استقلال القضاء عن المؤثرات الخارجية
بقلم أحمد الريسوني
أحمد الريسوني نشر في التجديد يوم 12 – 03 – 2008
تحدثت في الحلقة الماضية عن شخصية القاضي ومؤهلاته الذاتية، العلمية والخلقية، باعتبارها المحدد الأول لمدى القابلية للاستقلال أو التبعية في ولاية القضاء. ونحن نجد اليوم كل الدول تنص على استقلال القضاء في دساتيرها، وتتباها بذلك في خطاباتها السياسية. ولكن الاستقلال الحقيقي والفعلي قلما يوجد له أثر، وخاصة في الدول المتقدمة في الانحطاط والاستئثار السياسي. ففي هذه الدول، تتنوع الأشكال والأساليب والوسائل ، التي تجعل القضاء خاضعا للسلطة السياسية كلما أرادت ذلك. فمن التحكم في الرواتب والتعويضات ، إلى التحكم في الترقيات والتنقيلات ، إلى سيف المتابعات وفتح الملفات ،إلى التوجيهات والإيحاءات، إلى التدخل المباشر بالتوصيات والتنبيهات. وفي كثير من الحالات يتم اختيار قضاة من نوع معين لقضايا من نوع معين أيضا. وإذا ظهر أن سير الأمور ليس على ما يرام تتم عملية الاستبدال أثناء جريان القضية، فيذهب قاضٍ، ويُؤتَى بآخر يُقضَى له… على نحو ما قال الشاعر: وقاضٍ لنا حكمه باطل … وأحكام زوجته ماضيهْ فيا ليته لم يكن قاضياً … ويا ليتها كانت القاضيهْ والزوجة هنا ليست بالضرورة تلك المرأة التي تساعد زوجها القاضي، وتتوسط عنده وتوسوس له،بل الزوجة في زمننا، قد تكون وزارةَ عدل ، وقد تكون وزارةَ داخلية ، وقد تكون رئاسةَ محكمة … المهم أنها جهة ذات سلطة يُحسب لها حساب ، ويُسمع لها ويُجاب … وهذا كله معروف ومألوف ، حتى إن السادة القضاة أنفسهم ، أصبحوا يكتسبون و يتوارثون خبرات ومهارات ، تمكنهم خ تلقائيا – من معرفة واجب الوقت، من خلال استشراف الوجهة المطلوبة والأحكام المناسبة، في بعض القضايا الحساسة ، وخاصة منها القضايا السياسية والمالية، أو التي يكون من ورائها ذوو الأوزان الثقيلة والأيادي الطويلة ! وإذا كانت أخطر القضايا التي تعرض على القضاء، هي القضايا الجنائية، فإن القاضي في هذه القضايا بالذات، يجد نفسه اليوم محاطا بمزيد من المؤثرات والضغوط التي تنال من استقلاليته، إلا من رحم الله. ومن أهم ذلك المحاضرُ والبحوث التمهيدية، التي يتمُّ إعدادها في مخافر الشرطة، وأحيانا في أماكن سرية مجهولة، يجهلها ويجهل ظروفها القاضي نفسه. وليس خافيا أن أي شخص يتم التحقيق معه في ظروف غير طبيعية، لا بد وأن يتأثر بها، ويفقد معها إرادته الحرة، كليا أو جزئيا. ونحن نعلم أن الله تعالى وهو العليم الخبير الرؤوف الرحيم ـ قد عَذَر مَن يتعرضون للتعذيب أو التهديد أو التخويف، إذا ما نطقوا بالكفروأعلنوا دخولهم فيه، مع كونه أضرَّ وأخطر ما يمكن أن يصدر عن إنسان!! فهذا الكفر الناجم عن الإكراه لا أثر للإقرار به ولا مؤاخذة عليه، فكيف بالإقرار بما هو دونه بآلاف الدرجات؟! ومن هنا فإن القاضي الذي يتبنى تحقيقات لم يباشرها بنفسه، ويعول على اعترافات لم يسمعها بأذنه، وليس مستيقنا بها ولا مطمئنا لها، يكون هو نفسه واقعا تحت نوع من الإكراه. ومعلوم أن كل ما بني على الإكراه والضغط، فهو لاغ. وقد نص فقهاؤنا على بطلان إقرار المضطهد، مع أن المضطهد لا يصل إلى درجة الإكراه ولا يقترب منها، ولكن تشوبه شائبته. فالمضطهد ـ في اصطلاح الفقهاء ـ هو من مورس عليه ضغط ومساومة، لكي يصرح بإسقاط حق من حقوقه. قال ابن القيم: … والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدا، كما قال حماد بن سلمة: حدثنا حميد عن الحسن، أن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا، فأخذه أهلها(أي أمسكوه)، فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث اليها بشئ، فلما قدم خاصموه الى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا. فردَّها عليه. ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخذِ مال، وإنما طالبوه بما يجب عليه من نفقتها، وذلك ليس بإكراه، ولكن لما تعنتوه باليمين، جعله مضطهدا لأنه عقَدَ اليمين ليتوصل إلى قصده من السفر، فلم يكن حلفه عن اختيار، بل هو كالمحمول عليه. (أعلام الموقعين ج 4 / ص 33 23)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ليس على المكره ولا المضطهد طلاق) وقد بلغ حرص الإسلام على تحرير إرادة القاضي من كل الشوائب والشبهات، إلى حد نهيه ومنعه عن إصدار أحكامه وهو في حالة غضب وانفعال. ففي الحديث الشريف ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ؛ وقد فَـهم العلماء من هذا الحديث أن كل المشوشات والمنغصات التي تؤثرعلى سلامة الفكر ونزاهة الضمير وطمأنينة النفس، لا يجوز للقاضي معها أن يتصدى للقضاء والحكم. قال الصنعاني: وقد أُلحقَ بالغضب الجوعُ والعطش المفرطان … وكذلك أُلحق به كل ما يشغل القلب ويشوش الفكر، من غلبة النعاس أو الهم أو المرض أو نحوها (سبل السلام 6 / ص 204)
ومن أهم ما يدخل في هذا الباب ـ وهومن باب أولى ـ خوف القاضي على رزقه أو منصبه أو مستقبله أو سلامته أو طموحه أو استقراره …