النص في كفة والمصلحة في كفة، وكأن النص لا مصلحة فيها ولا مصلحة له. إن الوضع الصحيح للمسألة يتمثل في التسليم بأن النص مصلحة، وأنه لا يخلو نص من مصلحة، وحينئذٍ، فإن التقابل يكون بين المصلحة –أو المصالح- التي يتضمنها النص، وتلك التي يُفوِّتها التزامه والعمل به.
1. معيارية النصوص في تقدير المصالح
حين نؤمن بالنصوص، ونؤمن بعصمتها وسموها على الآراء والاجتهادات، وحين نؤمن بأن النصوص عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ? (الأنبياء:10)، فإننا لا يسعنا إلاّ أن نتخذ النصوص معياراً لضبط المصالح المعتبرة وتقديرها، وتمييز المصلحة من المفسدة، وتمييز المصالح العليا من المصالح الدنيا، وتمييز المفاسد الخطيرة من المفاسد الهينة.
لا أقول: إن النصوص ستعطينا دائماً الإجابات التفصيلية والمحددة عن كل المصالح والمفاسد ومراتبها، ولكني أقول إن النصوص معيار أساسي لذلك، ويبقى المجال واسعاً ويزيد اتساعاً باستمرار –للاجتهاد الآني الذي يزن المستجدات- ويقدر التطورات ويوازن بين الاحتياجات في ضوء هداية النصوص ومعيارتها.
وحين نتخذ النصوص معياراً مصلحياً، فإننا تلقائياً نـزيح قدراً كبيراً من التعارض بين النص والمصلحة، لأننا حينئذ نتعامل مع المصالح في تساوق وانسجام مع النصوص.
أما حين ننطلق من ذاتيتنا وحدها، ومن آرائنا ومشاعرنا واحتياجاتنا وحدها، ومن إيحاءات زمننا ومقتضياتها وحدها، ونقدر المصالح ونرتبها بناءً على ذلك، بمعزل عن النصوص وقيمها ومقتضياتها وحدها، ونقدر المصالح ونرتبها بناءً على ذلك، بمعزل عن النصوص وقيمها ومقتضياتها، فإنه لا بد أن يقع تضاد واسع بين النصوص وما نعدّه “مصالح”، وحينئذٍ سنجد النصوص تُشرِّق ونحن نغرِّب.
لقد علمتنا النصوص مثلاً أن هناك مصالح روحية عظيمة الشأن جليلة الفائدة في حياة الإنسان وسعادته الدنيوية، منها ما يشير إليه قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
وعلمتنا النصوص قيمة المصالح الخلقية وأفاضت في بيانها والحث عليها مما لا يتسع المقام لذكرها وتفصيلها، وهي معلومة.
وقد نبه الإمام ابن تيمية على أن بعض الذين يتحدثون عن المصالح يغفلون “العبادات الباطنة والظاهرة، من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب، وأعمالها: كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظـاً للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق. ويتبيّن أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح”.11
وحين نبه رسول الله -r- على حرمة الحقوق والمصالح الأساسية للمسلم قال: “كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه…”.12
فذكر مصلحة قلما ينتبه الناس إليها، وقلما يقيمون لها وزناً، وهي: العرض. فيفهم من هذا النص ومن نصوص أخرى كثيرة أن أعراض الناس، بكل ما يندرج فيها من قيم وصفات معنوية اعتبارية، مصلحة معظمة ومرفوعة ومصونة في أحكام الشريعة. وهكذا، فإننا حين نعتمد النصوص معياراً لتحديد المصالح ومعرفة قيمها ومراتبها، تتغير نظرتنا إلى موضوع المصلحة وتتعمق وتتسع وتتوازن بفارق كبير جداً عما إذا اقتصرنا على النظرة الذاتية والعرفية للمصالح.
2. التفسير المصلحي للنصوص
ومعناه النظر والبحث في مقاصد النصوص والمصالح المتوخاة من أحكامها، ثم تفسيرها واستخراج معانيها ومقتضياتها وفق ما لاح من مقاصد ومصالح، وذلك. طبعاً –دون تكلف ولا تعسف. وهذا التفسير ليس سوى إعمال للأصل المقرر، وهو أن الشريعة مصالحُ كلها ورحمة كلها… فليس من المنطقي أن نقرر ونكرر باستمرار أن أحكام الشريعة كلها مصلحة ورحمة، ثم نحجم أو نتهيب عن تحقيق ذلك وإظهاره بأقصى ما نستطيع وفي أكثر ما نستطيع من النصوص والأحكام.
والتفسير المقاصدي المصلحي للنصوص يزيل من أمامنا قدراً آخر، كبيراً أيضاً، من دعاوي تعارض النص والمصلحة، وإلا فإن هذا التعارض سيوجد حقيقة بين المصلحة والفهم الظاهري الجامد او المقصر للنصوص، لأن النصوص كلما فسرت تفسيراً يسقط مقاصدها ويضيع مصالحها أصبحت متنافية مع المصلحة بدرجة أو بأخرى.
فالعبادات مثلاً حين تفهم مقاصدها وأبعادها العقدية والفكرية، وآثارها التربوية والنفسية، ومصالحها الاجتماعية، فإن أحكامها تصير ملاذاً للمتوسمين ومدرسة للسالكين ومنهجاً للمربين والمصلحين. وإذا اعتبرت مجرد تكاليف تحكُّمية ومجرد أعباء تعبدية ومراسيم شكلية لا بُدَّ من قضائها وكفى، فإنها تصبح حينذاك مجرد “دّين يُقضى” على حساب ما يستهلكه من وقت أو جهد أو مال. وهكذا يمكن أن تعتبر هذه العبادات مفوتة للمصالح ومتعارضة معها، فيكون أصحاب هذه النظرة بين من يؤديها فقط ليستريح منها ومن حسابها، وبين من يتركها بالمرة وينصرف إلى “مصالحه“!
وقد سادت لدى كثير من فقهاء المذاهب عقلية تتبنى التعامل مع أحكام العبادات على أنها مجرد كلفة وإلزام، فيجب أداؤها بانضباط وحرفية أداءً لحق الله تعالى وإبراءً للذمة لا غير، ولذلك ألحقوا بها من المبالغات والاحتياطات ما عقدها وضاعف من كلفتها. وغيّبوا روحها ومقاصدها، وكونها رأفة ورحمة وصلاحاً ويسراً. وحتى الرخص المنصوصة أحيطت بشروط تكاد تكون شروطاً تعجيزية، وقد ألف شيخنا العلامة المرحوم عبدالحي بن الصديق كتاباً كاملاً في إبطال التشديدات الفقهية الخاصة بالطهارة والصلاة. وذكر أن الرخص التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده تيسيراً عليهم ورفعاً للحرج عنهم أشد عسراً من العمل بالعزيمة المشروعة ابتداءً.13
3. التطبيق المصلحي للنصوص
وهو فرع وامتداد للتفسير المصلحي للنصوص، وهو أيضاً يرفع قدراً آخر من الحالات التي يظن فيها قيام التعارض بين النص والمصلحة. وأعني بالتطبيق المصلحي للنصوص، مراعاةً لمقاصد النصوص والمصالح المتوخاة منها عند التطبيق. وهو ما يقتضي تكييفها معيناً لتنـزيل النصوص، وتكييفاً للحالات التي تنطبق عليها النصوص والتي لا تنطبق، والحالات التي يتعين استثناؤها بصفة دائمة أو بصفة عارضة…
وأصل ذلك كله ومرجعه إلى نهج النبي -r- وصحابته رضي الله عنهم، ومن أمثلته حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي -r- أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاّكَ الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: “إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه”.14
فهذا الحديث صريح، مؤكد بالقسم، في أن من طلب الإمارة أو حرص عليها لا تعطى إيّاهُ. ولذلك مقاصد ومصالح لا تخفى. وحسبنا أن أعظم مصائبنا هو الصراع على الإمارة بين طلابها، وتسلطهم على الأمة من غير أهلية منهم ولا موافقة منها. وللحديث مرامٍ تربوية تتمثل في كبح أطماع النفوس من حب للرياسة والعلو والظهور وما في ذلك من مكاسب مادية ونفسية.
ومع هذا كله فإن التطبيق المصلحي المتبصر ينظر ويميز ويستثني الحالات التي تكون مبرأة من هذه الآفات، وتكون محققة لمصالح أخرى واضحة. ولذلك وجدنا النبي -r- يولّي ويؤمّر من سأله ذلك، كما في قصة زياد بن الحارث من قبيلة صُداء. وكان هذا الرجل هو الذي قاد وفد قبيلته إلى رسول الله -r- ليعلنوا إسلامهم الذي تبعه إسلام قبيلتهم. قال زياد: “وكنت سألته أن يؤمرني على قومي، ويكتب لي بذلك كتاباً، ففعل…”.15
وقد علق ابن القيم على هذه القصة فقالك –فيما قال-: “وفيها جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئاً. ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته. ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: إنا لن نولي على عملنا هذا من أراده، فإن الصدائي (زياد بن الحارث) إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة، وكان مطاعاً فيهم، محبباً إليهم. وكان مقصوده إصلاحَهم ودعاءَهم إلى الإسلام. ورأى أن ذلك السائل (الذي في الحديث الأول) إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها. فولى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله، ومنعه لله”.16
ومن أمثلته أيضاً الأحاديث العديدة التي تأمر بطاعة الأمير ولو كان عبداً حبشياً وبطاعته في المنشط والمكره والعسر واليسر، وبخاصة في المهام العسكرية.
ومع ذلك فقد حاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله -r- بعث جيشاً وأمَّر عليهم رجلاً. فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها. فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذُكر ذلك لرسول الله -r- فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولاً حسناً.17
وفي الموقف النبوي من هذه الواقعة تنبيه وتوبيخ لمن يتعاملون مع النصوص تعاملاً جامداً يتعامى عن المصالح والمفاسد، ولا يتدبر مقاصد النصوص. وفيه ثناء على الذين يطبقون النصوص بوعي وتبصر، وينظرون إلى النتائج والمآلات.
ومن التطبيق المتبصر للنصوص ما رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم – في كتاب الجنائز وغيره من مصنفاتهم- أن امرأة مسكينة كانت تقوم بتنظيف المسجد، فمرضت “فأُخبر رسول الله ? بمرضها، وكان رسول الله ? يعود المساكين ويسأل عنهم فقال رسول الله -r-: إذا ماتت فآذنوني. فخُرج بجنازتها ليلاً، فكرهوا أن يوقظوا رسول الله ?. فلما أصبح رسول الله -r- أُخبر بالذي كان من شأنها. فقال: ألم آمركم أن تؤذِنوني بها؟. فقالوا: يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلاً ونوقظك. فخرج رسول الله -r- حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات.
فها هنا كان الصحابة أمام خيارين: إما أن يلتزموا الأمر النبوي ويطبقوه تطبيقاً حرفياً لا يلتفت إلى شيء، وإما أن يستحضروا إلى جانب الأمر ما يحيط بتنفيذه في الحالة التي وقعت ن من أدب ومصلحة ومفسدة في حق رسول الله -r-، عملاً بمنهج التطبيق المصلحي المتبصر للنصوص.
ومن طرائف الأمثلة في هذا الباب ما رواه ابن القيم عن شيخه ابن تيمية قال: “مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار على قوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم”.18
فهذا هو التطبيق الصحيح للنصوص، بل هذا هو الفقه الصحيح للدين وشريعته، كما قال ابن الجوزي: “والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد”.19
ونخلص مما سبق إلى أن ما قد يظهر من أشكال التعارض بين المصلحة والنص، إنما مرده إلى أحد أمرين: إما خلل في فهم المصلحة وتقديرها، وإما خلل في فهم النصوص وتطبيقها.