مسؤولية المجتمع بين التفعيل والتعطيل
من أوراق التجديد نشر في التجديد يوم 30 – 05 – 2002
أ.د أحمد الريسوني
مسؤولية المجتمع بين التفعيل والتعطيل
حينما كنت أسطر الفقرات الأولى من هذه الأوراق، كنت أفكر في أن هذا النشر المتقطع لهذه الأفكار سيجعلها عرضة لسوء الفهم لها، مضافا إلى كونها أفكارا تصادف بعض التصورات المسلمة والمستتبة لدى عامة المسلمين، ولدى أبناء الحركة الإسلامية خاصة. وكنت أتوقع إصدار أحكام جزئية متعجلة حولها وحول مرماها. وقد حصل شيء من هذا فعلا. فمنه ما تلقيته مشافهة، ومنه مما تلقيته مراسلة، ومنه التعقيب الذي كتبه الأستاذ مولاي رشيد الأزهري ونشر مع حلقة الثلاثاء الماضي.
ولذلك أبادر بالتذكير بما ذكرته في الحلقة الأولى وهو بالحرف >ومما لا شك فيه أن السلطة السياسية والعمل السياسي جزء لا يتجزأ من الإسلام ونظامه للحياة<، وأيضا >هناك حالات قد لا تنصلح ولا تستقيم ولا تخضع لمقتضى العدل إلا بالسلطان…<.
وأبادر اليوم إلى التأكيد أنني لا أريد التقليل من أهمية السلطان ودوره في استكمال إقامة الدين وحفظه، وفي حفظ بيضة الأمة وعزتها ومنعتها.ولكن الذي أسعى إلى تصحيحه وتقويم اعوجاجه، هو ذلك المسار المزدوج الذي سرنا فيه زمنا طويلا، وهو ذلك التضخيم المتواصل لدور الدولة ووظائفها واختصاصاتها (1)، مقابل الضمور المتواصل لدور المجتمع والجماعة، وحتى الفرد، ولا شك عندي أن هذا انحراف وانحطاط، سواء بالميزان الشرعي أو بالميزان السياسي، أو بالميزان الاجتماعي.
أما من الناحية الشرعية فأحسب أن ما قدمته وبينته في الحلقات الثلاث الماضية كاف لبيان محدودية حجم الدولة وحجم ما يتوقف عليها في الإسلام، وسيزداد وضوحا وكفاية بعد بيان صلاحيات المجتمع والأفراد، من باب >وبضدها تتميز الأشياء<.
وأما من الناحية السياسية، فإن الأمراء وكلاء ونواب مفوضون من الأمة ومن المجتمع. فلا يعقل ولا يصح أن يصبح الموكل صاحب الحق الأصلي، مسلوب الحق، مشلول الإرادة فاقد المبادرة. إن هذا حين يقع وهو واقع لا يكون إلا من قبيل “أن تلد الأمة ربتها”.
وأما من الناحية الاجتماعية، فإن تفرد الدولة بتدبير شؤون المجتمع الدينية والدنيوية، واحتكارها للصلاحيات والوسائل والإمكانات، وتهميشها لدور الأفراد والجماعات؛ فلا يتحركون ولا يبادرون ولا يساهمون إلا في أضيق نطاق وأضعفه، إذا طلب الحاكم ذلك أو أذن فيه… إن هذا باختصار يؤدي بالمجتمع وأفراده إلى الاستقالة والانسحاب، وإلى تعطل الطاقات وانعدام الخبرات، بل إلى انحطاط الهمم وتبلد العقول. وهذا ما تحقق منه الشيء الكثير على مدى القرون الأخيرة. ومن المضحكات المبكيات أن تجد اليوم علماء ومفكرين ومثقفين جامعيين يقولون: “أنا لا أفهم في السياسة، أنا لا أتدخل في السياسة”. وقد تحدثت يوما مع أحدهم عن التخدير الذي يمارس على المجتمع بواسطة كرة القدم ونحوها، فقال لي: أرجوك لا تدخلنا في السياسة!
وحينما قلت ذات يوم: إن تسعة أعشار الشريعة يمكن إقامتها وتطبيقها دون توقف على الدولة، كتب إلي أحد الفضلاء منتقدا، ومبينا أن كل شيء في الدين يتوقف على الدولة، وقال في آخر رسالته: “إن الدين الحقيقي هو الدولة، والحاكم هو الذي يستطيع أن يطبق شرع الله إن أراد”.
إن هذه الأفكار وهذه المواقف إنما هي تعبير عما آلت إليه وضعية الأمة أمام الدولة. فالأمة جثة مشلولة، والدولة هي الكل في الكل. وهذا ليس في مصلحة الأمة كما هو واضح، ولكنه أيضا ليس في مصلحة الدولة إلا إذا كانت من الصنف الذي لا يهمه سوى البقاء في الحكم والإبقاء على مغانمه.
لقد استعرضت من قبل ما سماه الحديث الشريف (شعب الإيمان)، وأسميته على سبيل التوضيح والتقريب (خريطة الإسلام). كما استعرضت مع نفسي السور الطوال من القرآن الكريم وغيرها من السور والآيات التشريعية.
كما استعرضت فهارس كتب الحديث الشريف، واستعرضت قرونا طويلة من تاريخ الإسلام، فوجدت أن الإسلام هو دين الأمة وخطاب الأمة: بأفرادها وجماعاتها، وشعوبها ومجتمعاتها. وأن الدولة عنصر طليعي وفعال في بعض الجوانب وبعض المجالات التي تبقى محدودة ومكملة لجوهر الدين ولرسالة الأمة في حمله وإقامته.
وبعد أن اختل نظام الحكم في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، بقيت الدعوة الإسلامية تنتشر وتتسع في جميع الاتجاهات، وبقي الجهاد قائما لا يعوزه شيء. وبقيت الانتصارات والفتوحات متواصلة، وبقي العلماء يعلمون ويفتون، وبقي الدعاة والمربون يوجهون ويؤطرون. وبقي القضاة يحكمون بين الناس بما أنزل الله. ونشأت وبقيت شبكات قوية وفعالة من المذاهب الفقهية والطرق الصوفية والحركات الإصلاحية.
وبقي المجتمع متفاعلا ومتجاوبا ومندمجا مع هؤلاء جميعا. بقي الجميع يقيمون دينهم بأركانه وأحكامه وقيمه وأخلاقه. يقيمون المؤسسات التعليمية والتربوية والاجتماعية… إلى أن تجمعت وتلبدت غيوم التخلف والانحطاط والضعف، وكان من بينها تراجع فاعلية المجتمع ومؤسساته، وتضخم دور الدولة وتأميمها واحتكارها للوظائف والصلاحيات السياسية والاجتماعية والدينية… وأصبحت الدولة بدل أن أن تكون موجهة ومشجعة ومدعمة لفاعلية المجتمع وطاقاته ومبادراته، أصبحت معيقة ومكبلة ومعطلة لذلك كله.
ومن طرائف هذا الوضع على سبيل المثال أن مؤسسات الدولة وممارسات القائمين عليها، حينما أصبحت تعج بالمنكرات والانحرافات، مما يجب أن يتصدى المجتمع لإنكاره وتغييره، أصبحت هي نفسها المختصة بتغيير المنكر دون أحد سواها!