“تغيير خَلْق الله” وسلطة الحلال والحرام
“تغيير خَلْق الله” وسلطة الحلال والحرام
د. معتز الخطيب
في مقال الأسبوع الماضي “الوشم والنمص وتغيير خَلق الله: بين تعددية التراث وضيق الفتاوى المعاصرة”، قصدتُ التنبيه إلى مشكلات فكرية ومنهجية في الفتوى وبعض التقويمات الدينية السائدة اليوم، وتمثلت في 3 مشكلات:
الأولى: إرادة حمل الكافة على رأي أو قناعة محددة بحيث تتم إدانة ما عداها من ممارسات، وفي مسائل فيها سعة وتعددية في التراث العلمي نفسه. ومثل هذا النزوع إلى الواحدية هو نزوع حديث يقطع مع الإرث الفقهي الإسلامي نفسه في الوقت الذي يزعم فيه الحديث باسمه!
الأصل العام هنا هو تغيير خلق الله الوارد في قوله تعالى: “لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا، ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا”
الثانية: أن العودة المباشرة إلى النص الديني (القرآن والسنة) لا تحل المشكلة المتصورة، بل تخلق مشكلة تتخذ أحد شكلين:
- الشكل الأول: النزوع الظاهري والحرفي في فهم النص، ومن ثم في تنزيله على سلوكيات الأفراد، الأمر الذي يخلق توترات واتهامات للآخرين بمخالفة النص الديني أو بارتكاب محرم والتورط في تأثيم الآخرين.
- الشكل الثاني: نزوع مقاصدي شكلي أو تقني الطابع؛ حيث يتم الركون -في التحريم- إلى عمومات يمكن أن تشمل كل فعل وأي فعل، وهذه طريقة وعظية لا تتفق وطريقة الفقهاء في الاستنباط والاستدلال. فالاستدلال بالعمومات رخو وقابل للتوظيف في كل اتجاه (وكذلك إغفال التعليل الذي هو ركن الفقاهة)؛ لأنه لا توجد مصالح متمحضة ولا مفاسد متمحضة.
الثالثة: أن الفتوى المعاصرة تفتقر إلى منهجية علمية (وقد أكدت ذلك أيضًا في مقالي الأسبق “مسالك الفتوى في الطب”)، ولذلك تقوم على الانتقائية، بل إن بعضهم حاول أن يجعل هذه الانتقائية نفسها منهجًا له، ولذلك اضطربت فتاواه، فتارة ينزع إلى التشدد وأخرى ينزع إلى التيسير من دون قانون عام واضح. وإذا فتشنا في فتاوى كثير من المفتين المعاصرين وجدنا أنهم يميلون في المسائل الاجتماعية -وخاصة حين يتعلق الأمر بمسائل تخص النساء- إلى تفضيلات شخصية واجتماعية، وهي تفضيلات تدفع إليها رهبة أو رغبة إما ذاتية أو اجتماعية؛ ومن ثم فإن الفتاوى تقوم على تحيزات شخصية وثقافية يتم إلباسها سلطة الحلال والحرام، رغم أن المستند النصي والفقهي فيها قد يكون هشًّا، والوشم والنمص ووصل الشعر مجرد أمثلة على ذلك. إعلان
وظاهرة الفتوى والمشكلات المرتبطة بها تصلح أن تُعالَج من زوايا مختلفة: فقهية وفكرية واجتماعية، وليس منهجٌ منها بأولى من الآخر، وإنما الذي يحدد المنهج الأوفق هو زاوية النظر وسؤال البحث. ولكنني في مثل هذه الظواهر المركبة أو متعددة الأبعاد والتأثيرات، أرى أن المنهج الأوفق هو المنهج المتعدد التخصصات الذي يمسك بأبعاد الصورة الكاملة.
ناقش مقالي السابق المسألة من منظور البحث عن “الخلاف الفقهي”، واختلاف مدارك الفقهاء في تأويل النص وكيفية استنباط الأحكام منه، لأن هدفه كان محددًا وهو إثبات أن النصوص نفسها محتملة لأكثر من معنى، وأن هذه الاحتمالية أوجدت لدينا تعددية فقهية في الآراء المستنبطة من النص، ولكل منها مَدرَكه الخاص به الذي حاول عن طريقه أن يجمع بين النصوص والفروع المختلفة المنتمية إلى أصل واحد وهو “تغيير خلق الله” (أي أن الإطار العام هو إطار نصي تأويلي).
أما هذا المقال فيناقش المسألة نفسها (تغيير خلق الله) من منظور أخلاقي متعدد التخصصات، إذ إن المثال المطروح هنا يجمع بين نوعي الأخلاق: أخلاق الأفعال -التي تركز على الفعل نفسه- وأخلاق الفضيلة -التي تركز على الفاعل- كما أنه يتصل أيضًا بـ”ما بعد الأخلاق”، أي مصادر التقويم الأخلاقي ودور الضمير الفردي، والعرف الاجتماعي، وسياسات الهوية في تقرير الحسن والقبيح (الأخلاقيات الفردية والعامة)، وكل هذا له تأثيرات على السلوك الاجتماعي العام.
الأصل العام هنا هو تغيير خلق الله الوارد في قوله تعالى: “لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا، ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا”، والحديث الذي ناقشناه في المقال السابق هو تبع لهذا الأصل، ويجب أن يُفَسر على ضوئه؛ لأن القرآن أصل الأصول، والسنة النبوية مبيِّنة له.
وعبارة “فليغيرن خلق الله” تشمل التغييرات الظاهرة (كل تغيير يطرأ على الصورة الجسمانية) والتغييرات الباطنة (كل تغيير يطرأ على الصورة المعنوية)، وحمل ذم تغيير الخلق هنا على هذا العموم الواسع محل إشكال:
فمن جهة الصورة الجسمانية، ثمة ألوان من التغييرات التي تطرأ على الجسد، عُدَّ بعضها من الفطرة (كحلق الشعر، والظفر، والختان وغير ذلك)، وبعضها إنما يُقصد به إصلاح خلل خِلْقي أو طارئ (كالتشوهات المختلفة)، وبعضها إنما يُقصد به التحسين (طلب الأفضل). وتندرج هذه التغييرات جميعًا تحت أصل عام هو النظافة والزينة، وهما مقصدان مشروعان، بل يندرجان تحت ما يسمى الفضائل الجسدية التي منها الجمال.
ومن جهة الصورة المعنوية، ثمة ألوان من التغيير، تبدأ من تغيير الفطرة أي الحالة الطبيعية التي ولد عليها الإنسان والتي رُكزت فيها المعاني القيمية والإيمانية في معرفة الخير والشر والإقرار بالخالق. وتشمل تغيير الأخلاق والخصال السلبية التي جُبل عليها الإنسان، مثل الشح والغضب وغير ذلك؛ ولهذا دأب فلاسفة اليونان والإسلام على مناقشة سؤال “هل الأخلاق (أي صفات النفس الباطنة) فطرية أو مكتسبة؟ وهل يمكن تغييرها؟” والرأي الذي ساد هو أنها قابلة للتغيير والانتقال من كونها رذائل إلى كونها فضائل، بالتعود وقهر النفس وضبطها بقوانين الفضيلة والشريعة، وأن الإنسان لا يكون فاضلاً إلا بتغيير خصاله السلبية، حتى يكتسب مكانها فضائل نفسية.
تحَصّل من هذا أن الفضائل نوعان: جسدية ونفسية، وقد تحدث عن هذا الإمام الراغب الأصفهاني الذي أكد أهمية الترابط بين نوعي الفضائل، وقال: “قد استهان قوم بذلك، وقالوا: كفى بالمرء أن يكون صحيح البدن بريئا من الأمراض الشاغلة عن تحري الفضائل العقلية. وليس كذلك؛ فالبدن للنفس بمنزلة الآلة للصانع، والسفينة للربان، اللتين بهما صار صانعًا وربانًا”؛ إذ إن ثمة ترابطًا بين الجسد والنفس، وبين الفضائل النفسانية والجسمانية.
ولكن ألوان التغيير السابقة في الصورتين الجسمانية والمعنوية داخلة في عموم مفهوم “تغيير خلق الله”، ولا شك أن هذا العموم غير مراد بالآية (والحديث تبعٌ للآية)، وهذا يوضح لماذا استشكل جمهور المفسرين مفهوم تغيير خلق الله هنا؛ فذهبوا إلى أن المعنى هنا هو “تغيير دين الله” الذي يحمل على الانتقال من الإيمان إلى الكفر، ومن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وليس هو التغيير الجسدي ولا تغيير أخلاق النفس من الرذائل إلى الفضائل، ومستندهم في ذلك أمران:
- أن هذا العموم الذي يفيده ظاهر النص يصادم نصوصًا عديدة أخرى، ومسائلَ مقررة، فطرةً وخُلقًا.
- أن سياق الآية نفسها لا يساعد على هذا التأويل العام الذي يشمل كل تغيير؛ لأنها واردة على لسان الشيطان في سياق تحدٍّ لبني آدم وتَقَصُّد إضلالهم عقديا، وأن التغيير المنهي عنه هو ذلك التغيير الذي يتم طاعةً للشيطان.
ولكن بعيدًا عن التأويل المتعلق بالأصل النصي في الموضوع، نجد اليوم أننا أمام تطبيقات عديدة تتصل مجددًا بمفهوم “تغيير خلق الله”، خصوصًا مع التقنيات الحديثة التي وسعت حدود إمكان تغيير الظاهر والباطن، ومنها مثلاً التعديل الجيني (وهو أشبه بالتغيير الباطني عبر تدخل مادي) وعمليات التجميل الواسعة (وهي تغيير ظاهري له دوافع وآثار نفسية باطنة)، ولو ذهبنا نعالج ذلك وفق المنظور التقليدي سنكون أمام فهم قاصر، فإما أن نجري على إباحة كل تغيير استنادًا إلى مقصد عام، أو تحريم كل تغيير استنادًا إلى العموم السابق وظاهر النص.
وفي رأيي، أن الأمر يتطلب معالجة أخلاقية مركبة تليق بالمنهج المتعدد التخصصات، وهنا يمكن أن نميز بين 3 مستويات وهي: ما بعد الحلال والحرام، والمعايير الأخلاقية لتقويم عمليات التغيير، وسياسات الهوية التي تحيل إلى أخلاقيات تنظيمية خاصة.
المستوى الأول: ما بعد الحلال والحرام
فيما يخص المستوى الأول، لم يكن هدفي من الوشم والنمص والوصل في مقال الأسبوع الماضي إقناع القراء بحلّية أو حرمة هذا الفعل أو ذاك، بل إظهار أن في الأمر سعة، وأن الأمر متروك إلى ضمير كل فرد واختياراته التي يرتاح إليها على مستويين: مستوى دياني ومستوى شخصي؛ بحيث يتحقق له كمال صورتيه الظاهرة والباطنة، ويتصالح مع نفسه وجسده ويطابق علمه عمله على المستوى الفردي.
والإحالة إلى الضمير الفردي مسلك معروف في الشريعة؛ خصوصًا حين تتعارض فتاوى المفتين فيقوم المكلف نفسه بالترجيح بينها لنفسه، وفق معايير اختلفوا فيها، ولكن الأظهر فيها أنه يستفتي فيها قلبه: أي يُحكِّم ضميره الأخلاقي (لا رغباته)، أو حين يبيح المفتي ولكن يميل القلب إلى التحريم فتتعارض فتوى القلب مع فتوى المفتي (وهذا في حق نفسه لا في حق غيره).
وإخراج مثل هذا الفعل من حيز الضبط، وإحالته إلى الضمير الأخلاقي الفردي، يعني أن الوجوب ليس شرطًا لتأكيد أهمية أي ممارسة، والتحريم ليس شرطًا كذلك لنقد أي ممارسة أو للتحذير منها، عبر استخدام سلطان النص الديني أو حكم الشريعة؛ إذ إن الحلال والحرام مسائل دينية ينبني عليها تأثيم وتثويب، وأبعاد دينية أخروية، ومن ثم فهي لا تقوم على تفضيلات شخصية أو حزبية.
يمكن للفرد أن ينتقد تصرفات وأفعالاً مباحة ليس للشرع فيها ترجيح حكم محدد، وأن يمتنع عن فعلها، لأسباب وتحيزات شخصية أو ثقافية أو حتى طبية. فالهوس بعمليات التجميل -مثلاً- ظاهرة قابلة للنقد اليوم (وهو غير التحريم الشرعي)، خصوصًا أنها باتت جزءًا من عملية الاستهلاك الواسع على حساب أولويات أخرى، وأن من يتحكم بسلطة تحديد معايير الجمال هو شركات كبرى لتعظيم الربح وفرض نمط ثقافي معين، حتى إننا بتنا أحيانًا أمام تلاشي الملامح الطبيعية والفوارق الشكلية التي تسم الأفراد، وذلك من دون أن يضطر إلى تحريم فعل التجميل نفسه حتى لو تم إجراؤه بعملية طبية.
فاستخدام سلطة الدين لأغراض سياسية أو تحيزات ثقافية أو اجتماعية معينة من قبل مفت أو نظام أو جماعة عاد بالوبال على الدين نفسه وعلى سلطة الحلال والحرام، التي باتت شديدة المرونة وخاضعة لتفضيلات فردية أو ثقافية أو اجتماعية، حتى بات بعض المفتين المعاصرين أشبه بفئة قديمة من وضاعي الحديث الذين قالوا: “كنا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثًا”، بزعم أن ثمة فرقًا بين الكذب للنبي والكذب عليه، والقرآن تحدث بوضوح عن أهمية الفصل بين هذه التفضيلات والاعتبارات الذاتية وبين الحل والحرمة بأنها مسائل موضوعية منفصلة عن تفضيلاتنا، إذ يقول الله تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب”.
وقد كان أئمة التصوف الكبار يحرمون -على أنفسهم- كثيرا من المباحات، ويجعلون كثيرًا من المندوبات في مقام الواجبات -في حق أنفسهم- وذلك لأجل التأديب والترقي طلبًا للكمال، ولبلوغ مرتبة السابقين المقربين. ولكن مثل هذه التقويمات المتشددة تبقى في حق النفس لا في حق الغير، ولا تغير من موضوعية الحلال والحرام المستقلة عن الرغبات الفردية التي تراعي تفاوت أحوال البشر ودرجاتهم في طلب الكمال. فضلاً عن أن كون المباح مباحًا لا يعني تناول جميع المباحات بالضرورة؛ لأنه تفريط في حق النفس قد يقرّب من الحرام، ويلغي المسافة الفاصلة بين المباح والحرام، التي هي بمثابة حرَم آمن يحول بينه وبين الحرام.
ثم إنه ليس كل ضرر حرامًا، ولا كل نافعٍ واجبًا، إذ النفع والضرر أصول كلية لها معانٍ ومستويات: بعضها دنيوي وبعضها ديني، وبعضها تعبدي وبعضها عادي، وبعضها قطعي وبعضها ظني، وبعضها مباشر وبعضها تراكمي، وبعضها قليل وبعضها كثير. فرغم ثبوت ضرر التدخين -مثلاً- فإنه وقع فيه خلاف فقهي قوي (بعيدًا عن الفتاوى المعاصرة)؛ وذلك أن الخلاف الفقهي فيه إنما يرجع إلى اعتبارات دينية فقهية لا طبية محضة، فكون زيد أو عمرو يتضرر به لا يجعله في مرتبة الحرام الديني؛ خصوصًا أن ضرره نتاج تفاعلات مختلفة ولا تحدث الأثر نفسه في كل فرد بالطريقة نفسها وفي المدى الزمني نفسه، ولكن من يتضرر به عليه أن يتحمل تبعة ذلك من صحته وماله والمدى العمري الذي سيعيشه (الإضرار بالآخرين عن طريق التدخين في الأماكن العامة له اعتبار آخر). أما ما وراء ذلك من الإثم الأخروي فهو خارج هذه الاعتبارات الطبية، والإثم والأجر الأخرويان لا ينبنيان على اعتبارات طبية أو علمية محضة.
إن تعظيم مساحتي الواجب والحرام لتشمل العادي والتعبدي معًا، والدنيوي والأخروي معًا، وتغطي على مساحة تفاوت الناس في طلب الكمال ودرجات التخلق، وتخنق المباح الذي مساحته واسعة في الشريعة، كل ذلك أدى إلى تشوهات كثيرة وتضييق وحرج على الناس والتباس في التصورات والمفاهيم الدينية.
المستوى الثاني: المعايير الأخلاقية لتقويم عمليات التغيير
هذه المعايير يجب أن تتجاوز عمومية النفع والضر بناء على ما سبق، ومن هنا اعتبر بعض المفسرين والفقهاء أن كل تغيير نافع مباحٌ، أي أنه لا يرتقي فوق درجة المباح المتروكة لاختيار الفرد يرجح فيها بناء على حظوظ نفسه وضميره. وقد اجتهدت في دراسة مطولة لي عن “التعديل الجيني” أن أضع معايير أخلاقية للتغيير أو ما يفصل بين ما هو “طبيعي” (normal) و”غير طبيعي” (abnormal)، وأرجعت ذلك إلى أن تغيير الطبيعة غير الأخلاقي هو الذي يكون بالخروج بها عن خصائصها وسننها البيولوجية الطبيعية المستقرة في جنسها، وهو -بهذا- لا يشمل التغيير الجزئي الذي يعيد العضو أو الجسد إلى طبيعته. وطبيعتُه تتمثل في أمرين: الشكل (العين أو الصورة) والوظيفة (الوصف أو الفعالية) التي خُلق لها أو اختُصَّت به، وأي خروج بالعضو عن صورته ووظيفته المقدّرة له في جنسه هو خروج عن الطبيعة الإنسانية، ومن ثم فهو تغيير لخلق الله وإخلال بنظامه.
وعلى هذا، فإن التدخل الجيني التحسيني إن غيّر الوظيفة أو الشكل المستقرين في (الجنس البشري) فهو غيرُ مبرر أخلاقيًّا؛ لأمرين:
- أولهما: أنه تدخل سلبي يستند إلى اختيارات وتفضيلات فردية وثقافية تمس النوع الإنساني وتوازنه (الهندسة الطبيعية)؛ فقرار التغيير لا يستند إلى مرجعية عقلية أو شرعية في تحديد ما هو أحسن أو أقبح، وإنما إلى أهواء شخصية وتحيزات ثقافية أو اجتماعية، كما أنه يستلزم -بالضرورة- حكمًا سلبيا تجاه صيغة طبيعية محددة من خلْق الله يرغب عنها إلى صيغة أخرى يرغب فيها.
- الثاني: أن التحسين يهدد المفهوم المستقر لما هو طبيعي (natural) الذي يتم الرجوع إليه والقياس عليه، وهذا الطبيعي لا يختلف ثقافيا أو فرديا، رغم التنوع الكبير الموجود بين البشر.
والمقصود من هذا كله المحافظة على معيار مستقر يُحتكم إليه في النوع البشري بحيث لا يخضع إلى التجريب أو الخروج بالإنسان عن طبيعته المستقرة في النوع لا في الأفراد أو المجموعات الضيقة أو الاستثناءات الخارجة عما هو مستقر في الجنس، مثل العمى والصمم والصلع وغيرها.
وهنا يصبح مفهوم العلاج في التدخل الجيني هو إعادة ما هو خارج عن الطبيعي إلى طبيعته المفترضة، ومفهوم الوقاية هو توقي ما سيؤدي إلى الخروج عما هو طبيعي مستقر في مثله. وبناء على هذا التحديد لمفهوم التدخل التحسيني (ما غيّر الوظيفة أو الشكل المستقر في جنسه) ينتج لدينا نوعان من التدخل:
- تدخل يرتبط بالوظيفة (وظائف الأعضاء)، وبعضه يخرج بالعضو عن وظيفته، وبعضه إنما يحققها، ولكن تحقيق الوظيفة قد يكون بإعادة أصلها (عمى العين مثلاً)، أو بتحسينها (تحقيق كمال النظر والرؤية) حتى يبلغ بها أعلى مراتبها المعتبرة في جنس العضو.
- تدخل يتصل بالشكل (شكل الأعضاء أو الإنسان)، وبعضه يخرج به عن الشكل المستقر في جنسه، وبعضه مرتبط بالتفضيلات التي يسمح بها ما هو مألوف في جنسه مما يحقق مصالح معتبرة شرعًا، ولا يخل بالمعيار المستقر في جنسه.
المستوى الثالث: سياسات الهوية التي تحيل إلى أخلاقيات تنظيمية خاصة
ثمة من عمليات التحليل والتحريم ما يتصل بالشأن التنظيمي والضبط السلوكي لجماعات وتنظيمات فرعية، وهو جزء من سياسات الهوية المعنية بتحصيل مطالب الانتماء والولاء للجماعة أو التنظيم.
وهي -في الغالب- أكثر ما تنشغل بالشعائريات والمظهر الخارجي، لأنها علامات مميزة للجماعة بوصفها معبرة عن هوية متميزة، وعن شكل محدد من التدين. فالشكل هنا رسالة تواصلية قابلة للتخاطب في الفضاء العام، وتعبر عن الموقع الاجتماعي والقوة الرمزية والاجتماعية والسياسية للجماعة، خصوصًا إذا كانت تمارس السياسة. فعلى سبيل المثال، قد يعبر الحجاب نفسه -الذي هو سمة دينية عامة- عن هوية فرعية عبر إدخال تعديلات عليه في اللون والشكل ليؤكد الانتماء إلى جماعة معينة (القبيسيات مثلا). وفي المقابل، قد تتخذ جماعات أيديولوجية أخرى شكليات ظاهرة مناهضة تميزها عن التوجهات الدينية، وغالبًا ما تتمثل هذه الرموز شكل العلاقة بالنساء، والشرب، وغير ذلك، للتعبير عن تقدميتها، وهي كلها أشكال تواصلية مختلفة في الفضاء العام، وتعكس صراع الأيديولوجيات.
وثمة عوامل تلعب دورًا في سياسات الهوية منها:
- الصراعات الأيديولوجية والتنافسية بين الأطراف، مما يجعل بعضهم يقترب أو يزايد على بعض خصوصا في الدائرة الإسلامية: “تسلف” بعض الإخوان مثلاً، أو “تلبرل” بعضهم، وذلك بحسب دوائر الحركة والتنافس في مساحتي التدين والعمل السياسي.
- غلبة الثقافات والتحيزات الشخصية والثقافة المحلية، فكيف لمفتٍ موريتاني -مثلا- أن يحدد السلوك الأمثل لسائل لبناني أو شخص يعيش في أوروبا مثلاً في مسائل تتصل بالمظهر والأعراف واللباس، فالشكل من أخص خصائص المسائل الثقافية والاجتماعية والتفضيلات الشخصية، التي تتسم بتعددية هائلة باختلاف المجتمعات والجغرافيا والأزمنة، بل والأجيال العمرية.
- المساحة الاجتماعية والثقافية هي المساحة الأجلى التي كان عليها أن توضح نفوذ الإسلاميين في المجتمع وسيطرة مشروعهم. وفي المقابل، كانت هي الميدان الأبرز لخصومهم ممن ضخموا من مسائل الحريات الفردية، مع عجزهم عن غيرها من الحريات أو مع ثانوية اهتمامهم بالحريات السياسية لفترة من الزمن (كما هو الحال مع الخطاب القديم لليسار مثلا).
إن الفكر التنظيمي يَضيق بالمساحات الفردية، ومن ثم يحرص على عمليات الضبط والتحكم عبر وضع قانون عام يحكم الجميع، وهو من مواريث غلبة التسييس والنزوع القانوني لدى الإسلاميين المُحْدَثين، وهو ما يسم الجماعات الإسلامية المختلفة، سواء تلك التي تتوسل بالعنف (كتنظيم الدولة) أم التي تتوسل بالعمل السياسي (كالإخوان المسلمين)، وذلك لأنها حركات حديثة تنزع نحو الضبط والسيطرة والتحكم، وهي من المفاهيم الحديثة للسلطة، والضبط وسيلته المفضلة التحليل والتحريم.
المصدر: الجزيرة نت