أهل التصوف بين الشريعة والحقيقة والطريقة
د.معتز الخطيب
أُثير في الأيام الماضية الجدل حول التصوف، وهو جدلٌ قديم ومتشعب، يصحو تارة ويخبو أخرى لأسباب مختلفة. فأهل النظر العقلي ينفرون من أهل الأذواق والمواجد والتجارب الروحية، وأهل الحديث والأثر يُزعجهم توسع المتصوفة في الحديث وعدم تحريهم فيه أو عدم تقيدهم بما قَبله المحدثون، بل ربما توسع بعض المتصوفة -كمحيي الدين بن عربي مثلاً- فقال بالتصحيح الكشفي! وفي العصر الحديث شنت بعض حركات الإصلاح هجومًا حادًّا على التصوف الطرقي؛ لأنه لا يستجيب لمتطلبات التربية الحديثة وقيمها، وذلك في سياق التواؤم مع الحداثة الأوروبية التي شكلت سيلاً لا يمكن دفعه على حد قول خير الدين التونسي.
ولكن الجديد في الجدل الحادث حول التصوف أنه افتقر -شأن جدالاتنا الأخرى- إلى معطيات علمية وتدقيق بين ما هو نقد على أسس علمية (scholarship) وما يقوم على خصومة أو مزاج شخصي أو أيديولوجي أو معلومات شائعة وصور نمطية، وقد وجدت هذا الجدل مناسبة للحديث عن التصوف وبعض تطوراته: مفهومًا ومجالاً وتجربةً دينيةً.
لستُ معنيًّا هنا بالتسمية، ولا سيما أنه اختلف فيها بعض أهل التصوف أنفسهم، ولكن يمكننا أن نميز بين مستويين في التصوف: الأول كونه حقلاً أو مجالاً له وظائفه وقواعده واصطلاحاته وآدابه ومنظروه ومصادره والمتخصصون فيه عربًا وأجانب، والثاني كونه تجربة وطريقة، وهذا مستوى واسع ومتنوع أيضًا ومفتوح على احتمالات النقد والقبول.
بدأ التصوف ممارسة وتجربةً، ثم تحول إلى مجال أو علم، فقد كان يقوم -بحسب ابن خلدون (808هـ)- على العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدّنيا وزينتها، والزّهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكانت أحكامه إنّما تُتَلقّى من صدور الرّجال، ثم صار علمًا مدوَّنًا شأنه في ذلك شأن سائر العلوم التي تحولت إلى صنائع حتى “صار علم الشّريعة على صنفين”: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وآخر مخصوص بالمتصوفة، أي أن التصوف معدود ضمن “العلوم الشرعية” أو “علوم الشريعة”.
وعلم التصوف حقلٌ أخلاقي ثري، فقد عرّف بعضهم التصوف بأنه التخلق، أو أنه التخلق بأخلاق الله تعالى، بل عدَّه بعض مَن صنّف في تاريخ العلوم وتصنيف المعارف: علم الأخلاق. والتصوف يستند إلى تقليد طويل عماده مصادر عديدة من أبرزها أعمال الحارث المُحاسِبي (243هـ) والحكيم الترمذي (نحو 320هـ) وأبي بكر الكَلاباذي (380هـ) وأبي عبد الرحمن السُّلَمي (412هـ) وأبي القاسم القُشيري (465هـ)، وعبد القادر الجيلاني (561هـ) وشهاب الدين أبي حفص السُّهْرَوَردي (632هـ) صاحب عوارف المعارف، وغيرهم.
وقد تأثر علم التصوف -في بعض مراحله- ببعض الفلسفات مما يصح أن يطلق عليه “التصوف الفلسفي” كما لدى محيي الدين بن عربي (638هـ) وعبد الحق بن سبعين (669هـ) وشهاب الدين الشيرازي المعروف بمُلا صدرا (1050هـ) وغيرهم، وإن كان بعض دارسي ابن عربي من الفرنسيين ينفي عنه دراسته للفلسفة واطلاعه عليها.
يعالج التصوف مسائل وموضوعات لا ينشغل بها الفقيه فضلاً عن أن يدركها الفيلسوف بفكره النظري؛ إذ إنها مبنية على التجارب والحدس والتفكر والفيوضات الربانية التي تحصل بكثرة المجاهدة حتى تصير مَلَكات كملكات العلوم والصنائع، ومن ثم قد تَضيق عنها العبارة. ويمكن القول: إن التصوف -بحسب تحديداته التي ترد لدى ابن خلدون وحاجي خليفة (1068هـ) والطاهر بن عاشور (1393هـ) وغيرهم- يدور على 3 أمور رئيسة هي:
- المعرفة، فالتصوف له أبستيمولوجيا يحدد من خلالها طرق السعادة الأبدية والكمالات النفسية.
- المجاهدة والمحاسبة، وهي الطريقة التي تبين كيفية الترقي وطلب الكمال الإنساني، وفيها يندرج الاقتدار على التخلق بالأوامر الشرعية التي هي شرط لا بد منه لما صار يسمى “التصوف السني”؛ ليميزوه عن “التصوف البِدْعي” الذي قد ينفلت من أحكام الشريعة تحت ذرائع متعددة منها شدة القرب أو الوصول إلى المبتغى.
- الأحوال والمقامات والاصطلاحات والمفاهيم والأذواق والمواجد، وتتناول تفاصيل ما يَعْرض للسالك أو المتصوف خلال رحلة المجاهدة والرياضة النفسية، وهي مبنية على تجارب أهل هذه الطريقة، ومستندة إلى تقليد راسخ ومستمر تعاقبت عليه أجيال من العلماء وأهل هذا الفن.
والإرث الصوفي الأخلاقي يتميز عن مجالين آخرين يتقاطعان معه في بعض انشغالاته، وهما: (1) الفلسفة الأخلاقية، سواءٌ اليونانية أم الإسلامية الكلاسيكية، (2) والفقه الإسلامي الذي يهدف -في نهاية المطاف- إلى تخليق الإنسان؛ أي جعله أخلاقيًّا عبر ضبط ظاهره بأحكام الشريعة؛ بحيث ينعكس ذلك على باطنه واستقامته.
وقد ذكر ابن عجيبة (1224هـ) أن “من قواعد أهل التصوف الرجوع إلى الله في كل شيء”، ولكن هذا الرجوع الكلي إلى الله لا يتحقق بالاقتصار على طريقة الفقهاء في الوقوف عند الظاهر من الأفعال أو ما يظهر أثره، ومن ثم توسع الصوفية في اتجاهين:
الأول في تقويم الأفعال الإنسانية لتشمل أعمال القلوب، وأن لله حقوقًا في اعتقادات القلوب وكَسْبها وهو ما سُمي “فقه الباطن”، ومدارُه على ما يسميه المتصوفة الخطَرات، وهي كما يقول المحاسبي: “دواعي القلوب إلى كل خير أو شر”.
والثاني في مصادر معرفة الإرادة الإلهية التي تحكم أفعال العباد، فهذه الإرادة تشمل “الأمر الظاهر” الذي تعبِّر عنه نصوص الوحي، و”الأمر الباطن” الذي يتمثل في الإلهام واستفتاء القلب، وغيرهما مما يعبرون عنه بالكشف الذي يحصل بشرط الاستقامة.
وإذا كان مجال الفلسفة يتمركز حول العقل، فإن مجال التصوف يتمركز حول القلب الذي هو قوةٌ خفية أو لطيفة ربانية روحانية هي المُدرِك من الإنسان، وهي المخاطَب والمعاقَب والمعاتَب والمطالَب. ويَرِد على هذا القلب خطابٌ تتنوع مصادره، ويُفرَّق بين أنواعه بعلامات واصطلاحات. فإذا كان من المَلَك فهو الإلهام، وإذا كان من قِبَل النفس فهو الهواجس، وإذا كان من قِبَل الشيطان فهو الوسواس، وإذا كان من قبل اللَّه سبحانه وتعالى وإلقائه في القلب فهو خاطر حق.
فالمتصوفة أدركوا تعقيدات ما يجول داخل الإنسان واختلاف دواعيه إلى الإتيان بأفعاله، ومن ثم عَدّوا “محاسبة النفس” إحدى التقنيات المركزية في التزكية والترقي. فنحن أمام رؤية أشدُّ تركيبًا من رؤية فلاسفة اليونان لقوى النفس الثلاث: القوة الشهوية والقوة الغضبية والقوة الناطقة (أو العاقلة) وما ترتب عليها من فضائل أربعة هي: العفة والشجاعة والحكمة والعدالة التي قال بها أفلاطون ومن تبعه من فلاسفة المسلمين. ويمكن القول: إن فضائل الصوفية تتلخص في رُبع المنجيات في مقابل الرذائل التي تَضمنها ربع المُهلكات من كتاب “إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي (505هـ).
التصوف مجال عملي خصب يقوم على التجربة الفردية والتطهير الروحي، ويمكن إدراجه -في رأيي- ضمن مجالات ما يسمى اليوم “الأخلاق التطبيقية”
وإذا كان الفقهاء يتحرّون الأمر الإلهي (خطاب الأمر والنهي)، فإن المتصوفة يتحرّون المراد الإلهي وما يحبه الله ويكرهه، الأمر الذي جعلهم ينشغلون بألوان الخطاب ظاهرًا كان أم باطنًا، وفي الخطاب الباطن انشغلوا بالتمييز بين أشكاله المختلفة (الإلهام، والهواجس، والوساوس، وخواطر الحق)، فهم يرون أن الوحي الباطن يتكامل مع الوحي الظاهر، وأن تحري الوحي الباطن يَفرض التمييزَ بينه وبين ما قد يختلط به من وساوس شيطان أو أهواء نفس.
فالوحي الباطن يتخذ شكلين: الإلهام من الملَك وخاطر الحق من الله، وكلاهما يشكل مصدرًا لتقويم أفعال المتصوف، ومن هنا اعتبر السهروردي المشار إليه سابقًا أن “العلوم اللدنية في قلوب المنقطعين إلى الله ضربٌ من المكالمة”. وهذا توجه يخالف طريقة الفقهاء الذين اقتصروا على معرفة خطاب الأمر والنهي كما يرد في النصوص، كما أن مدار عملهم على القوانين التي تجري على جميع المكلفين، بينما انشغل المتصوفة بتنمية الوعي الفردي بالله تعالى طلبًا للكمال الإنساني، وانشغلوا بضبط الأفعال والأحوال والإرادات للإجابة عن سؤالين:
كيف يحيا العبد (الحياة الموصلة إلى القرب والسعادة)؟
وكيف يضبط رغباته وأهواءه ليرقى (المجاهدة وتزكية النفس)؟
وبهذا فإن التصوف مجال عملي خصب يقوم على التجربة الفردية والتطهير الروحي، ويمكن إدراجه -في رأيي- ضمن مجالات ما يسمى اليوم “الأخلاق التطبيقية”.
وإذا كان أهل الفقه يأتون بالطّاعات، وشاغلهم الرئيس هو الامتثال للأمر والإجزاء بأداء التكاليف صحيحة وفق القوانين الفقهية، فإن أهل التصوف يشغلهم نتائج العبادات (التي هي تكاليف وقُرُبات معًا)، وما يتحصل عنها من الأذواق والمواجد ليطّلعوا على أنّها خالصة من التّقصير في حق الله تعالى، أي ينتقلون من متابعة الأمر إلى حضور الآمر سبحانه وتعالى، ولذلك فأصل طريقتهم -كما قال ابن خلدون- “محاسبة النّفس على الأفعال والتّروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد الّتي تحصل عن المجاهدات، ثمّ تستقرّ للمريد مقاما يترقّى منها إلى غيرها، ثمّ لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم”، وقد صنف فيها غير واحد منهم، كجوامع أدب الصوفية لأبي عبد الرحمن السُّلَمِي أحد أوائل أئمة هذا الفن، وقد كرسه لوصف نمط حياة أهل التصوف وتقاليدهم ووجه مأخذها من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما التصوف بوصفه تجربة (أي العمل الديني) فهو سيّال بحسب الشيوخ والسالكين، سواءٌ رجع إلى طرائق المتصوفة التي شاكلت مذاهب الفقهاء، أم ارتبط بالتجارب الروحية الفردية وما تقود إليه من أفعال ومقولات قد تكون محلاً للنقد من قبل المراقب أو غير المجرّب أو غير المتلبس بتلك الحال التي لها سلطانها.
والنقد الذي يتوجه إلى بعض هذه الطرائق والتجارب يتنوع، فبعضه يكون بحسب صلتها بقوانين المعقول أو قوانين الفقه، أو قوانين النقل، وبعضه يكون ناتجًا عن إلغاز أو عدم إدراك مراد القوم والتمرس بطريقتهم، فالقوم قد اختُصّوا بمآخذ مُدْرَكة لهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، وهذا شأن كل مجال أو تخصص، إذ الأوضاع اللّغويّة إنّما هي للمعاني المتعارفة، ولكن قد يَعرض للصوفية ما هو غير متعارف فيصطلحون على التّعبير عنه بألفاظ يتيسر فهمها على وجه التقريب دون الإحاطة، ولكنها تبقى قاصرة عن الوفاء بالمعنى. وهذا شأن سائر العلوم التي تتكون بالملكات؛ فقد تقصر عنها العبارة، بل وجدنا ذلك حتى في علم علل الحديث لدى المحدثين.
ثم إن حاجي خليفة نبّه إلى نقطة مهمة، وهي أن العبارات إنما وُضعت للمعاني التي وصل إليها أهل اللغات، أما “المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته، فضلا عن قوى بدنه، فليس بممكن أن يوضع لها ألفاظ، فضلا عن أن يُعَبَّر عنها بالألفاظ”، ولهذا قال ابن خلدون: “وليس البرهان والدّليل بنافع في هذا الطّريق ردّا وقبولاً؛ إذ هي من قبيل الوجدانيّات”، وهنا يظهر أهمية الجهد الفلسفي الذي قام به طه عبد الرحمن إذ نقلها من الوجداني إلى الفلسفي الحِجاجي وبنى عليها فلسفة سماها “الائتمانية”.
ونتيجة هذه التوترات بين المتصوفة وغيرهم، أو بين هذه المجالات، نشأت طائفة ممن جمعوا بين الفقه والتصوف كالحارث المحاسبي وأبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني والعز بن عبد السلام (660هـ) وغيرهم، وصولاً إلى أحمد زروق (899هـ)، كما نشأت طائفة أخرى ممن جمعوا بين الحديث والتصوف كالحكيم الترمذي وأبي بكر الكلاباذي (380هـ) وأبي نعيم الأصبهاني (430هـ) وغيرهم، ونشأت طائفة ثالثة ممن جمعوا بين التصوف والفلسفة كالغزالي وملا صدرا وصولا إلى طه عبد الرحمن من المعاصرين مما يثبت أن العمل الديني قد يوسع حدود العقل.
ميزنا إذن بين مستويين للتصوف، الأول بوصفه حقلاً تَحقق له سمات العلوم ضبطًا وتقعيدًا وتنظيرًا وجماعةً علمية، والثاني بوصفه تجربة مفتوحة على الخصائص والأحوال الفردية التي بعضها يُروى للتأسي والإفادة، وبعضها يُطوى لأنه يبقى في إطار التجربة الفردية أو الشطح.
ولكن لا بد كذلك من التمييز بين التصوف والمتصوفة (كالفقه والمتفقهة)؛ إذ المتصوفة قد يختلط فيهم الصالح بالطالح، وهو فرقُ ما بين المنتسب إلى الحقل ومن يَصْدق فيه كونه من “أهله”، وقد كان عبد القادر الجيلاني يقول عن أهل التصوف: إنهم “الذين أفعالهم وأقوالهم موافقة للشريعة والطريقة، وهم أهل السنة والجماعة … ويُعلم أهل الحق بشاهدين: أحدهما ظاهر، والآخر باطن. فالظاهر: الاستحكام على الشريعة أمرًا ونهيًا، والباطن أن يكون سلوكه على مشاهدة البصيرة فيرى من يقتدي به -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- ويكون واسطة بين الله وبين روحانية النبي صلى الله عليه وسلم”، وقد تحدث عن طوائف عدة من المتصوفة سماهم “بِدعيون” بل كفّر بعضهم وأحلّ دماء بعضهم الآخر!
والإمام الجَيْلاني أو الجيلي (561هـ) أحد النماذج المشرقة التي جمعت بين الفقه والتصوف، وحصل له القبول التام من أئمة عصره ومَن بعدهم كما نقل ذلك غير واحد من الأئمة، فهذا الإمام محيي الدين النووي (676هـ) يقول عنه: “كان شيخَ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد، وانتهت إليه رياسة العلم في وقته، وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر… وانعقد عليه إجماع المشايخ والعلماء -رضي الله عنهم- بالتبجيل والإعظام والرجوع إلى قوله والمصير إلى حكمه، وهرَع إليه أهل السلوك من كل فج عميق”. وقال عنه الحافظ ابن كثير (774هـ): “له اليد الطولى في الحديث والفقه والوعظ وعلوم الحقائق… كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للخلفاء والوزراء والسلاطين والقضاة والخاصة والعامة، يصدعهم بذلك على رؤوس الأشهاد ورؤوس المنابر وفي المحافل”.
وذكره معاصره الإمام الحافظ أبو سعد السمعاني (562هـ) فقال: “حصل له القبول التام من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه، وانتصر أهل السنة بظهوره، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وهابه الملوكُ فمَنْ دونهم”، وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة (620هـ): “لم أسمع عن أحد يُحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عن الشيخ عبد القادر، ولا رأيت أحدًا يُعظَّم من أجل الدين أكثر منه”.
وتلقيه بالقبول، وإجماع الناس عليه، وحكاية أقوال من سبق -وهم مَن هم- يدل على هذا الإحكام الذي قام به الجيلاني في الربط بين الشريعة والحقيقة والطريقة، وبين الفقه والتصوف، وبين الرأي والأثر؛ بل إنه جمع بين الحنبلية تحديدًا والتصوف، فقد تتلمذ على أئمة المذهب الحنبلي: ابن عقيل الحنبلي (513هـ)، وأبي الخطاب الكَلْوذاني (510هـ)، وأبي سعد المُخَرِّمِي (513هـ)، وأبي الحسين بن الفراء (526هـ)، وكل هؤلاء تفقهوا على أحد كبار أئمة المذهب وهو القاضي أبو يعلى الحنبلي (458هـ)، فالجيلاني تفقه عليهم واتصل بهم حتى أحكم الأصول والفروع والخلاف، ثم تفقه به بعض أئمة المذهب الذين عليهم العمدة، واعتُمدت أقواله ونقلوا عنه في مصادر المذهب المتأخرة.
وممن تفقه عليه الموفق بن قدامة الذي قال: “وكنت أقرأ عليه من حفظي من كتاب الخرقي (334هـ) غدوة، ويقرأ عليه الحافظ عبد الغني من كتاب الهداية [للكلوذاني] في الكتاب، وما كان أحد يقرأ عليه في ذلك الوقت سوانا، فأقمنا عنده شهرا وتسعة أيام ثم مات، وصلينا عليه ليلا في مدرسته، ولم أسمع عن أحد يُحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه، ولا رأيت أحدا يعظمه الناس للدين أكثر منه، وسمعنا عليه أجزاء يسيرة”. وكان المقدسيان قد رحلا معًا إلى بغداد وكانا أبناء خؤولة، فالموفق فقيه يعظمه أهل المذهب، وعبد الغني محدث له مكانته.
وقد تصدى شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) إلى شرح كلمات للشيخ عبد القادر الجيلاني من كتاب “فتوح الغيب”، وهي منشورة ضمن كتبه: مجموع الفتاوى وجامع الرسائل، كما أنها طُبعت مفردة في القاهرة، وهذه الكلمات في غاية النفاسة، وتعبر عن هذا الإحكام الذي أشرت إليه في الربط بين الفقه والتصوف، وفيها يقول الجيلاني: “لا بد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمر يمتثله، ونهي يجتنبه، وقدر يرضى به. فأقل حالةٍ لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يُلزم بها قلبه، ويُحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله”، وكان ابن تيمية يحتفي به وينقل عنه في مواضع عديدة من كتبه ويذكره فيقول: “الشيخ عبد القادر قدس الله روحه”.
وبعض كتب الجيلاني -كالغنية لطالبي طريق الحق- أفاد منه أئمة المذهب الحنبلي الكبار، كابن مفلح (884هـ) في كتبه “الفروع” و”المبدع”، و”الآداب الشرعية” في مواضع كثيرة، وعلاء الدين المِرداوي (885هـ) في كتابه “الإنصاف”، والحجاوي المقدسي (968هـ) في “الإقناع”، ومنصور البهوتي (1051هـ) في “دقائق أولي النهى”، و”كشاف القناع”، وغيرهم، وكلها مصادر يقوم عليها المذهب في معرفة فروعه وعليها عمدة المتأخرين، ولهذا يستحق الجيلاني -في رأيي- دراسة مستفيضة لفقهه وسلوكه وكيف استطاع أن يحظى بهذا القبول في الفقه والتصوف معًا، وكيف جسر تلك الهوة بين الحنبلية والصوفية، والله أعلم.
نشر في الجزيرة: 1/9/2021