إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان
إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان( )
للأستاذ الدكتور أحمد الريسوني
مما لا شك فيه أن فكرة حقوق الإنسان، بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم، هي فكرة غربية وثقافة غربية، بغض النظر عن التقائها وتقاطعها مع كثير من المبادئ والقيم الدينية، بل واستمدادها منها بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومما لا شك فيه أيضًا أن حركة حقوق الإنسان هي تطور إيجابي نوعي في تاريخ البشرية التواقة دومًا إلى تحقيق عديد من الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الإنسان الحديثة.
غير أن حركة حقوق الإنسان هذه، المنتمية إلى الحضارة الغربية وإلى الثقافة الغربية، تفتقر إلى المرتكزات الثابتة والغايات المقصودة الواضحة، وإلى المعايير الضابطة والموجِّهة. وهذا ما يجعلها في كثير من الأحيان تتأرجح وتتخبط وتسير في الاتجاه وضده؛ حتى إنها تسير أحيانًا في خدمة الإنسان، وأحيانًا ضد الإنسان وفطرته، أحيانًا في خدمة الشعوب، وأحيانًا ضد إرادة الشعوب واختياراتها وقيمها.
وأهم خلل – في نظري- تعاني منه حركة حقوق الإنسان وثقافة «حقوق الإنسان»، هو أنها ركزت على حقوق الإنسان وأهملت أصل هذه الحقوق ومناطها الذي هو الإنسان نفسه، فكانت كمن اعتنى بجني الثمرة وتلميعها، وأعرض عن سقي الشجرة وتهذيبها. والحقيقة أن هذا مجرد مثال للقيم المقلوبة المنكسة في الحضارة الغربية والثقافة الغربية، كما قال الله تعالى: ((أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الملك:22). فالتركيز على حقوق الإنسان، مع إهمال كيان الإنسان، ومع إهدار جوهر الإنسان، هو من قبيل تركيزهم على حقوق الإنسان دون تركيز مماثل على واجبات الإنسان، حتى أصبحنا أمام إنسان الحقوق لا أمام حقوق الإنسان، ومن قبيل تضخيمهم للبعد الفردي على البعد الجماعي لحقوق الإنسان، إلى غير ذلك من القيم المقلوبة.
إنسانية الإنسان أولاً
الوضع الطبيعي والسوي هو أن تكون العناية بالإنسان – من حيث هو إنسان – أسبق وأكثر من العناية بحقوق الإنسان، لأن هذه الحقوق إنما أضيفت للإنسان واستحقها، لكونه إنسانًا، وليس لأنه كائن من الكائنات ومخلوق من المخلوقات، وإلا لوجب أن نتحدث بنفس المنطق وبنفس الدرجة عن حقوق الحيوان، وحقوق الحيتان، وحقوق الشجر والحجر..
فالعناية بالإنسان قبل حقوق الإنسان هي التي تسمح لنا أولاً بتحديد سبب هذا الامتياز، وثانيًا تجعلنا نصون سبب هذا الامتياز ونحافظ عليه، وربما نحسنه ونرقيه، وتجعلنا ثالثًا نوجه حقوق الإنسان بما يتلاءم ولا يتعارض مع هذا الامتياز الذي هو سبب وجود حقوق الإنسان، حتى لا نكون كمن يتمسك بالربح ويضيع رأس المال، بل نجعل الربح يعزز رأس المال وينميه.
فبماذا استحق الإنسان هذه الحقوق؟ وبماذا استحق كل هذه الحركة وهذه المعركة من أجل تلك الحقوق؟ لا شك أن هناك خصوصية وتفضيلاً وامتيازًا لهذا الإنسان، وإلا فلو رجعنا إلى مبدأ المساواة بين المخلوقات، لكان علينا أن نقول: كفانا من حقوق الإنسان، فقد أخذ هذا الإنسان على مـدار التاريخ أضعافَ أضعافِ ما أخذته بقية المخلوقات من حقوق. علينا الآن – ونحن في عصر المساواة والإخاء والتسامح والتكافل – أن نركز على حقوق الكائنات الأخرى التي تتعرض لأبشع أشكال الاستغلال وأقصى درجات الإهمال لحقوقها، ويتم ذلك على يد الإنسان ولفائدة الإنسان؟
لن أمضي مع هذا الافتراض وهذا الاستطراد، ما دمنا مجمعين على أفضلية الإنسان وامتيازه على باقي المخـلوقات وعلى أن له من الحقوق ما ليس لها، وأن من حقوقه أن يسخرها ويستعملها لمصلحته، كما قال الله عز وجل: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (الجاثية:13)، وكما فـي قوله أيضا: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِي ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (الإسراء:70)
ولذلك أعـود وأركز على قضـية هذا البحث، القضية المهملة أو المغيبة لدى حركة حقـوق الإنسان وفي ثقافة حقوق الإنسان؛ ألا وهي إنسانية الإنسان، وسبب الامتياز والتفضيل لهذا الإنسان.
في قصة خلق آدم ـ عليه السلام ـ تصريح بما خص الله تعالى به جنس الإنسان من أسباب التمييز والتكريم والتفضيل، نقرأ ذلك في أمثال هذه الآيات:
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي ٱلارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30)، (( وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31)، (( عَلَّمَ ٱلإِنسَـٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) (العلق:5) ، (( ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ)) (الرحـمن:1-4)، (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي خَـٰلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ)) (الحجر:28-29)، ((لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) (التين:4).
- فهذا الإنسان جعله الله خليفة في الأرض، وهو تشريف وتمكين لا نعلم مخلوقًا آخر حظي به.
- والله تعالى علم آدم الأسماء كلها، والأسماء هي مفاتيح العلم والتعلم.
- وهو سبحانه علمه ما لم يكن يعلم، ومن ذلك أنه علمه البيان، والبيان ليس مجرد النطق والكلام، بل البيان، قبل ذلك، فكر ونظم للأفكار، ثم بيانها.
- والله عز وجل خلق هذا الإنسان في أحسن تقويم وأكمل هيئة.
- والأهم من هذا كله، وسر هذا كله، هو أنه سبحانه نفخ فيه من روحه. وهذه الميزة في الحقيـقة تمثل نوعًا من التشريف والتكريم لا يكاد يدركه عقل أو يستوعبه فكر، ولذلك جـاء في الآية الأخرى: ((قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)) (الإسراء:85)، ولا نعلم مخلوقًا آخر نفخ الله تعالى فيه من روحه ومنحَه هذا الامتياز.
وعن هذا الامتياز ترتب أول حق من حقوق الإنسان في التاريخ، وذلك حين أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم. فالعلة الحقيقية لإسجاد الملائكة لآدم هي التسوية الخاصة الفائقة لهذا الكائن، تم تتويجها بالنفخ فيه من روح الله، وهذا واضح في النظم القرآني: ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ)) (الحجر:29). فهو سجود لهذه الخاصية ولأجلها، وليس كما زعم التعيس إبليس الذي أبى أن يسجد وقال: ((أَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)) (الإسراء:61)، وقال: ((لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)) (الحجر:33)، حيث رأى في سجوده لآدم سجودًا لكائن طيني لا أقل ولا أكثر.
فالنفخ في الإنسان من روح الله هو سبب سموه وتفوقه، ومنبع مواهبه ومؤهلاته، والمدد الدائم لتساميه وترقيه. قال القاضي أبو بكر ابن العربي عند تفسير قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))، قال: «ليس لله تعالى خَلق هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالماً، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا، وهذه صفات الرب» .
هذه الصفات الربانية التي منح الإنسان قبسًا منها، ومنح القدرة على تنميتها واستثمارها هي كنـز الإنسان ورصيده الأغلى، وهي التي تمنحه هذا التفوق وهذا الامتياز على سائر الكائنات والمخلوقات، وبفضلها صارت له ـ دون غيره ـ قضية اسمها قضية حقوق الإنسان.
الإنسان بين البعد الديني والبعد الطيني
لا شك أن الإنسان الحقيقي، صاحب الرفعة والامتياز، إنما هو الإنسان الذي تحدثت عنه الديانات ونزلت لأجله الرسالات، فجعلت منه محور الكون وسيد الكون، وأخبرت أنه يستمد من روح الله ومستخلف عن الله، وهو لذلك يجب أن يظل مؤمنًا بالله، مرتبطًا به، عابدًا له، وإلا انقطعت حباله وتمزقت أوصاله، فهذا هو الإنسان ذو البعد الديني.
أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان، بل لا تكاد تلتفت إلى هذا الإنسان صاحب حقوق الإنسان، ولا ترى في الإنسان وحقوق الإنسان سوى مجموعة من الطلبات والرغبات والتطلعات التي تحقق للإنسان احتياجاته المادية والجسدية ومحسناته السياسية والقانونية.
وما دام هذا الإنسان – عندهم- قد تم تجريده من أي أصل روحي، ومن أي بعد ديـني، ولم تعد فيه ولا له ثوابت ولا مقدسات، فإن حقوقه نفسها تصبح خاضعـة للتطوير والتكييف المستمر بلا حدود ولا محددات. المهم هو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني.
قلت قبل قليل: إن إبليس لم ير في الإنسان إلا بعده الطيني، مع أن الخالق سبحانه قد نص وصرح في خطابه بأنه سوّاه ونفخ فيه من روحه، فالإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان هو أول توجه أيديولوجي ضال عرفه التاريخ. ومهما تكن الأوصاف والمصطلحات التي يتم إضفاؤها على النظرة المادية للإنسان وعلى التفسير المادي للإنسان، مثل الحداثة، والعقلانية، والعلمية، والموضوعية…، فإن ذلك لا يعدو أن يكون تجديدًا وزخرفة لنظرة إبليس التي لا ترى في الإنسان سوى أنه كائن طيني صُنع ((مِن صَلْصَـٰلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)).
وللأسف فإن حركة حقوق الإنسان تمضي اليوم مشدودة إلى هذه النظرة، ومحكومة بهذه الفلسفة، بل إنها تزداد إيغالاً فيها. فالاحتياجات والحقوق الدينية والروحية والخلقية مغيبة أو مهمشة، والحقوق المادية الجسدية هي المهيمنة. وأنا أعني بالدرجة الأولى التطورات الجارية حاليًا ومؤخرًا في مفهوم حقوق الإنسان وفي توظيف حقوق الإنسان، وإن كانت الأدبيات والإعلانات الحقوقية الأولى لهذا العصر مسكونة هي أيضًا بالهواجس المادية والحقوق الجسدية، مع إشارات مبهمة وخاطفة إلى بعض الحقوق المعنوية.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م، وهو أكثر نضجًا وتوازنًا من كل ما سبقه، قد تحدث بتفصيل وإسهاب عن حقوق الحرية، والمساواة، والحياة، والسلامة البدنية، والمحاكمة العادلة والعلنية، وحق الإقامة، والتنقل، واللجوء هربًا من الاضطهاد، والتملك، وتقلُّد الوظائف العامة، والشغل، والأجر العادل، وحق الراحة والتمتع بأوقات الفراغ، والصحة، والرفاهية، والخدمات الاجتماعية، ومنع التعذيب والاعتقال التعسفي والنفي والمعاملة القاسية أو الوحشية.
وهذا كله جيد ولا غبار عليه، ولكن الحقوق والتدابير التي تعتني بالإنسان وبجوهر الإنسان، وبالأبعاد النفسية السامية للإنسان، والتي تجعل الإنسان إنسانًا، وتبقي الإنسان إنسانًا، وتجعله أكثر ارتقاءً وسموًا، هذه الحقوق غائبة ساقطة، أو إن بالغنا في تحسين الظن وتحسين الفهم نقول: إنها هامشية باهتة غامضة؛ وذلك مثل الإشارات الخاطفة إلى مفردات العقل، والضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، وحماية الأسرة. وهذه -على كل حال- إشارات إيجابية لبعض الجوانب الإنسانية، لكن أيًّا منها لم يحظ بمادة مستقلة، وأكثرها لم تخصص له حتى جملة مستقلة، ولذلك قلت إنها مفردات.
فالمادة الأولى حين تتحدث عن كون الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، تضيف: «وقد وُهبوا عقلاً وضميرًا»، ثم لا نجد شيئًا قليلاً ولا كثيرًا يحفـظ العقل والضميـر، أو يطالب بالمحافظة عليهما، أو يندد بتضييعهما وتخريبهما.
والمادة الثانية عشرة تنص على أنه: «لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو مسكنه أو مراسلاته، أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات».
شيء مهم أن يُحمى الإنسان في شرفه وسمعته بمقتضى القانون، لكن ما هو أولى بالعناية والحماية هو وجود هذا الشرف وبقاؤه بقاءً حقيقيًا، وليس مجرد ادعاء الشرف واللجوء إلى القانون لحماية هذا الادعاء. بل أكثر من هذا: كيف نبقي فكرة الشرف والسمعة موجودة وذاتَ اعتبار لدى الناس؟ وإلا فقد لا نجـد من يعتبـر أن له شرفًا وسمعة، أو أن هناك شيئًا حقيقيًا ومصلحة حقيقية اسمها الشرف والسمعة، خاصة إذا لم يكن يترتب عليهما درهم ولا دينار، ولا سجن ولا تعذيب؟
ولعل أهم شيء يخدم الإنسان وإنسانية الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو هذه الجملة التي جاءت في الفقرة الثانية من المادة (26): «يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً».. ولكن للأسف بقي هذا الإنماء “الكامل” مبهمًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات، بينما لم يكن بيانه وضبطه يتطلب أكثر من كلمتين أو ثلاث، لو أضيفت لكانت هذه الجملة -على ضآلتها- إضافة نوعية إلى ثقافة حقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان.
غير أن المشكل الأكبر والأخطر لا يكمن في الأدبيات والمواثيق الحقوقية الكلاسيكية، وإنما يكمن – كما أشرت من قبل- في الممارسات والتطورات الجارية اليوم باسم حقوق الإنسان، وإن كانت تعتبر امتدادًا طبيعيًا لتلك.
فباسم حقوق الإنسان تصدر النداءات والتوصيات للاعتراف بحق الشذوذ الجنسي وحمايته، وبحق الزواج المثلي، وبشرعية الأسرة الناشئة عنه، وبالحق في إجهاض الأجنة ولو كانت في شهرها التاسع وبدون أي ضرورة، وبالحق في تغيير الجنس من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر.
ومنذ بضعة شهور نسمع عن الحملة وعن الضغوط الموجهة ضد مصر، لما يجري فيها من محاكمة لبعض الأفراد من طائفة الشواذ المثليين، حتى إن ستين منظمة للشواذ عبر العالم وجهت نداءً تضامنيًا معهم تحت شعار: «يا شواذ العالم اتحدوا»، وقامت مجموعة من أعضاء الكونجرس الأمريكي بتوجيه رسالة احتجاجية وتحذيرية للرئيس المصري يلوحون فيها بالسعي إلى قطع المعونات الأمريكية لمصر .. وكل هذا يتم باسم حقوق الإنسان.
وباسم حقوق الإنسان يدافعون عما يسمونه حرية العقيدة، أيّ عقيدة، ولو تجسدت في حركة عبادة الشيطان أو في السحر والشعوذة والوصول إلى الانتحار الجماعي.
وباسم حقوق الإنسان يضغطون من أجل تعليم الطفل الثقافة الجنسية والحق في الممارسة الجنسية. وقد يصلون إلى أن يجعلوا الثقافة الجنسية مادة دراسية إلزامية ثم يسعون بعد ذلك لكي تكون لهذه المادة حصصها التطبيقية حتى لا تبقى مادة نظرية جافة أو غير مفهومة.
وباسم حقوق الإنسان يجري هدم العلاقة الإنسانية الطبيعية والفطرية بين الرجل والمرأة، لتحويلها إلى علاقة تنافس وصراع وخصام، بعد أن كانت على مر العصور وعند جميع الأمم والشعوب علاقةَ حب وتعلق وتكامل ووئام.
وباسم حقوق الإنسان يحاولون إلغاء ما بين الرجل والمرأة من اختلافات وتمايزات فطرية، ليفرضوا عليهما المساواة التطابقية القسرية.
وباسم هذه المساواة، تحولت المرأة إلى مجال للامتهان والابتذال، تساق إليه بوتيرة وكيفية مذهلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسان.. فالمرأة أصبحت سلعة.. والمرأة مسخرة لترويج البضائع والإعلان عنها.. والمرأة للمتعة الحرام، وللمنافسة بين القنوات التلفزيونية وجلب المشاهدين لها.. والمرأة لعرض الأزياء، أو لعرض الأشلاء باسم الأزياء…!
حينما يجرد الإنسان من بعده الروحي، ويختصر في بعده الطيني، وحينما تنبني حقوق الإنسان على هذا الأساس وتوجه في هذا الاتجاه، فإننا نجد حينئذ حقوق الإنسان عبارة عن نسخة مطورة ومزيدة ومنقحة عن حقوق الحيوان.
إن الحرية الجسدية، والحاجات الجسدية، والرعاية الصحية، والرفاهية المعيشية، ومنع الاعتقال والتجويع والتعذيب، وضمان قسط مناسب من الراحة، والاشتغال في حدود الطاقة، وحماية الضعيف من القوي، والانتصاف له ممن ظلمه، هذه ونحوها من أمثالها ومما يتفرع عنها، كلها حقوق لا غبار عليها وعلى ضرورتها، ولكن العكوف عليها والانحصار في دائرتها يجعلها لا تختلف كثيرًا وجوهريًا عن حقوق الحيوان كما تضمنها الإسلام في نصوصه وقواعده، وهي الحقوق التي يلخصها الإمام عز الدين بن عبد السلام في هذين النصين اللذين أوردهما لكل من أراد أن يدرس ويقارن.
قال رحمه الله: «القسم الثالث حقوق البهائم والحيوان على الإنسان: وذلك أن ينفق عليها نفقة مثلها، ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وأن لا يحمِّلها ما لا تطيق، ولا يجمع بينها وبين من يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها بكسر أو نطح أو حرج، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها، ولا يمزق جلدها ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها، وأن لا يذبـح أولادها بمرأى منها، وأن يفـردها ويحسن مَباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها وإناثها في إبان إتيانها (حق ممارسة الجنس والتناسل) وأن لا يخذف صيدها ولا يرميه بما يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه» .
وقال في نص آخر : «فصْلٌ في الإحسان إلى الدواب المملوكة: وذلك بالقيام بعلفها أو رعيها بقدر ما تحتاج إليه، وبالرفق في تحميلها ومسيرها، فلا يكلفها من ذلك ما لا تقدر عليه، وبأن لا يحلب من ألبانها إلا ما فضل عن أولادها، وأن يهنأ جرباها ويداوي مرضاها، وإن رأى من حمَّل الدابة أكثر مما تطيق فليأمره بالتخفيف عنها، فإن أبى فليطرحه بيده، فـمن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وقال : «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض ( أي دعوها تأكل من نبات الأرض)، وإذا سافرتم في السنة (أي الجدب) فبادروا بها نقيها (عجلوا السير والرجوع بها لتأكل وتشرب). وقد غُفر لبغيٍّ بسقي كلب» .
تزكية الإنسان ثانيًا
إذا كانت إنسانية الإنسان، بما تعنيه من خصائص وامتيازات فطرية لهذا الكائن، هي أول ما يجب أن نحافظ عليه ونصونه، وننطلق منه في كل ما يتعلق بالإنسان، فإن تزكية الإنسان يجب أن تكون الهدف الثاني والمحدد الثاني لحركة حقوق الإنسان، ولكل نشاط يستهدف الإنسان.
فالتزكية هي المقصد الأسمى الذي يريده الله لعباده في هذه الدنيا، وهي جماع ما بعث الله لأجله رسله، وخلاصة ما ضمنه شرائعه.
والتزكية -كما هو متفق عليه عند اللغويين والمفسرين- تتضمن معنيين، أو هي تزكية ذات وجهين هما: التطهير والتنمية.
فالتزكية في الأمور المعنوية هي التطهير من العيوب والأدران والآفات (أي من الصفات السلبية)، وتنمية المحاسن والفضائل وعناصر الخير (أي: الصفات الإيجابية).
قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: «التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء؛ وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمـالات وطهارات، تعترضها أرجاس ناشـئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الـخير المودع فيها، قال تعالـى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَـٰهُ أَسْفَلَ سَـٰفِلِينَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) (التيـن:4-6).. وفي الحديث: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، ففي الإرشاد إلى الإصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة» .
ويقول الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه: «فزكاة النفس تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات، فالتزكية في النهاية تطهر وتحقق وتخلق» .
وإذا كان الدين قد اعتنى عناية تامة بالأبدان وصحتها وطهارتها وتغذيتها وتزكيتها، فلا شك أن عنايته العظمى هي تلك الموجهة إلى تزكية النفوس وإصلاحها لأنها عنصر تفرد الإنسان ومجال ارتقائه، كما قال الشاعر:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
ولقد نص القرآن الكريم في كثير من آياته على كون تزكية الإنسان وترقيته هي مقصود بعث الرسل عمومًا، وخاتمهم رسول الإسلام خصوصًا، قال تعالى: ((هو ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ)) (الجمعة:2).
فالآية الكريمة ناطقة صريحة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الناس لتزكيتهم، وإذا كانت تلاوة آيات الكتاب وتعليم معانيه وأحكامه وحكمته هي نفسها وسائل ومعابر للتزكية، فالنتيجة أن التزكية هي المعنى الغائي والهدف النهائي للرسل والرسالات في هذه الحياة الدنيا.
ومما يلفت الانتباه والتأمل في هذا الموضوع كون المعنى المنصوص عليه في هذه الآية قد تكرر في القرآن الكريم ثلاث مرات أخرى:
- ففي سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ((رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـٰتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ)) (البقرة:129).
- وفيها أيضًا: ((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:151).
- وفي سورة آل عمران: ((لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ)) (آل عمران:164).
ولقد جاءت في القرآن الكريم نصوص أخرى تنبه على أن تزكية الإنسان يجب أن تكون هي الغـاية القصوى والمقصد لكل نشاط إنساني، والمعيار الذي يحدد نجاحه وفلاحه، كقوله عز وجل: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا)) (الشمس:7-10)، وقوله تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ)) (الأعلى:14).
وإذا كانت الصفات الخيرة الحسنة هي الأكثر تأصلاً وعمقًا في كيان الإنسان، فإن اتصاف هذا الإنسان منذ البداية ببعض النقائص، مع قابليته لاكتساب صفات سيئة وشريرة، وقابلية النقائص الأصلية للنمو والتضخم، هي كذلك أمور ملموسة ومعيشـة، بل ومصرح بها في نصوص الوحي، فالآية السابقة: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) تفيد القابلية للاتصاف بالصفات الصالحة وتنميتها (التقوى) وبالصفات الفاسدة وتنميتها (الفجور).
وفي عالم النفوس -كما في عالم الأجسام- فإن الله تعالى الذي خلق الداء خلق له ومعه الدواء، فلكل داءٍ دواء، ولكل عيب شفاء، قال تعالى: ((إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ٱلْمُصَلّينَ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ وَٱلَّذِينَ فِي أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ وَٱلَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدّينِ وَٱلَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ )) (المعارج:19-28).
والإنسان قابل، بل ميال، للبغي والطغيان، وشفاء ذلك في أن يعرف ربه ويعرف أنه راجع إليه وواقف للحساب بين يديه: ((إِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّءاهُ ٱسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلرُّجْعَىٰ)) (العلق:6-8)، وقـوله سبحانه وتعالى: ((فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِي ٱلْمَأْوَىٰ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ فإن الجنة هي المأوى)) (النازعات:37-40).
ومعلوم في جميع الديانات أن أهم وأبلغ تزكية يحصل عليها الإنسان ويرتقي فيها – بعد الإيمان بالله تعالى- هي ما شرعه سبحانه من عبادات وقربات، كالذكر والتفكر والصلاة والصوم والحج والزكاة وسائر النفقات.
وإن من أخص خصائص الإنسان أنه كائن متدين أو كائن متعبد، عن طواعية واختيار. فالملائكة تعبد الله بصورة جِبِليَّة خالصة، ليس لها فيها اختيار أو رفض، أو تأخير أو تقصير، وبقية الكائنات تخضع لسنن الله تعالى ونواميسه، في حركاتها وسكناتها، وحياتها وموتها، ونموها وتكاثرها، وغير ذلك من شؤونها. والإنسان يشترك معها في هذا الخضوع التلقائي، أو في هذه العبودية الاضطرارية، ولكنه يتميز بعبودية أخرى يتجاوب معها أو يتنكر لها بإرادته واختياره، وهي عبودية التعبد أو عبودية التدين. فبها يتميز، وبها يتزكى، وبها يحافظ على سموه وسر تفوقه على سائر المخلوقات. ولذلك كانت هذه الخاصية مقصدًا عامًا وأساسيًا من مقاصد الشريعة. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا» .
وإذا كانت شرائع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم قد جاءت بحفظ كافة حقوق الإنسان، وعلى يد الأنبياء عرف الناس فكرة الحقوق والواجبات، ومن شرائعهم ومبادئهم وقيمهم التي زرعوها في تاريخ البشرية وثقافاتها، استمدت حركة حقوق الإنسان وجودها ومشروعيتها وأهم مبادئها، فإن هذه الشرائع والرسالات المنـزلة كانت كلها تبتدئ بقضية عبادة الله، باعتبارها الضامن والداعم لأخص خصائص الإنسان التي عليها تنبني مشروعية حقوق الإنسان، فضلاً عن كونها مجالاً للتسامي والترقي لا يشبهه شيء ولا يدانيه شيء. وهكذا ما من نبي بعثه الله إلا قال لقومه: ((يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ)) . فلذلك صار تدين الإنسان وتعبده لربه الصفة المميزة للإنسان وسلوكه «مما يجوز معه أن نعرِّف الإنسان بأنه الكائن الحي المتدين. فالهوية الإنسانية تكون في حقيقتها هوية دينية»، كما يقول الدكتور طه عبد الرحمن .
والعبادة كما هو معلوم تشمل الإنسان في روحه وعقله ونفسه وعاطفته وبدنه وحواسه وماله ووقته وفكره وعلمه. ومعنى هذا أن العبادة تزكي الإنسان بكل جوانبه وأبعاده. غير أن تزكية النفوس خاصة تبقى ذات أولوية واضحة في التعاليم والتكاليف الدينية، إذ النفس هي مجمع الآفات والنـزعات والشهوات: ((إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى)) (يوسف:53).
ومن أمثلة الآفات النفسية التي وُجهت العبادات لمعالجتها وتزكية الإنسان منها: آفة شدة التعلق بالمال، والحرص عليه، والشح به. فبسبب ذلك يتعادى الناس ويتخاصمون، ويتصارعون، ويقتتلون، وبسبب ذلك يفرط الإنسان في كثير من قيمه ومبادئه، وتتضخم أنانيته وذاتيته، ويفقد توازنه وطمأنينته، فلذلك جاءت تعاليم الإسلام وتكاليفه غنية بالتوجهات والتدابير الخاصة بمعالجة هذه الآفة. والنصوص المتعلقة بهذا الموضوع كثيرة متنوعة، وخاصة تلك المتعلقة بالتوجيهات القيمية النظرية، وأقتصر على بعض النصوص الإجرائية العملية الموجهة بشكل صريح إلى تزكية الإنسان من هذه الناحية.
فمن المعلوم أن من أركان الإسلام الخمسة فريضةَ الزكاة، ودور هذه الفريضة في تزكية الإنسان وترقيته واضح معلن من الاسم نفسه (الزكاة)، فهي زكاة للنفس الإنسانية أولاً وأساسًا. والآية الكريمة التي أمرت بأخذ الزكاة من ذوي الأموال عللت ذلك بهذه العلة دون غيرها من علل الزكاة ومقاصدها الأخرى، قال تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103).
ولم يقل خذ من أموالهم صدقة تطهر أموالهم وتزكيها لهم، بل تطهرهم وتزكيهم هم أنفسهم. فالذي يزكي ماله، يزكي في الحقيقة نفسه ويطهرها، قال العلامة الكاساني في بدائعه: «الزكاة تطهر نفس المؤدي، وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن، إذ الأنفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة وترتاض لأداء الأمانة وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كلَّه قولُه تعالـى: ((خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا)) (التوبة:103). وإن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكرُ النعمة فرضٌ عقلاً وشرعًا، وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة» .
ووظيفة التزكية ليست خاصة بالزكاة، بل هي منصوص عليها وعلى طلبها في كافة أوجه الإنفاق الشرعي، قال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَٱلاْولَىٰ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ لاَ يَصْلَـٰهَا إِلاَّ ٱلاْشْقَى ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلاْتْقَى ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ)) (الليل:5-18)، وقال سبحانه: ((لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)) (آل عمران:92).
وليست العبادات وحدها هي مجـال التزكية والترقية للإنسان وللنفس الإنسانية، بل إن كل ما في الإسلام موجه لتحقيق هذا الهدف وهذا المقصد. ومن ذلك مجال المعاملات والعلاقات الاجتماعية. ومن يلقي نظرة ولو سريعة على كتب السنة النبوية فسيجد أبواب الأخلاق والآداب والفضائل والعـلاقات الإنسانية، غزيرة شاملة تتناول كل جوانب النفس البشرية وكل ما تحتاجه من فضائل ومكارم وما يعرض لها من آفات ورذائل.
وقد يبدو لبعض الناس أن ما عرفته البشرية اليوم من ارتقاء قانوني ومن تقدم حقوقي، وما وصلت إليه في كثير من الأقطار من تحقيق سيادة القانون وإقامة دولة الحق والقانون، يغني عن التعاليم الدينية ويحقق مقصودها بشكل أكثر نجاعة وفاعلية.
ولا شك عندي أن نوعًا من الترقي القانوني الحقوقي قد تحقق، وأنه جدير بالتقدير والاعتبار، ولكن الارتقاء القانوني والضبط التشريعي لبعض المبادئ والحقوق، لا يمثل إلا تقدمًا ظاهريًا إلزاميًا، يظل محكومًا بموازين القوة وحضور الرقابة والردع، دون أن يحدث تزكية أو أثرًا حقيقيًا في النفس وفي الضمير. وما أكثر ما نرى دعاة حقوق الإنسان، وحماة حقوق الإنسان، ودركيي حقوق الإنسان، يتنكرون لمبادئهم وشعاراتهم ويَقْلبون لها ظهر المجن، ويكشفون عن زيفهم وسطحية ثقافتهم الحقوقية، ويتحـولون إلى وحوش ومناصرين للوحشية الـتي لا تعرف للإنسان حقًا ولا كرامة، ولا ترقب فيه إلاًّ ولا ذمـة. فلذلك لا بد من التزكية الحقيقية الذاتية، ثم بعد ذلك، أو بجانب ذلك، تأتي المواثيق والحـوافز القانونية والتدابيـر الإلزامية دعمًا للتزكية، أو حيث لم تنفع التزكية، وحيث لم تكن كافية، حسب الحالات.
وفي ظل تدهور إنسانية الإنسان، وفي غيـبة تزكية الإنسـان، ها نحن نرى الجهود الضخمة الهائلة والمتواصلة التي بذلت لأجل حقوق الإنسان، وتكاثرت وتراكمت لأجلها قناطير مقنطرة من البيانات والإعلانات والمواثيق والاتفاقات والدساتير والقوانين، تداس كلما احتيج لذلك، أو تعاد صياغتها أو تفسيرها كلما احتيج لذلك.
لقد كانت فكرة العدالة والحق في العدالة أسمى وأكثر ما شغل حركة حقوق الإنسان، وقد احتل هذا الحق حيزًا كبيرًا في الأدبيات والمواثيق والقوانين الحقوقية، ومع ذلك كله ما زال حق العدالة وقوانين العدالة ملكًا لذوي القوة والنفوذ والغلبة، يطبقونه متى شاءوا، ويعطلونه متى شاءوا، ويفسرونه ويكيفونه كيف شاءوا.
ولعل أهم تطور حصل في هذه المسألة هو أن الظلم أصبح اليوم قانونيًا مؤسسيًا أكثر من ذي قبل.. قديمًا كان الظلم يقع بمقتضى الغلبة والبطش الصريح، بدون قانون وبدون مؤسسات، بل بسبب غيبة القانون وغيبة المؤسسات، أما الظلم اليوم فيتم باسم العدالة وبواسطة مؤسسات العدالة ومن خلال القوانين المستصدرة لأجل العدالة!
أي ظلم أفدح وأعظم من كون خمس دول (هي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن) قد أعطت لنفسها حق التحكم في البشرية كلها، تتحكم في السلم والحرب والسياسة والاقتصاد، وتعاقب وتكافئ، وتعطي الشرعية لمن تشاء وتنـزعها عمن تشاء.. وفق معايير ومصالح واعتبارات هي تضعها، وهي تفسرها، وهي تغيرها! أين حق العدالة؟ ليس للأفراد فقط، بل للشعوب والدول!! أين المساواة.؟
حينما نقرأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجده يطالعنا في الفقرة الأولى من ديباجته بكون «الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية، هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم».
ثم نجد في مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق».. فهل توجد في عالم اليوم مساواة في الكرامة والحقوق لعموم البشر؟ هل يقيمون الأقوياء اعتبارًا للمواد القانونية المذكورة؟
القارة الإفريقية بكاملها ليس لها عضوية دائمة بمجلس الأمن، وكذلك قارة أمريكا اللاتينية، لأنهما قارتان فقيرتان. والعالم الإسلامي الذي تمثل دوله ثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ليس له بمجموعه عضوية دائمة في مجلس الأمن؟
وهكذا، فالفقراء في العالم، والمسلمون في العالم (وهذه هي الأغلبية العظمى فيه) ليس لهم حق في المساواة، وليس لهم حق التقرير، ولا حق التأثير في شؤون هذا العالم ولا في شؤونهم هم أنفسهم.. فكيف يمكن التحدث عن الديمقراطية وعن الحقوق المتساوية التي هي أساس العدالة، والعدالة هي المتطلب المركزي لحركة حقوق الإنسان؟!
قد يقال: إن المقصود بالعدالة وبالحقوق المتساوية حقوق الأفراد، مع بعضهم ومع حكوماتهم ومحاكمهم! وأقول: وهذه أدهى وأمر، كيف يتم التركيز على حقوق الأفراد – على علاتها وآفاتها ونقائصها- ويتم إسقاط حقوق الأمم والشعوب؟ وإسقاط حق شعب واحد يعني إسقاط حقوق عشرات الملايين، فكيف بشعوب ودول تعد بالعشرات؟
على أن الأمر لا يتعلق فحسب بحق المساواة، الذي هو أبسط مظاهر العدالة، بل إن عدم المساواة في هذه الحالة يعني ما لا يحصى من التوابع والتداعيات، ومن المظالم والاختلالات، يكون ضحيتها مئات ملايين البشر، في حقوقهم المادية والمعنوية، بما في ذلك حقهم في الحياة.
إن الحركة الحقوقية بحاجة ماسة إلى أن تكون حركة أخلاقية، وليس مجرد حركة قانونية ثقافية وفكرية. فبدون أخلاق وبدون تخليق، ستظل حركة حقوق الإنسان دائرة حول المظاهر دون أن تصل إلى المخابر، وستظل تشتغل بالوسائل من غير تقدم في تحقيق المقاصد. وأكثر من ذلك كله، ستظل عرضة للتكييف والتوجيه والتعطيل، بحسب ما يريده أصحاب الغلبة والنفوذ وذوو النـزوات والشهوات.
وكما يقول د. طه عبد الرحمن: «فإن ضرورة الخُلق للإنسان كضرورة الخَلق سواء بسواء، فلا إنسانية بدون أخلاقية» .. ولذلك كان جوهر رسالة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، هو غرس الأخلاق، وتنمية الأخلاق، وصيانة الأخلاق، كما قال خاتمهم ومتمم مقاصدهم، نبي الإسلام غليه الصلاة والسلام: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .