أبحاثأبحاث أخرى
مكة المكرمة في الثقافة المغربية
منذ أسابيع قليلة، كنت أجلس إلى المفكر الإسلامي – المكي – الأستاذ الدكتور عبد الحميد أبو سليمان ، على هامش ندوة علمية نظمت بمدينة الرباط المغربية. وجرى حديثنا العفوي من مسألة لأخرى إلى أن أخبرني أنه دخل يوما على أحد المسؤولين السعوديين بمدينة الرياض، فوجد معه مبعوثا من الفاتيكان جاء يطالب بفتح مكة والسماح بزيارتها لغير المسلمين، وخاصة للمسيحيين، ويحتج على المسؤول السعودي بكونهم يسمحون للجميع بمن فيهم – المسلمون – بزيارة روما وحاضرة الفاتيكان، فكيف لا يسمح لهم بزيارة مكة؟ فتدخل الدكتور بما معناه: إن مدينة روما، بما فيها وما حولها، وكذلك الفاتيكان، هي معالم حضارية وأماكن سياحية ومناطق جميلة. فهي تصلح للزيارة لأغراض وفوائد عديدة، أما مكة المكرمة فليس فيها شيء من هذا. فهي لا تصلح إلا للعبادة والتجرد من مباهج الدنيا. فهي مجرد مسجد تحيط به جبال صخرية، فمن ليس مسلما لا معنى لدخوله إليها.
تذكرت هذا الحديث وأنا أهم بكتابة هذه الورقة عن مكة المكرمة، كما تذكرت شيئا في هذا المعنى كنت قرأته في كتاب ” الطريق إلى مكة ” للكاتب البارع، المسلم من أصل أوربي نمساوي، الأستاذ محمد أسد ( ليوبولدفايس، قبل أن يسلم)، فقمت أراجع كلامه، خاصة وقد أصبحنا نعده مغربيا بعد أن استقر به المطاف بمدينة طنجة المغربية، فأقام بها سنين طويلة، قبل أن ينتقل إلى مدينة غرناطة الأندلسية التي توفي بها رحمه الله.
يقول محمد أسد وهو يتأمل الكعبة المشرفة التي جمعت أقصى درجات العظمة والمهابة بأقصى درجات البساطة والتواضع، ” هناك انتصبت الكعبة، مغطاة بكاملها بالنسيج الحريري الأسود، جزيرة هادئة وسط ساحة المسجد المربعة الواسعة: أبسط كثيرا من أي أثر معماري آخر في العالم…
لقد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد أبدعت في بنائها أيدي الفنانين من المهندسين المعماريين العظام. رأيت مساجد في إفريقيا الشمالية، معابد تتألق بالرخام والمرمر الأبيض، وقبة الصخرة في القدس قبة كاملة فوق بناء دقيق، حلم من الخفة والثقل اتحدا دونما أثر للتناقض، ومباني اسطنبول الفخمة، ومساجد برسة في الأناضول ومساجد الصفوية في إيران، روائع ملكية من حجارة زاهية وبلاطات ملونة وأبواب مطعمة بالفضة، وخرائب مساجد تيمورلنك الجبارة في سمرقند، الرائعة حتى في انحلالها…
كل هذه سبق أن رأيتها، ولكن شعوري لم يكن قط قويا كما كان الآن أمام الكعبة، بأن يد الباني كانت على مثل ذلك القرب من مفهومه الديني، ففي بساطة المكعب المطلقة، في الإنكار التام لكل جمال للخط والشكل نطقت هذه الفكرة تقول: ( إن أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يخلقه بيديه، يكون من الغرور اعتباره جديرا بالله. وإذن فكلما كان ما يستطيع أن يتصوره بسيطا كان ما يستطيع فعله لتمجيد الخالق أعظم ما يكون…) فهذا التواضع الفخور في هذا البناء الصغير لم يكن له مثيل على الأرض” (1)
وهكذا يظهر جليا أن تعظيم مكة ومهابتها والانجذاب إليها، والتعلق بها، ليس خاصية أو ميزة لشعب دون غيره أو لقوم دون سواهم، أو لأهل زمن دون سائر الأزمان، فمكة المكرمة لا تعكس ذوقا عربيا يعشق البساطة والتواضع، بل هي مهوى أفئدة الناس على اختلاف أجناسهم وأعصارهم وأمصارهم.
ولذلك لا أستطيع أن أدعي أن أهل المغرب يتميزون عن غيرهم بشدة حبهم وتعظيمهم لمكة المكرمة أو بكثرة هيامهم بها وتشوقهم إلى زيارتها والعودة إليها مرة بعد أخرى، فليس في هذا الأمر فضل لمغربي على مشرقي ولا لعربي على عجمي، فلا غرابة أن نجد صاحب ” الرحلة المغربية ” أبا عبد الله العبدري يقول عن مكة: ” إن مكة شرفها الله من عظيم آيات الله في الأرض، الدالة على عظيم قدرته، فإنها بلد يسبي عقول الخلق، ويستولي على قلوبهم، ويتملك رقها من غير سبب ظاهر. فالنفوس إليه نزاعة من كل أرض، ولا يدخله أحد إلا أخذ بمجامع قلبه مع عدم الدواعي إلى ذلك. ولا يفارقه إلا وله إليه حنين، ولو أقام به على الضنك سنين لا يمل سكناه، ولا تضيق النفس بلزوم مغناه، على أنه بواد – كما قال الله عز وجل – (بواد غير ذي زرع)، وأرضها جدبة كلها حجر، لا ماء بها ولا شجر…” (2)
وكدأب عامة علماء المغرب في توصية حجاجهم وأهل بلدهم بتعظيم مكة والتزام غاية الأدب أثناء زيارتها، نجد صاحب كتاب ” الاستبصار في عجائب الأمصار” (3) يقول: ” وينبغي لمن يحج أن يرغب في داخل البيت وفي الصلاة فيه فإن في ذلك فضيلة كبيرة. فإذا دخل فيه أحد فليتركع وليلح بالدعاء والرغبة إلى الله فإنه مشهد كريم. وليخلع نعليه ولا يبصق ولا يتمخط، ولينزه ما استطاع، فإنها بقعة مقدسة مكرمة مطهرة كرمها الله عز وجل وشرفها على بقاع الأرض كلها” (4)
وقد بلغ من حب المغاربة لمكة ورغبتهم في التيمن بها أنهم يسمون بناتهم باسم “مكة” وأبناءهم باسم “المكي”. وقد ألف أحد علماء المغرب، وهو أبو عبد الله الصنهاجي الشهير بابن آجروم، كتيبه النحوي المعروف باسم “الآجرومية” ألفه أمام الكعبة تيمنا بها. ويعتبر بعض أهل العلم أن شدة انتشار هذا المؤلف وما تلقي به من الرضى والقبول، راجع إلى بركة مكة التي كتب في أحضانها.
لإتمام قراءة البحث المرجو تنزيله من مكان التنزيل أعلاه..