الإساءة للرموز والمقدسات الدينية فقه الاحتجاج وفلسفة التدافع
ذ. محمد حقي
28/09/2012
إن مقتضى التعدد والاختلاف الديني والعقدي والتنوع الثقافي والحضاري في هذه الحياة، يفرض على العقل الإنساني ثقافة الاعتقاد بالتمير وامتلاك القوة واحتكار الحقيقة المطلقة، وهذا هو جوهر سنة التدافع في الصراع الحضاري بين الحق والباطل في حركة المجتمع، ولكن في بعض الأحيان قد يلتجأ البعض إلى اعتماد ثقافة الإبادة أو ثقافة التشويه وبث الشبهات والاستهزاء والإساءة لبيان ضعف أو بطلان معتقدات الآخر، وقد تعرض كل الأنيباء من أقوامهم إلى أنواع وألوان من الإساءة لرد رسالتهم وفلسفتهم الجديدة للحياة، إما أن تكون إساءة معنوية كالسب والشتم وإطلاق الإشاعات والشبهات حول النبي وحول دعوته، وإما إساءة مادية بالتعذيب والقتل وإتلاف الممتلكات والنفي وغيرها، وفعل الإساءة يتطور بتطور وسائل التدافع في المجتمع، خصوصا مع تطور وسائل الإتصال والإعلام. فقد لاحظنا ما قام به العديد من الحاقدين المجانين بالإساءة للرموز والمقدسات الإسلامية باسم حرية الرأي وحرية التعبير، خاصة الإساءة لرمز الحضارة الإسلامية نبينا الكريم الرحيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو الإساءة للمصحف الكريم المصدر الأول للقيم الحاكمة للأمة الإسلامية، أو الإساءة للمحجبات باعتبار الحجاب رمزا دينيا للمرأة المسلمة خاصة في الدول الغربية، أو الإساءة للمسلمين عموما باعتبار الأقلية الدينية كما وقع في بورما والهند وغيرها..ولكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بين يدي هذا الفعل الغير حضاري هو كيف نتعامل مع هذا السلوك في ضوء هدايات القيم الكونية والقيم الإسلامية؟ وما هي انعكاسات السلوكات الهمجية لرد فعل الجماهير المسلمة الثائرة على صورة الحضارة الإسلامية وعلى العلاقة مع الديانات والحضارات الأخرى؟ وماهي الطرق والوسائل الحضارية التي ينبغي للعقل المسلم أن يعتمدها للدفاع ورد الضربات وتفعيل مبدأ النصرة لهذه المقدسات؟
- الإساءة للأنيباء والمصلحين ضعف وانهزامية:
إن فعل الإساءة بمعنى إلحاق الأذى المادي أو المعنوي بالآخر، لا يكون إلا عندما يقف الآخر عاجزا عن نقض نظريته أو إضعافها أو أو طمس فكره أو منهجه أو إبطال رؤيته ونموذه التفسيري للوجود، فقد كان منهج المشركين مع الأنيباء في إبطال رسالتهم السماوية هو اعتماد منهج الحجاج والمدافعة العقلية والمنطقية ثم إعمال السلطة في فرض نموذهم الثقافي أو الإغراء المادي ثم بعد ذلك إلحاق الإساءة أو الأذى بهم في آخر المطاف عند إعراضهم عن التراجع عن دعواتهم والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة ومتنوعة. لقد اتُّهم الأنبياء ومعهم رسولنا الكريم بالجنون والطّعن في النّسب والشّعر والكذب والافتراء وغيرها من النعوت والإساءات المعنوية، وقد تعرضوا أيضا للتعذيب والتقتيل كما فُعل بسيدنا إبراهيم عليه السلام من طرف المشركين الذين قالوا “حرقوه وانصروا آلهتكم” وكان هذا بعد تحريرهم لنماذجهم التفسيرية وإدراكهم أن ما يعبدون من أصنام هو اعتقاد وسلوك مناقض للمنطق العقلي والفطري السليم وأنهم بذلك على خطأ، ولكن طغيان نماذجهم الإدراكية التقليدية الصارمة أثرت على منهجهم في التفكير، فلجؤا إلى اعتماد منهج الإبادة في حق إبراهيم وأفكاره الجديدة المناقضة لمعتقداتهم ورؤيتهم للوجود، فالإساءة للآخر سياسة الضعفاء الحاسدين والحاقدين المنهزمين أمام قوة وشموخ وعظمة الآخر بعد الفشل في ضحد نظريته ورؤيته الحضارية.
2- الإساءة بين الاحتجاج وسياسة التحكم في الشعوب:
قال المفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” في مقال له بعنوان: “عشر استراتيجيات للتحكم في الشعوب” أن من بين السياسات الإستراتيجية سياسة: “ابتكر المشاكل … ثم قدّم الحلول: هذه الطريقة تسمّى أيضا “المشكل – ردّة الفعل – الحل”. في الأول نبتكر مشكلا أو “موقفا” متوقـَعا لنثير ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، و حتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها. مثلا: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو: ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الإجتماعية وتردّي الخدمات العمومية كشرّ لا بدّ منه.فهل المشكل المطروح بين أيدينا في الفعل أو في رد الفعل، ونقول أولا أن المشكل في الفعل (أي الإساءة لنبينا الكريم أو مقدساتنا” التي يُطرح معها ألف سؤال عن الأهداف من هذه الإساءة، وما مدى مصداقية الغرب في الدعاوى التي يطلقها عن الحوار الحضاري والتسامح الديني والاحترام للآخر، هل الحرية الفردية أو حرية التعبير فوق قيم التسامح والاحترام المتبادل بين الثقافات والشعوب، أم هي سياسة مغرضة لها أبعاد استراتيجية كما نبه “نعوم تشومسكي” والمشكل الثاني في ردة الفعل الغير حضارية لبعض الشعوب العربية والجماهير المسلمة في كل بقاع العالم، وهذا هو الجزء الثاني من سياسة التحكم المحكمة، ونقول أن ردة الفعل أمر طبيعي وفطري مطلوب ومرغوب فيه، لأن الذي لا يُصدر رد فعل هو من أصحاب القبور، ولكن يجب أن يكون رد الفعل مؤسس على ميزان حكيم، وثقافة حضارية سليمة، وأن لا يخرج عن حجمه الطبيعي، ونذكر في المستوى الأول الغير مرغوب فيه قصة ذلك النبي الذي لسعته نملة فأتى على عش النمل فدمره بأكمله، فأوحى إليه الله عز وجل أنه دمر أمة تسبح الله، فلم يكن رد الفعل عند الغضب في نفس مستوى الفعل، فلا ينبغي للجماهير الثائرة تبني سياسية الإحراق والقتل والتدمير وغيرها من السلوكات الغير حضارية. وفي المستوى الثاني أن الإساءة لا تقابل بالإساءة وإنما تقابل باعتماد سياسة التخويف والردع ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن ركاب الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” ونذكر هنا قصة هارون الرشيد حيث “اضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة، فعقدت “إيريني” ملكة الروم صلحًا مع الرشيد، مقابل دفع الجزية السنوية له في سنة (181هـ= 797م)، وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم، الذي خلف إيريني في سنة (186هـ = 802م)، وكتب إلى هارون: “من نقفور ملك الروم إلى ملك العرب، أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الأخ، فحملت إليك من أموالها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا فالحرب بيننا وبينك”.فلما قرأ هارون هذه الرسالة ثارت ثائرته، وغضب غضبًا شديدًا، وكتب على ظهر رسالة الإمبراطور: “من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام”.وخرج هارون بنفسه في (187 هـ= 803م)، حتى وصل “هرقلة” وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل “إيريني” من قبل، ولكنه نقض المعاهدة بعد عودة الرشيد، فعاد الرشيد إلى قتاله في عام (188هـ= 804م) وهزمه هزيمة منكرة، وقتل من جيشه أربعين ألفا، وجُرح نقفور نفسه، وقبل الموادعة، وفي العام التالي (189هـ=805م) حدث الفداء بين المسلمين والروم، ولم يبق مسلم في الأسر، فابتهج الناس لذلك.فالغرب قد يختلق المشاكل لاستفزاز مشاعر الجماهير المسلمة للرد على هذه الإساءات، وصناعة سياسة إزاء ما قام به المسلمون، وبعد ذلك يقوم بضرب مواقع استراتيجية وحيوية في الدول العربية والإسلامية، وبلورة سياسة للتحكم فيها عبر إصدار عقوبات أو تعزيز سياسات أمنية، أو فرض قوانين تحد من حرية الشعب وتطلعاته المستقبلية.
3- الإساءة وفلسفة التدافع الحضاري مع الآخر:
وفي الإساءة خير للأمة والدين انطلاقا من القاعدة القرآنية القائلة: “وعسى أن تكرهوا شيء ويجعل الله فيه خيرا كثيرا” فهذا الصراع مع الآخر هو فرصة ذهبية لبيان موقع قوة الأمة في ساحة التدافع الحضاري، ومناسبة كريمة للتعريف بقيم هذا الدين العظيم ونشر تعاليمه بين غير المسلمين، خاصة وأن الغرب متعطش لمعرفة دين الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتصحيح الثقافة المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، واكتشاف الذات الإنسانية من خلال النافذة الروحية التي يدعوا إليه الدين، لأن التفسير المادي للحياة حطم الإنسان الغربي ودمر آدميته وفطرته.إذن كيف نرد ؟هذا هو السؤال.. من هذا الباب نريد لشبابنا المسلم أن يوفر طاقاته، لأن النصرة لا تكون في الصراخ والتظاهر و الفوران الزائد عن حده، بل تكون صدق النية والالتزام الصحيح والتعبير في صمت وصناعة الموفق المؤثر، لذلك ينبغي أن نغير أسلوبنا في النصرة بأن نطلق العنان للإبداع الراقي وتفجير الطاقات والقدرات العقلية الذاتية للرد الحضاري واستغلال هذه المناسبة لإطلاق حملات على مستوى واسع عالميا للتعريف بالإسلام وقيمه والتعريف برسوله الكريم وأخلاقه السمحة وإنجازاته العظيمة بكل لغات العالم، ونقل قيم الرحمة للكون، لأن قيم القرآن نزلت عموديا من السماء إلى الأرض، لكي تمد أفقيا وتعبر القارات وتضم أطراف الأرض على لغة واحدة هي لغة التوحيد “وما أرسلناك إلا رحمة للعامين” وهي دعوة لكل من يملك أداة للتعبير، وقوة من قوى الدفع الحضارية أن يسهم بمجهوداته وإبداعاته لنصرة نبيه الأعظم، وليرجوا الأجر والثواب من رب العزة. وليستفرغ الوسع في الدفاع والنصرة لهذا الدين والدعوة إليه وخدمة الإنسانية حتى نحقق الشهود الحضاري على الأمم ونكون في مستوى إسلامنا.