الاجتهاد والمجتهدون بين فقهاء الجزئيات وفقهاء الكليات
السائد المستقر عند علمائنا – وخاصة الأصوليين – أن صفة “الاجتهاد” ومرتبة “المجتهد”، إنما تخص الفقه والفقهاء.. فالاجتهاد إنما هو الاجتهاد الفقهي الفروعي، والمجتهد إنما هو فقيه بلغ مرتبة الاجتهاد في استنباط الأحكام الفقهية الشرعية.
وقد كان من نتائج حصر الاجتهاد الديني الشرعي في الفقه والفقهاء، أنْ أصبح العلماء المجتهدون لا يمكن أن يكونوا، ولا أن يأتوا، من خارج الدائرة الفقهية، مهما كان علمهم وفكرهم وفهمهم وإبداعهم وعطاؤهم. وهذه معضلة حقيقية، وخسارة فادحة للعلم وللاجتهاد في فهم الدين وخدمته، وللأمة بعد ذلك.
فعدد كبير من علماء الإسلام وعظمائه: من المفسرين، والمحَدّثين، والمفكرين، والفلاسفة، والأصوليين، والمتكلمين، والاقتصاديين، ومن الخلفاء والزعماء والحكماء، أصحاب النظر والخبرة والاستنباط، لا سبيل إلى إدخالهم – ولو مبدئيا – في عداد المجتهدين، ما داموا لم يتخصصوا في “الفقه”، ولا يحملون لقب “فقيه”.
هذا مع العلم أن النصوص الشرعية التي تأسس عليها وتأصل بها الاستنباط والاجتهاد في الدين، لم تَرِدْ في الاجتهاد الفقهي ابتداء، بل وردت في السياسة والقضاء والحكم بين الناس وتدبير شؤونهم العامة:
كقوله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم} [النساء: 83]، وهو وارد في الاستنباط والاجتهاد السياسي والأمني والعسكري، قبل أن ينطبق على الاجتهاد والاستنباط الفقهي.
وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، وهو وارد في اجتهاد القضاة والولاة، ثم أُدخلت فيه اجتهادات الفقهاء تبعا لاجتهادات القضاة، مع أن اجتهادات القضاة أكثرها يتعلق بتحقيق الدعاوي والوقائع وحجج الخصوم، لا باستنباط الأحكام من الألفاظ الشرعية وغيرها من الأدلة الأصولية.
وإذا كان الاجتهاد الفقهي المحض، إنما دخل مع “الاستنباط السياسي والأمني”، ومع “الاجتهاد القضائي” من باب القياس، أو من باب نفي الفارق، فمن حق كل اجتهاد يتحرى الحق والعدل والنفع والحكمة، في دائرة الشرع وأدلته ومقاصده، أن يدخل كذلك، وأن يُعتبر اجتهادا شرعيا، ويُعتبر أهلُه مجتهدين.
وهذا هو المنحى الذي نحاه، أو ألمح إليه، العلامة محمد بن صالح العثيمين، في شرحه للحديث، حيث قال: “حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، المراد بالحاكم هنا القاضي. والظاهر أن المفتي مثلُه، يعني أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحق وتبين له شيء من الحق ثم أفتى به أو حكم به، فهو على خير: إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا يضيع الله تبارك وتعالى أجر من أحسن عملا. فدل ذلك على أن الإنسان إذا اجتهد وتحرى الحق وبذل وسعه في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يثيبه على هذا. إن أصاب فله أجران: الأجرُ الأول على إصابة الحق، والثاني على اجتهاده. وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو أجر الاجتهاد وبذلِ الوسع والطاقة في طلب الحق” .
كنا يوما في مناقشة أطروحة للدكتوراه، كنتُ المشرفَ عليها، وإذا بأحد الأساتذة المناقشين يوجه انتقادات شديدة غاضبة لصاحبة الأطروحة، لكونها تستشهد بآراء ابن خلدون في قضايا تتعلق بالفقه والأصول والسياسة الشرعية، قائلا: إن ابن خلدون مجرد مؤرخ، ولا يعول عليه في الفقه ولا في الأصول ولا في القضايا الشرعية عموما… وتمالكتُ نفسي، وتركت الأمر بين الأستاذ والطالبة.
ولكن لـمّا اختلَينا للمداولة، قلت للأستاذ الفاضل: إن ابن خلدون مفكر كبير وعبقري فذ، ومجتهد إسلامي أصيل. واشتهاره بالتاريخ لا يقلل من اجتهاداته وسديد نظره في الفقه والأصول. بل إن علم التاريخ قد زاده تبصرا ونفاذا في آرائه الفقهية والأصولية. ثم لا ننس أنه عمل قاضيا، وكل قاض فهو فقيه وزيادة…
ولقد كنت – وما زلت – أتحرج وأتعجب كلما تذكرت أن الإمام الشاطبي يصف نفسه بأنه مقلد، وأنه يلتزم مشهور المذهب. ولكنّ الأعراف والمراسيم الفقهية والأصولية تقضي بذلك. أما خارجها، فالشاطبي من عظماء الأئمة المجتهدين.
ولئن كان لأحد أن يُهوّن من حجم هذه القضية ومن آثارها الوخيمة في الماضي، فلن أطيل معه الكلام في هذا المقام، ولكني أريد التنبيه على مدى حاجتنا اليوم – بصفة خاصة – إلى توسيع دائرة الاجتهاد والمجتهدين، لتشمل كل المجالات العلمية والإصلاحية. فكل صاحب مؤهلات واجتهادات فكرية وعلمية، إذا قدم لنا الجديد المفيد، من الأحكام والقواعد والمقاصد، ومن والحلول والنظريات والخطط، التي استنبطها من الشرع وأدلته، واسترشد فيها بهديه ومقاصده، فهو مجتهد، نسمع له ونعتبر قوله، ونعتد به في انعقاد الإجماع وعدمه في مجاله. مع أن المجتهد يصيب ويخطئ، دون أن يفقد صفةَ المجتهد إذا أخطأ.
نحن اليوم بحاجة إلى كثير من الاجتهاد والمجتهدين: في أصول الفقه، ومقاصد الشريعة، وعلوم القرآن، والدراسات القرآنية، والسياسة الشرعية، والقواعد الفقهية، والنظريات الفقهية، وعلم الكلام الجديد، والفقه الدستوري، والاقتصاد الإسلامي، والتربية والتعليم، ومناهج الدعوة والإصلاح، والعلاقات الدولية…
وليس اجتهاد الفقهاء، وحتى المجامع الفقهية، في النوازل الجزئية، أولى ولا أحقَّ من اجتهاد المتخصصين في هذه المجالات والقضايا الكلية المصيرية للأمة.
وإن المجامع الفقهية نفسها لا تستغني في عضويتها وفتاويها عن المفكرين وعلماء الكليات والنظريات والمنظومات الإسلامية، على أن تكون عضويتهم بهذه الصفة، لا بصفة فقهاء، أو خبراء، أو مستشارين.
المصدر: إسلام اون لاين