الثورات ونظرية المؤامرة الخارجية
الثورات ونظرية المؤامرة الخارجية
نجد من حين لآخر من يرددون أن هذه الثورات والاضطرابات قد تم تحضيرها وتحريكها وتمويلها من قِـبَل الدول الغربية، وبعضهم يضيف إسرائيل، وذلك بغرض بث الفتن والصراعات الداخلية في الدول العربية …
وهذه النظرية في أحسن أحوالها هي عبارة عن دعوى وتخمين، فتحتاج إلى إثبات، ونحن في انتظار ذلك الإثبات.
وأما في أسوأ أحوالها فهي على أحد أمرين، وقد يكون فيها الأمران معا:
الأمر الأول: هو أنها مجرد ترويج مُتَعَمد من بعض الجهات، يراد به تشويه هذه الثورات والتشكيك فيها وتنفير الناس عنها. والهدف النهائي من هذا الترويج هو إفشال هذه الثورات، والحيلولة دون امتدادها أو امتداد إشعاعها.
الأمر الثاني: هو الاعتقاد المترسخ في بعض العقول بأن الغرب على كل شيئ قدير، وأنه فعال لما يريد. وبناء عليه، فإن أحداثا من هذا النوع ومن هذا الحجم، لا يمكن أن تقع إلا بتدبيره ومن تحت يده، إذاً فالغرب من ورائها.
ومما قد يُلهِم مثلَ هذا التفكير ويغذيه، ما نراه ونسمعه من مواقف غربية تدعو إلى تنحي هذا الرئيس أو ذاك، أو تدين قمع المتظاهرين هنا أو هناك، أو تدعو إلى نقل سلمي للسلطة في سوريا أو في اليمن… وقد وصل الأمر إلى حد تقديم دعم سياسي وعسكري علني وفعال للثورة في ليبيا، وإلى دعم كلامي متكرر للثورة في سوريا. فهذا يُفهم منه ببادي الرأي أن الغرب هو المحرك لهذه الثورات وصاحب المصلحة فيها.
وقبل مناقشة هذه النظرية، لا بد من تسجيل أمر لا أظنه يختلف فيه اثنان، وهو أن الغرب – بقدراته الكبيرة ونفوذه الواسع – يسعى دائما إلى التدخل والتأثير في شؤون الدول ومجريات الأحداث، وتوجيهها بما يخدم مصالحه واستراتيجياته عبر العالم، وأن له في ذلك باعا طويلا. وهذا يعني أنه من غير المتصور ألا يحسب الغرب حساب هذه التحولات الجارية في العالم العربي، وألا يحاول التأثير في مجراها والاستفادةَ منها وتوجيهَها لصالحه، ما وجد إلى ذلك سبيلا. ولكن هذا شيء، والدعوى السابقة شيء آخر…
ولمناقشة نظرية المؤامرة والأيادي الأجنبية فيما جرى ويجري من ثورات شعبية، في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، أقول:
- من المعلوم بالضرورة عند الشعوب العربية والإسلامية، أن الغرب هو الذي أقام أو أيد معظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، وأن دأبه المعروف هو دعم الأنظمة الموالية له الراعية لمصالحه، المندرجةِ في سياساته ومواقفه، مهما كان فسادها واستبدادها وضررها على شعوبها.
- عندما بدأت الأرض تهتز – أولَ ما اهتزت – تحت أقدام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بادرت الدول الأوروبية كعادتها – وخاصة فرنسا – إلى دعمه ومحاولة إنقاذه وتثبيت حكمه، حتى عرضت عليه خدمات أمنية مباشرة، لإخماد المظاهرات والاضطرابات… ولم تتغير مواقفُها إلا بعد أن أيقنت أن سفينته قد أدركها الغرق. وهكذا فعلت أمريكا وغيرها من الدول الغربية مع صديقهم الكبير الرئيس المصري حسني مبارك.
- ومع انطلاق الأحداث في ليبيا وسوريا واليمن، كان الغرب قد بدأ يسلم بحتمية التغيرات التي بدأت رياحها تهب على المنطقة، وبضرورة التعامل معها بكيفية جديدة، فيها نصيب من التفهم والمسايرة والبراكماتية الانتهازية. وقد كان حماسه زائدا في الحالة الليبية لوجود أسباب إضافية في هذه الحالة، وهي:
- الثارات التي له مع القذافي.
- كون ليبيا بلدا نفطيا لا بد من كسبه وتوطيد الروابط معه، بما يتضمنه ذلك من الحصول على الأسبقية التفضيلية في مشاريع إعادة الإعمار.
- وجود أرصدة مالية ليبية ضخمة، مودعة أو مهربة لدى البنوك الغربية، ستكون كافية لتعويضه عن كل ما يمكن أن ينفقه في دعمه العسكري للثورة الليبية.
- أمام مقولة المؤامرة الغربية لا بد أن نتساءل: هل يعقل أن الغرب قد استطاع أن يحرك هذه الملايين الثائرة الهادرة، ويجعلها تقدم على التضحيات الجسيمة وتبذل الأرواح الغالية، مع ما نعلمه من كراهيةٍ وحساسية وريبة لدى الشعوب العربية، تجاه الغرب وما يأتي من جهته، وخاصة عند الشباب الذي شكل طليعة الحراك الثوري ووقوده؟ وهل كان الشباب والأطفال البسطاء الذين أشعلوا الثورة في سيدي بوزيد ودرعا وبنغازي وصنعاء وتعز مجرد أزرار بيد الجهات الغربية المختصة؟ وهل الألوف من المعارضين المضطهدين لعشرات السنين في كل دول الربيع العربي، الذين انخرطوا في هذه الثورات، وأبلوا فيها البلاء الحسن، هل كانوا مجردَ عملاء، أو مجرد مسخرين أغبياء، ينفذون ما يسمى بالأجندات الخارجية، كما يقول الرؤساء؟!
- القول بفرضية الأيادي الخارجية والمؤامرة الأجنبية المحركة للثورات في عدد من الدول العربية، يترتب عليه الاستنتاجُ والقول بأن هذه الأيادي وهذه المؤامرات هي التي سعت وأوصلت حركة النهضة إلى الحكم في تونس، وكذلك أوصلت جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين إلى ما حققوه في مصر، وحزبَ العدالة والتنمية بالمغرب، وبأنها هي التي أوصلتنا إلى ما تحقق من مكاسب تاريخية؛ مثلِ الإفراج عن الشعوب وتحريرها، والإفراج عن آلاف السجناء السياسيين، وعن مئات الأحزاب والمنظمات والحركات والجمعيات، التي كانت أيضا معتقلة ممنوعة من حق الظهور والعمل!!
فإذا صح هذا كله صحت النظرية الفرضية، وحينئنذ لا يسعنا إلا أن نرحب ونستبشر بهذا النمط الجديد من المؤامرات والأجندات الخارجية. وإذا لم يصح هذا، فقد بطلت النظرية، وهو الصواب.
وهكذا لا يبقى لهذه النظرية من دليل سوى أن يقال: دل عليها الإجماع؛ أي إجماع الرؤساء المخلوعين والمرفوضين؛ نعم هؤلاء قد أجمعوا كلهم على القول بأن ما وقع ويقع ما هو إلا مؤامرة خارجية وأجندة أجنبية!! ومعلوم أن إجماع الرؤساء حجة في شريعة الاستبداد.