حرية الرأي والتعبير في الإسلام المجالات والضوابط
حرية الرأي والتعبير في الإسلام المجالات والضوابط
كما هو معلوم، فإن التشريعات والأحكام الإسلامية كافة ترتبط بالأصول العقدية والتصوّرات الأساسية للإسلام، وهذا شأن مسألة حرية الرأي والتعبير، فهي تندرج وتمارس ضمن أولويات الشريعة ومقاصدها وفي إطار من الشعور بالأمانة والمسؤولية والمحاسبة الذاتية، مع مراقبة الله عزّ وجل. كما أنها تأتي امتداداً وتطبيقاً للشعور العام بالحرية والعزة والكرامة، فليست “حرية التعبير” في الإسلام مجرّد حكم عليها بالإباحة أو الندب أو الوجوب، بل هي قبل ذلك استشعار وتشبّع بحرية النفس وحرية العقل وحرية القلب وحرية الضمير. يقول العلامة علال الفاسي – رحمه الله: “هذه الحرية الإسلامية هي التي جعلت العبيد من أمثال بلال الحبشي وصهيب الرومي وابن أم مكتوم الأعمى أحراراً في الوقت الذي كانت أجسامهم لا تزال تحت سيطرة السادة يعبثون بها ويعذبونها كيف ما شاءت أهواؤهم وعنجهيتهم الجاهلية.. فالحرية الذاتية هي الأساس الأول للحرية التي نادى بها الإسلام وأقرّها. والحرّية في الإسلام تنظر إلى المعنى الأصيل في اللغة العربية للحرية، فالحرّ ضد الزائف، فهناك جوهرة حرة وهناك حجارة تعطي شكل الجوهرة”[1].
وقد اعتبر – رحمه الله- أن تحقيق الحرية بهذا المعنى العميق والأصيل هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رِسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قيِّمَةٌ﴾ [البينة:1-3]. يقول منبهاً على دلالة قوله: ﴿مُنفَكِّينَ﴾: “والعجب أن المفسرين قاطبة لم يدركوا قيمة هذه الآية؛ لأنهم لم يهتدوا إلى المراد بالانفكاك فيها، مع أن أقرب دلالاته اللغوية هي التحرير. فلم يكن الكفار منفكين أي متحرّرين من عبادتهم لغير الله إلا بعد أن جاءتهم الحجة القاطعة التي ليست غير رسول يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيّمة تخاطب العقل وتدعو إلى التفكير وتنادي بالحرية”[2].
أولاً: الحرية حين تكون فريضة وعبادة
لفظ الحرية حين نطلقه أو نسمعه، بحيث يقال: “حرية فعل كذا، والإنسان حرّ في أن يفعل كذا أو يقول كذا”، فإن الذي يفهم من هذا اللفظ هو الجواز وعدم المنع. وهذه درجة دنيا من درجات حرية التعبير لم يقتصر عليها الإسلام ولم يقف عندها، وإنما جعل التعبير والقول في مواطن عديدة جهاداً وعبادة.
فمن ذلك القولُ والتعبير الذي يراد به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو ليس من قبيل حرية التعبير بمعناها المذكور آنفاً، بل هو واجب، قد يكون واجباً كفائياً وقد يكون واجباً عينياً. والنصوص القرآنية والحديثية في هذا المعنى تبلغ من الغزارة والشهرة ما يجعلها من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة، وما يجعلني أحيل كل قارئ وسامع إلى ما يحضره منها من غير أن أحتاج إلى التطويل بسردها وأكتفي بنموذج واحد منها، وهو قوله صلّى اللهُ عليه وسلّم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن (وهذا هو محل الشاهد)، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
وهذا الحديث أورده الإمام مسلم – ضمن أحاديث أخرى- في كتاب الإيمان من صحيحه ووضعه شارحه الإمام النووي تحت عنوان: “باب كون النهي عن المنكر من الإيمان”[3]. ممّا يعني أن تغيير المنكر – بالقول وبغيره – يمثّل جزءاً من عقيدة المسلم وعنصراً من عناصر إيمانه.
كما أن النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم اختصر الدين كلّه، فجعله مجموعاً في النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم[4]. كما ورد أن بعض الصحابة بايعوا النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم على الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم[5].
ومعنى هذا أن النصح للمسلمين كافة -وهو ضرب من ضروب التعبير ومجال من مجالاته- فريضة يبايَع عليها مثل الإسلام والصلاة والزكاة.
وفي بعض المواطن يكون التعبير وقول الحق جهاداً من أفضل أنواع الجهاد كما في قول النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[6]، وكما في قوله: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». وفي بعض هذه المواطن يعدّ الساكت عن الحق شيطاناً أخرس، وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنّاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ. إِلاَّ الَّذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 159-160]. فنحن حين ننظر في هذه الأصناف من التعبير والبيان نجد أنفسنا في الحقيقة أمام “فريضة التعبير”، لا أمام مجرد “حرية التعبير”.
ثانياً: الرسول يدرّب الصحابة على حرية الرأي والتعبير
الرسول صلّى اللهُ عليه وسلّم – شأنه في كل أحكام الشريعة- لم يكن يكتفي بالتبليغ والبيان والإفهام، بل كان يطبّق ويسهر على تدريب الناس على التطبيق والممارسة تحت عينه ورعايته.
ولذلك فهو لم يكتف بإشعار الناس بحقّهم في التعبير عن آرائهم والدفاع عن وجهات نظرهم، وحقّهم في إعلان الرأي المخالف، بل كان يمارس بهم ومعهم ذلك بصورة عملية وبوتيرة يومية، حتى لو تعلّق الأمر بما يصدر عنه هو نفسه صلّى اللهُ عليه وسلّم من آراء واجتهادات وتدابير وتصرفات، ممّا ليس وحياً.
فمن أمثلة ذلك ما روي عن عمر رَضِيَ الله عنهُ أنه قال: والله إنّا كنّا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهنّ ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: ما لك ولم هاهنا؟ فيما تكلّفك في أمر أريده؟ فقالت: عجباً لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجَع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم حتى يظل يومه غضباناً، فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بنيّة، إنك لتراجعين رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم حتى يظلّ يومه غضباناً؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه. فقلت: تعلمين أنّي أحذّرك عقوبة الله وغضب رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم… قال: ثم خرجتُ حتّى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها فقالت أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتّى تبغي أن تدخل بين رسول صلّى اللهُ عليه وسلّم وأزواجه! فأخَذَتْني، والله، أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجد. وفي رواية لمسلم قال عمر: فدخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا بنت أبي بكر، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم فقالت: ما لي ولك يا ابن الخطاب، عليك بعيبتك[7].
وهكذا جعل رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم من زوجاته نموذجاً في حرية الرأي والتعبير يقلن ما بدا لهن ولو كان فيه مراجعة للنبي صلّى اللهُ عليه وسلّم في أقواله وأفعاله. هذه زوجه عائشة رَضِيَ الله عنهاُ – في واقعة أخرى – تروي وتقول: استأذن رجل على رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وأنا معه في البيت فقال رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم: “بئس ابن العشيرة”، ثم أذن له. قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم معه، فلمّا خرج الرجل قلت: يا رسول الله، قلتَ فيه ما قلت ثم لم تنشب أن ضحكت معه؟ قال رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم: “إن من شر الناس من اتّقاه الناس لشرّه”[8].
ونبقى مع النساء وما كان يتيحه لهنّ النبي الأكرم صلّى اللهُ عليه وسلّم من حرية وفرص للتعبير عن آرائهنّ وما تجيش به نفوسهنّ بلا لوم ولا نهر، بل بترحاب وسعة صدر، فعن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلّمنا ممّا علّمك الله فقال: “اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا”. فاجتمعن فأتاهنّ رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم فعلمهنّ ممّا علّمه الله[9].
وكلّنا يعلم قصة المرأة التي جاءت تشتكي زوجها إلى رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وتجادله فيما قال لها، حتى أنزل الله فيها قرآناً يتلى على العالمين إلى يوم الدين: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة:1]. وقد جاء في قصتها أنها ذهبت إلى رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وبسطت بين يديه نازلتها وما صدر من زوجها في حقّها فقال لها رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم: “ما أراك إلا قد حرمت عليه”، فجادلت رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم مراراً[10]. وهذا هو الشاهد عندي في القصة، وهو أن امرأة تستفتي رسول الله فيفتيها ولكنّها تجادله مرة بعد أخرى طلباً لمخرج يفتح الله به عليها من مصيبتها، وكان لها ما أرادت، كل ذلك في كنف رسول الله وحلمه وسعة صدره صلّى اللهُ عليه وسلّم.
وعن سعد بن أبي وقاص: أن عمر استأذن على رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وعنده نسوة من قريش يكلّمْنَه ويستكثِرْنَه، عالية أصواتهنّ. فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول صلّى اللهُ عليه وسلّم ورسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم يضحك. فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم: “عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي، فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب”. قال عمر: فأنت يا رسول الله أحقّ أن يهبن. ثم قال عمر: أيّ عدوات أنفسهن، أتهبْنَني ولا تهبْنَ رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم! قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظّ من رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم[11].
وفي الحديث ما يذكرنا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]، ممّا يشير إلى أنّ حرية التعبير مع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وبحضرته كانت أحياناً تمضي وتنطلق إلى حدّ تتجاوز معه الأدب اللازم، ممّا استدعى تدخّل الوحي للتنبيه والتوجيه، وفي أسباب نزول هذه الآية مزيد من بيان وتفصيل في هذه المسألة، وكلّها تدل على مدى الحرية التي كان يتمتّع بها صحابة رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم بين يديه وفي التعامل معه.
والأمثلة وفيرة كثيرة، وقد تعمّدت أن أختار منها مواقف نسائية في ممارسة حرية الرأي والتعبير، ومع من؟ مع مقام رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، اخترت النساء لأنهنّ كنّ -وربما ما زلن- فئة مستضعفة قلّما يسمح لهنّ بإبداء الرأي، ولا سيما إذا كان رأياً مخالفاً وفيه استدراك ومراجعة. وهذا الوضع وصفه عمر رضي الله عنه في قوله المذكور آنفاً. كما اخترت مواقفهنّ مع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم بالذات؛ لأنّ في ذلك مرجعيّة تشريعيّة من جهة؛ ولأنّ مقام الرسول صلّى اللهُ عليه وسلّم هو مقام هيبة وتعظيم وتسليم. فإذا سمح بمراجعته ومجادلته، فأنْ يراجَع من هم دونه أولى وأحرى، وهو ما نبّهت عليه زوجة عمر رضي الله عنها وعنه، بقولها: عجباً لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تُراجَع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، حتى يظلّ يومه غضباناً.
وفيما ذكرته من مواقف نسائية في ممارسة حرية الرأي والتعبير كفاية وغنىً عن إيراد مواقف رجالية جرت أيضاً مع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وفي كنفه ورعايته.
وعلى هذا المنوال سارت صحابيات جليلات في مواقفهنّ الجريئة الشجاعة في المراجعة والاستدراك مع غير رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم. فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغَـنا مخرجُ النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم – يقصد الهجرة إلى المدينة- ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة والآخر أبو رهم، في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي. فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس-يعني أهل السفينة- يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس-وهي ممّن قدم معنا- على حفصة زوج النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم زائرة. وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر. فدخل عمر رضي الله عنه على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء: “من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم منكم. فغضبت وقالت: كلا والله – وفي رواية لمسلم: كذبت يا عمر- كنتم مع رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله ورسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم. وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم. فنحن كنّا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلّى اللهُ عليه وسلّم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيع ولا أزيد عليه. فلمّا جاء النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم قالت: يا نبيّ الله، إنّ عمر قال كذا وكذا. قال: “فما قلت له؟” قالت: قلت له: كذا وكذا قال: “ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان”. قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، وما من الدنيا شيء هم به أفرَح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم[12].
ونأخذ مثلاً نسائياً آخر مع عمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر في هيبته وشدّته، وقد تقدّم شيء من هذا، ولكن تربية رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم اجتازت بالمؤمنات كلّ ذلك. نقل ابن كثير في تفسيره أنّ امرأة يُقال لها: خولة بنت ثعلبة لقيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها وأَصْغَى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها، حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبستَ رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال: ويحك أو تدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة. والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضر صلاة فأصلّيها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها”[13].
وحين أقدم الحجّاج طاغية بني أمية على قتل عبد الله بن الزبير وصلبه على الملأ، أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر ليمعن في إذلالها والشماتة بها فأبت أن تأتيه، فأرسل إليها ثانية يهدّد ويقول: لتأتيني أو لأبعثنّ بمن يسحبك بقرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث من يسحبني بقروني… فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف – أي يتبختر، أو يسرع – حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.
بلغني أنك تقول له: يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين. أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه. أما إن رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم حدثنا أنّ في ثقيف كذّاباً ومبيراً، فأمّا الكذّاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه. فقام عنها ولم يراجعها[14].
ثالثاً: حرية الرأي والتعبير في المجال العلمي
هاهنا أيضاً لم يقف الإسلام عند حدّ إعطاء حق الاجتهاد والبحث والتعبير عن ذلك، بل أغرى بذلك إغراء وشجّع عليه تشجيعاً، وحسبنا في ذلك أن نتأمل حديث الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم قال: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”.
والحديث كما هو واضح لم يكتف بإباحة الاجتهاد – وهو اجتهاد في الدين وأحكامه، وفيه من الخطورة والحرج ما لا يُخفَى- ولم يكتف بتقرير الأجر للمجتهد المصيب، بل قرّر الأجر للمجتهد المخطئ أيضاً. وهذا معناه ألاّ يبقى على المجتهد خوف أو حرج حتى وهو معرَّض للخطأ. بل هو في خطئه معذور وعلى اجتهاده مأجور، ويتضاعف الأجر بإدراك الصواب، تشجيعاً على تحريه والحرص عليه؛ ولذلك ظلّ المسلمون منذ عصر الصحابة -بل منذ العصر النبوي- يجتهدون ويختلفون، ويصيبون ويخطئون، ويردّ بعضهم على بعض، ويخطّئ بعضهم بعضاً، ويعذر بعضهم بعضاً، إلا في حالات شاذّة من التعصّب والجمود.
ومن روائع مواقف الاحترام للاختلاف في العلم والرأي، ذلك الموقف الذي اتخذه إمام دار الهجرة مالك بن أنس حين أراد أبو جعفر المنصور أن ينسخ نسخاً من كتابه الموطّأ ليعمّمها على المسلمين في الأقاليم ويلزمها الأخذ بما فيه وعدم مخالفته. فلمّا عرض فكرته هذه على الإمام مالك قال له رحمه الله: يا أمير المؤمنين، لا تفعل فإنّ أصحاب رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم تفرّقوا في البلاد، فأفتى كل في مصره بما رأى، وإنّ الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كلّ قوم بما سبق إليهم وعملوا به، فدع الناس وما هم عليه[15].
ومن مظاهر التوسع في حرية الرأي والتعبير في المجال العلمي، أنّ العلماء قاطبة، والمحدّثين منهم خاصة، قد أقرّوا جواز تجريح الرواة، إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، فقدّموا حُرمة العلم والبحث العلمي على حرمة الرواة، أحياء وأمواتاً، ومنهم أكابر وأفاضل، وأئمّة وصالحون.
رابعاً: الخلفاء الراشدون يرسّخون حرية الرأي والتعبير
سار عهد الخلفاء الراشدون على سنن العهد النبوي وهديه، فكان الخلفاء العظام رضي الله عنهم تجسيداً آخر لحرية القول والتعبير وحرية الاختلاف والمراجعة، ورحى النقد والمعارضة.
ولقد كان من أولى الكلمات التي أعلنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد مبايعته خليفة لرسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم قوله في خطبته الشهيرة: فإنّ أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
وحين ولي عمر الخلافة خطب ذات يوم فقال: “يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأسي كذا” (وميل رأسه)؟ فقام إليه رجل فقال: أجل كنّا نقول بالسيف كذا (وأشار إلى القطع) فقال عمر: إياي تعني؟ فقال الرجل: نعم إيّاك أعني بقولي. فقال عمر رضي الله عنه: رحمك الله، الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججت قوّمني.
ولقد ظلّت سياسات الخلفاء الراشدين واجتهاداتهم وتصرفاتهم موضع نقد ومراجعة، بإقرار من الخلفاء أنفسهم، وبرضاهم وتشجيعهم.
فقد عورض أبو بكر ونوقش في محاربة أهل الردة، وإنفاذ جيش أسامة، وتوزيع المنح وإقطاع الأراضي، فكان يُقنع أو يقتنع، ولكنّه لم يمنع أحداً ولم يلم أحداً على مخالفته ومعارضته، كيف وهو الذي ناشد الناس في أوّل عهده بالخلافة أن يقوّموه إذا أساء.
وعلى هذا المنوال مضى عمر وعهده.
وأما حرية التعبير والمعارضة في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما، فقد بلغت كلّ مبلغ، حتى تجاوزت الحدود وجرت على المسلمين بلايا وكوارث.
فهذه سنة رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم، وهذه سنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، لا تمنع أحداً من رأي، ولا تمنع مخالفاً ولا معارضاً من حقّه، بل من واجبه. ولا تجعل أحداً فوق النقد والمناقشة والاستدراك، وكل ذلك مفتوح مسموح به لعامة المسلمين وخاصتهم، بآدابه وضوابطه.
خامساً: الضوابط الشرعية لحرية التعبير
حرية التعبير كغيرها من الحريات الأخرى، إنّما تحتاج إلى ضوابط وقيود بسبب ما قد تتعرّض له من سوء استعمالها وسوء التصرّف بها. ولذلك تكثر هذه القيود بقدر ما تكثر التجاوزات والإساءات في استعمال الحقوق والحريات. وعندما خلق الله آدم وزوجه أسكنهما الجنة بطولها وعرضها ومُتعها وخيراتها، وأطلق يدهما في ذلك كله، ولم يستثن إلا شجرة واحدة. كانت بمنزلة قطرة من بحر أو حبة رمل في صحراء ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35].
ولكنّه بعد أن عصى وتجاوز، أُخرج من الجنة وأُسكن الأرض، فتعدّدت التكاليف والقيود. ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى. إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِليْهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى. فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَق الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى. قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِينَّكُم مِّنّي هُدىً فَمَنِ اتبعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةْ ضنَكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 117-124].
فهكذا كلّما تقدّمت الحياة وكثرت المخالفات والإساءات، كثرت الضوابط والتشريعات. كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور.
وفي ما يلي أهمّ الضوابط الشرعية الأخلاقية التي نجدها في الشريعة، ومن شأنها ترشيد حرية التعبير ووضعها في مسارها الصحيح البناء، وكبح سوء استعمالها وسوء التصرّف بها.
- ابتغاء الحق والوقوف معه
فليست حرية التعبير في الإسلام فرصة للتصلّب والتغلب، ولا وسيلة لإحراج المخالف وإضعاف موقفه. وليست حرية التعبير في الإسلام مجالاً للتفنّن في السفسطة وقلب الحقائق، ولا ساحة للتباري في الجدال والخطابة. كما ليس في مبادئ الإسلام وأخلاقه، ما يسمح بمعارضة مطلقة أو موافقة مطلقة، كما يجري الآن لدى الحكومات والأحزاب الديمقراطية وشبه الديمقراطية، بحيث يكون كل واحد فيها ملتزماً أو ملزماً بنصرة جهته وفريقه وحزبه، ومناوءة خصومه ومخالفيه بصورة مطلقة وتلقائية، مهما كان رأيه، ومهما تغيّر رأيُه، حتى ولو كان يرى – في قرارة نفسِهِ – الصواب عند خصمه، والخطأ عند جهته. فهذا السلوك الذي أصبح سائداً ومسلّماً به لدى السياسيين اليوم، ليس في الحقيقة ممارسة لحريّة التعبير، بل هو إفساد لحرية التعبير وتلاعب بها، وقد أجاد في توضيح هذه الآفة روبرت هـ. ثاولس في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، ومن أمثلة ذلك قوله: “فإذا خطب خطيب في حزبنا خطاباً فصيحاً متدفّقاً قلنا عنه: إنه خطيب بليغ، أما إذا خطب خطيب في الحزب المناوئ بالطريقة نفسها، فإننا نقول: إنه متفيقه… ونحن نصف اقتراحات حزب المعارضة -وإن كانت عملية- بأنها “شفاء من كل داء، في لغة المشعوذين من الأطباء”. وهي عبارة ممعنة في معناها الانفعالي، وتثير فينا انفعالات استهجان قوية، كتلك التي نشعر بها نحو الأدوية التي يصفها المشعوذون ويفرطون في ادعائهم بفوائدها الطبية، كما أن المتحدّث يصف أولئك الذين يبدون تحمساً في تأييدهم لبعض الاقتراحات التي لا يقرّها بأنهم “متطرفون”، ولو أنّ أناساً من جماعته أبدوا من التحمس والاهتمام ما أبداه الآخرون، لكانوا في رأيه “أشدّاء على الحق…”[16].
وممّا يدخل في هذه الآفة ويتمّمها، التفكير لصالح الفريق، وضدّ الخصم بناء على ما تقرر في الفريق وفي الحزب، حتى ولو كانت قناعة المصوّت على خلاف حزبه وفريقه. فالتصويت هنا هو نوع من التعبير، بل هو نوع من أبلغ أنواع التعبير وأخطرها.
- حفظ حرمة الدين
وهذا هو الضابط الأكبر والأشدّ في موضوعنا. والمراد به المنع والزجر عن المساس والتلاعب بحرمة الدين الحق ومكانته. ذلك أنّ الدين يمثّل أساس كيان الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية. وإذا كانت عامة الدول قديماً وحديثاً تتّخذ أشدّ العقوبات في حقّ من يطعن في أسسها وأركانها وعناصرها الجامعة، كالقومية والوطن ونظام الحكم، فإن من حقّ المسلمين أيضاً أن يجعلوا أشدّ العقوبات والزواجر هي تلك المخصّصة لأساس وجودهم وأساس وحدتهم وأساس استقرارهم، ألا وهو آصرة الدين وحرمته، فالدين بالنسبة إلى الأمة الإسلامية هو وطنها وقوميتها ووحدتها وعزتها، فمن تنكر له وعاداه، بعد أن انتمى إليه واندمج في كيانه، يشبه ذلك الذي يخون وطنه ويتنكر لأمته وشعبه ويطعن في وحدة بلده واستقراره.
ومن جهة أخرى، فإنّ الدخول الحق في الدين لا يكون إلا بيقين واطمئنان، واليقين لا ينقلب ولا ينتقض. فمن دخل الإسلام دخولاً يقينياً صادقاً لا يتصوّر خروجه منه أبداً، بل هو “يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار” كما جاء في الحديث النبوي الشريف[17].
وإنما يتصوّر الخروج من الإسلام، في حقّ من دخلوه دخولاً غير صحيح ولا صادق، أو دخلوه لغايات سيئة وأغراض عدائية، فقد يدخل فيه ويدخل بين أهله بنية التجسس وخدمة الأعداء، وقد يدخل فيه لأجل الطمع وقضاء المآرب الشخصية ليتركه بعد قضائها، وقد يدخل فيه بغية تخذيل المسلمين وإثارة التشويش والبلبلة بتركه والخروج منه.
وكل هذه الأغراض السيئة كانت واردة، وكانت واقعة منذ العصر النبوي. وقد أشار إليها القرآن الكريم وندّد بها في غير ما آية كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾[البقرة:14].
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران:72].
وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيُمْ سَبيلاً﴾[النساء: 137].
ولقطع الطريق وسدّ الذريعة على أشكال الاستخفاف والتلاعب بالدين الذي هو أقدس شيء عند البشرية على مرّ التاريخ، ولصيانة كيان المسلمين أمّة ودولة، ومجتمعاً وأفراداً، من أي غدر أو طعن لأسمى شيء عندهم، كان ذلك التشدّد الزاجر تجاه المرتدّين الطاعنين المخذِّلين. يقول الأستاذ علاّل الفاسي – رحمه الله- : “والمسألة دقيقة، ولكن الذي لا شك فيه أن الذين يقولون بقتل المرتدّ، وهم عامّة الفقهاء غير المعاصرين، إنّما يقصدون بذلك حماية الطائفة الإسلامية لا المساس بحرية الإيمان الذي هو شيء باطني لا يتحكّم فيه أحد”[18].
- حرية التعبير لا حرية التغرير
ممارسة تضليل الناس وتوريطهم فيما يضرهم ليست من حرية التعبير في شيء، بل هي إفساد وتغرير. وعامة الناس فيهم الضعيف والصغير والجاهل والسفيه والمريض ممن لا يستطيعون دائما تمييز الخبيث من الطيب. ولذلك ليس في الإسلام حرية لممارسة أي شكل من أشكال التغرير والتضليل والخداع والإيقاع بالقاصرين والمضطرين، كما ليس في الإسلام حرية لمن يدعو ويروج للرذائل والموبقات. فليس لأحد – بدعوى حرية التعبير- أن يدعو مثلاً إلى الزنا والخمر والمخدِّرات ويتحدّث عما فيهما من “لذات وفوائد”، وليس لأحد أن يدعو ويروّج -تحت لافتة حرية التعبير- للأفكار والتصرّفات الشاذّة المنحرفة. فكل هذا يدخل في حرية التغرير لا في حرية التعبير، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة﴾ [النور: 19].
فإذا كان هذا في حق الذين يحبّون شيوع الفاحشة، فكيف بالذين يشيعونها فعلاً بأقوالهم وأفعالهم ومشاريعهم؟
ويدخل هنا الإشهارُ التجاري لكل المواد المحرمة والفاسدة الضارة. ومثل ذلك استعمال النساء العاريات في الدعاية التجارية، وفي بعض الأعمال التي يعتبرونها تعبيرا فنيا.
- التثبت والتبين قبل القول والتعبير
وهذا الضابط يسري على كافة الأقوال والصور التعبيرية، ولكنه آكد وألزم حين يتعلق الأمر بأخبار الناس وحقوقهم وأعراضهم.
فمن الضوابط التي أمر بها الإسلام عند ممارسة القول والتعبير أن يكون للقول حجة ودليل، وأن يكون بعد تحر وتثبت، ولا يكون مجرد خرص وتخمين، أو مجرد إفك وبهتان ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36].
ومن هنا جاء التحريم الشديد للكذب والبهتان ولقف الأخبار وترويجها قبل التثبت منها… والنصوص في ذلك وفيرة معلومة. فليس شيء من هذا بداخل في حرية التعبير، بل هو داخل في سوء الظن وسوء التعبير.
- حفظ حرمات الناس وأعراضهم
ويختلف هذا الضابط عن سابقه بأن الأمر هنا قد يتعلّق بما هو حقّ وصدق وبعلم، ولكن في قوله وترويجه إيذاء للناس وانتهاك لحرماتهم وأعراضهم وأهليهم، ويدخل هنا تحريم الغيبة والسبّ والتشهير وإفشاء أسرار الناس بغير إذنهم، والقذف بما هو صحيح. وحتى بالزنا الذي قد نشاهده ونتيقنه، لا يجوز إفشاؤه والتحديث به إلا بعد توافر أربعة شهود، احتياطاً لأعراض الناس وحرماتهم.
- منع التدخل في النيات والبواطن
ويتعلّق هذا الضابط بنقد الأشخاص في آرائهم وتصرفاتهم واجتهاداتهم، سواء أكانوا علماء ومفكرين أو زعماء وحاكمين أو من عامة الناس. فإذا كان الإسلام يسمح لنا بنقد أي واحد ومجادلته والإنكار عليه في ما نعتبره أساء فيه أو أخطأ، فإنما يسمح بذلك في حدود ما ظهر لنا فرأيناه أو سمعناه، من دون تجسّس ولا تنقيب، ولا تأويل ولا سوء ظنّ، ولا اتهام للنيات والبواطن، وقد “أمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولّى السرائر”.
خاتمة
والخلاصة أن الإسلام قد فتح الباب واسعاً لحرية القول والتعبير، ولم يجعل أحداً من الناس فوق المراجعة والمعارضة، فالله تعالى وحده – بجلاله وكماله – هو الذي ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل﴾ [الأنبياء: 23].
والله تعالى وحده هو الذي ﴿يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه﴾ [الرعد: 41].
وهو سبحانه وحده القائل بحق وصدق ﴿مَا يُبّدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: 29].
ولكن هذه الحرية يجب أن تمارس في حدود الحق والنفع والأدب، ولا يجوز استغلالها للهدم والتغرير وإيذاء الناس.
[1] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 246-247.
[2] المصدر نفسه، ص 246.
[3] صحيح مسلم بشرح النووي (بيروت: دار الفكر، [د. ت.])، ج 2، ص 21.
[4] صحيح مسلم، “كتاب الإيمان”.
[5] الحديث متفق عليه.
[6] أبو داود في الملاحم، والترمذي في الفتن.
[7] البخاري في “كتاب التفسير”، ومسلم في “كتاب الطلاق”.
[8] الموطأ، “كتاب الجامع”.
[9] البخاري، “كتاب الاعتصام”، ومسلم، “كتاب البر والصلة والآداب”.
[10] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 8، ص 379.
[11] مسلم، في “فضائل الصحابة”.
[12] البخاري في “كتاب المغازي”، ومسلم في “فضائل الصحابة”.
[13] تفسير ابن كثير، ج 4، ص 319.
[14] مسلم، في كتاب “فضائل الصحابة”.
[15] ترتيب المدارك للقاضي عياض.
[16] روبرت هـ. ثاولس، التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، ترجمة حسن سعيد الكرمي؛ مراجعة صدقي عبد الله حطاب، عالم المعرفة؛ 20 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1979)، ص 17-18.
[17] ونص الحديث: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار”. مسلم، “كتاب الإيمان”.
[18] مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 251.