ما حكم الشرع في التصويت في الانتخابات؟
ما حكم الشرع في التصويت في الانتخابات؟
قد يستغرب بعض الناس من هذا السؤال؟ وقد يظن بعضهم أن لا دخل للشريعة في ذلك، وإنما الاختيار والتصويت على مرشح شأن فردي، إن شاء المكلف فعله أو تركه؟ وهل إن اختار المكلف المترشح غير المناسب كالعلماني اللاديني وغيره يكون آثما أم لا؟ وما حكم اختيار الضعيف والعاجز؟ وهل للمرجعية الفكرية والمذهبية أثر في الاختيار أم لا، لأثرها على البرامج والتصورات والسلوكات وغير ذلك؟
كل هذه الأسئلة ومثيلاتها، تحتاج إلى أجوبة، وقبل خوض غمار الإجابة عنها، ينبغي التقديم لذلك بما يلي:
أولا: جميع تصرفات المكلفين، سواء القولية أو الفعلية، خاضعة للأحكام الشرعية، يعني أن مدارها على الأحكام الخمسة المرسومة شرعا، من واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام. فالفعل الصادر عن المكلفين تعتريه هذه الأحكام الشرعية، المعروفة عند الأصوليين والفقهاء خاصة، وعامة علماء الإسلام بالأحكام التكليفية.
ويعني هذا أن حركة الإنسان في الوجود، تحكمها الأحكام الشرعية، فلا يجوز للمكلف بناء على ذلك أن يُقدم على فعل، إلا بعد معرفة حكمه الشرعي، وليس هذا متعلقا بالأمور الدينية المحضة، كالصلاة والزكاة والحج والصوم، وما شابهها، وإنما كذلك يتعلق الحكم الشرعي بقضايا الأسرة، وبكافة المعاملات من بيوع ومعاهدات وعقود المعاوضات والإذعان وغيرها، ويتعلق الحكم الشرعي أيضا باختيار الحكام ونوابهم، الذين يديرون الشؤون العامة، وباختيار نواب الأمة التي يمثلونها في البرلمانات التشريعة، أو مجالس الشعب، لمراقبة التدبير الحكومي، والتصويت أو اقتراح المشاريع القانونية.كل ذلك ليس عاريا عن الأحكام الشرعية.
ويوقف الأمور حتى يعلما ما الله فيهن به قد حكما
ثانيا: معيار المصالح والمفاسد: الأحكام الشرعية مرعي فيها المصالح، فتستجلب إما وجوبا، أو ندبا. ومرعي فيها المفاسد فتستدفع إما تحريما أو كراهة. والمباح منها عند المحققين، من أمثال الغزالي والعز ابن عبد السلام والقرافي وابن تيمية والشاطبي رحمهم الله، يكون خادما للواجبات والمندوبات، فينبغي استجلابها بناء على مقصود الشرع، وإن هي خرجت عن حده ورسمه، فناقضت مقصوده، صارت ممنوعة، وإن كانت في أصلها مباحة.
فإذن معيار المصالح والمفاسد هو القاعدة الضابطة للأحكام الشرعية، وهو أيضا المتحكم في تراتبيتها، وإلى هذا ألمع الشاطبي بقوله: “الفعل يعتبر شرعًا بما يكون عنه من المصالح والمفاسد. وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنًا، أو مفسدته فجعله كبيرة، وبين ما ليس كذلك فسماه في المصالح إحسانًا، وفي المفاسد صغيرة. وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله، ويعرف ما هو من الذنوب كبائر، وما هو منها صغائر. فما عظَّمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين، وما عظَّم أمره في المنهيات فهو من الكبائر، وما كان دون ذلك فهو من الصغائر. وذلك على مقدار المصلحة والمفسدة.” (الموافقات 1/213).
ثالثا: معيار الموازنة: الأصل هو جلب المصالح، ودرء المفاسد، لكن هذا لا يتأتى دائما في الواقع، فنضطر إلى الموازنة بين المصالح نفسها، فنحصل على ما هو في أعلى الدرجات، ونوازن بين المفاسد نفسها، فندرء ما يهوي بنا في أسوء الدركات، ونوازن بين المصالح والمفاسد، فننظر أيهما غالب على الآخر، فنجلبه إن كان مصلحة، أو ندفعه إن كان مفسدة، لأن المصالح الخالصة عزيزة الوجود، ولا تصفو حياة من كدر ومنغصات.
وعلى هذا وقع كلام العز بن عبد السلام: “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما، لقوله سبحانه وتعالى: [فاتقوا الله ما استطعتم] وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: [يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما] حرَّمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما… وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة. وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يُتخير بينهما، وقد يُتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد.” (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/136).
وقد سلك هذا المنحى ابن تيمية، فأبدع -على ضوء الموازنة والترتيب- فصلاً نفيسًا جامعًا (في تعارض الحسنات والسيئات) وهو تعبير منه عن المصالح والمفاسد. جاء فيه ما نصه وهو يوازن بينهما: “إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة، كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات. فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما. وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.” (الفتاوى الكبرى 20 /50،51. وانظر مفتاح دار السعادة 2/14.
رابعا معيار الواقع: الأحكام الشرعية ليست أحكاما معلقة في السماء، لا صلة لها بالواقع، بل بالعكس تماما، فهي من إفرازات الواقع، إذ الحكم على الشيء يمر بثلاثة مراحل: الأولى: فهم النصوص الشرعية، دلالة ومدلولا، بناء على قواعد الفهم والتفسير والاستنباط، والكشف عن مقاصدها نصا أو استنباطا، وهذا ما يتكفل به علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة. والثانية: فهم النازلة الواقعة، تصورا واستيعابا، كما هي في الواقع، دون تهويل أو تهوين، وإذا كانت مرتبطة بتخصص علمي ما، وجب الاستعانة بأهله، حتى يحسن فهمها وتصورها، وهذا ما يسمى تحقيق المناط. والثالثة: عملية تنزيل الحكم على النازلة أو الواقعة، وهي التي يسميها الأصوليون بكيفية الاستدلال، أو تنزيل الأحكام على محالّها. وأي خطأ في هذه الثلاثة: فهما، وتصورا، وتنزيلا، ينعكس على الحكم، لذا قالوا الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وهنا تدخل قاعدة اعتبار المآل بحكم ارتباطها بالواقع في بعده المآلي، فقد يحكم على الشيء باعبار مآله، وليس باعتبار حاله، وهو في الحقيقة ضرب من النظر الاستراتيجي المبني على رصد مآلات الأفعال.
بناء على ما سبق، وبخاصة معيار المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وبحسب الواقع، واعتبار المآلات، تقع أمام المصوت مجموعة من المترشحين، يختلفون تماما اختلاف القطع المتجاورات من الأرض.
فإذا سبرنا وقسمنا بلغة الأصوليين، نجد المرشحين يقعون على التقسيم الآتي:
• العلماني اللاديني الذي يدعو إلى العلاقات الجنسية الرضائية، ورفع عقوبة الإعدام عن عتاة المجرمين، الذين يسفكون الدماء بغير حق، ظلما وعدوانا، وتغيير نظام الإرث الإسلامي، والتحريض على الإفطار العلني في رمضان، ومعاداة التعليم العتيق والأصيل، والدعوة إلى منع الكتاتيب القرآنية، والجهر بأن سورة الفاتحة تغرس في نفوس الأطفال العنف. وهمه طمس هوية الأمة الدينية والحضارية.
• الليبرالي والرأسمالي الجشع الذي همه في المال، والسيطرة على موارد الدولة المالية وغيرها، وجعلها في خدمته وخدمة المقربين منه، واستنزاف خيرات البلاد ومواردها الطبيعية، وهلاك مقدراتها. وهو يشترك في بعض القضايا السالفة مع العلماني اللاديني، ولا يهمه أن ترتهن البلاد في يد الأجنبي.
• والصالح المصلح، الذي يسعى إلى إصلاح الأوضاع بحسب الإمكان، محافظا على المال العام، لأنه مال المسلمين، متفانيا في خدمة المواطن بحسب الوسع، له صلة بأمته دينيا، وحضاريا، وثقافيا، واجتماعيا، لا يتنكر لتراثه، ولا يسعى في الأرض فسادا.
• الفاسد أخلاقيا همه في السطو على المال العام والحصول على المناصب، والتقرب من ذوي السلطان، منحط الكرامة، يميل مع التيار الجارف حيث مال. لا يهمه أي شيء سوى مصلحته الخاصة، عليها يحيى، وعليها يموت.
وممكن أن يكون التقسيم أكثر من هذا، وذلك بحسب المترشحين، لكن بقي السؤال المهم بناء على معيار الموازنة بين المصالح والمفاسد، أين موقع ذلك من أمهات المصالح من الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات؟ بمعنى هل إذا رشحت –مثلا- علمانيا لا دينيا، أو لبيراليا متحللا قد ساهمت في الإخلال بالضروريات الخمس، وهي المحافظة على الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؟ فما حكم هذا الترشيح؟ ونفس الشيء يمكن قوله في الصالح المصلح بناء على نفس المعيار المحَّكم، مع خلاف في التوجه؟
إذن فحكم التصويت واختيار المرشحين، ليس كما يظن بعض الناس أنه خال من الحكم الشرعي، وأنك إذا صوت على عمرو أو زيد فلا شيء عليك، ولا ضير عليك في ذلك. والحق أن اختيار المرشحين والتصويت عليهم، بناء على تصوراتهم الإيديولوجية، وبرامجهم المجتمعية، ودعواتهم،…إلخ، تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، إما أن يكون واجبا، إن كان المرشح من الصالحين المصلحين ذو كفاءة وخبرة ونزاهة، فهذا يجب التصويت عليه، ولا يقدم عليه غيره. وقد يكون حراما وذلك في حق المرشحين العلمانيين اللادينيين واللبيراليين، الذين يسعون إلى تغيير هوية الأمة، وارتهانها في حضن الأجنبي، فمن منح هؤلاء صوته فقد شارك في تخريب الوطن. وقد يكون مندوبا في صالح ناقص الكفاءة، وقد يكون مكروها في من له كفاءة وخبرة مع شيء من الفساد.
وهكذا فنحن نوازن ونرجح، ونقدم ونؤخر، بحسب المرشحين، وقد يقع التكافؤ بينهم، فنختار من هو أهل للترشيح، لكن ذلك بحسب ميزان الشرع، ومقاصده، في جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، لا بحسب الأهواء وحظوظ النفس، واستجلاب المصالح الشخصية، على حساب مصالح الأمة.
قد يقال لماذا لم تذكر حكم المباح؟ ألا يمكن أن يكون التصويت مباحا، للمكلف خيار في فعله أو تركه؟
قلت الأصل في التصويت عندي هو الإباحة، لكن هذا الحكم قد يتغير بحسب الحالة التي تكون عليها الأمة أو الوطن، من الصلاح أو الفساد، وإن كان عند المحققين أن حكم الإباحة نادرا ما يبقى على حكمه الأصلي، وذلك بسبب العوارض الخارجية التي تعتريه، فتغير من حكمه إما إيجابا في خدمة الواجب والمندوب، أو سلبا إن انعكس حاله في خدمة الحرام أو المكروه. والحالة التي نحن عليها في زماننا هذا –في تقديري- لا ينطبق عليها حكم المباح المجرد، وإلا تطبيقا لقاعدة اعتبار مآل المباح، لا يمكن بناء على تقسيم المرشحين، وفي ضوء أوضاع معينة، القول به، فلا يبقى إلا الأحكام الشرعية الأربعة الأخرى.
ما حكم ترك الموازنة بين المترشحين واختيار الأفضل والأصلح من بين ما هو موجود؟
نستأنس في هذا بما ذكره العلماء في من يترك الترتيب والموازنة، فقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله إلى تأثيم من يترك ذلك، إذ جعل ذلك من جملة الشرور، بتركه طاعة أوجب من أخرى، أو لم يدفع شرا أكبر في مقابل شر أخف منه، قال رحمه الله: “وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور…ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور…لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها.” (إحياء علوم الدين 3/425)
ويرى ابن تيمية رحمه الله أن ليس من الورع ترك الموازنة، وإلا نجم عن ذلك انقلاب الطاعات معاصي، والواجبات محرمات، وإنما “تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك ورعًا، كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة، ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.” (الفتاوى الكبرى 10/512).
وكأن ابن تيمية يوجه رسالة إلى بني عصرنا، الذين تغيب عنهم الموازنة، لأن الغاية من الموازنة والإيالة كما ذكر الجويني هو “طلب مصلحة المسلمين، وارتياد الأنفع لهم، واعتماد خير الشرين، إذا لم يتمكن من دفعهما جميعًا.” (غياث الأمم في التياث الظلم 109).
وصفوة القول أن الانكفاف عن الموازنة قد يعرض صاحبه للتأثيم أو شر مستطير، ولهذا وجب على المكلف –بناء على ما سبق- أن يعمل الموازنة ويختار من المرشحين الأنسب والصالح المصلح، مهما صدر منه من اجتهادات مخطئة، وتقديرات غير سديدة، فالعبرة بغلبة الصلاح والمصداقية والنزاهة، ونظافة اليد، لا سيما أن مثل هؤلاء لا يعملون في ظروف مريحة ومُعينة، لكن كما قال ابن تيمية رحمه الله في مثل هؤلاء “بقاؤه (يعني المتولي الإقطاع في ظل سلطان يأخذ المكوس ظلما، بنية دفع الظلم عن الناس وتخفيف ذلك عنهم) على ذلك أفضل من تركه … وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه… والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك: كان ترك ذلك يوجب شرًا أعظم منه. والله أعلم.” (مجموع الفتاوى الكبرى 30 /356، 360).
والحمد له رب العالمين