أصحاب و تلامذة الأستاذ الريسوني

حتمية إعادة ربط العملات الورقية بالقاعدة الذهبية.. “رؤية تأصيلية شرعية”

محمد بن سالم آل دهشل اليافعي

مقدمة 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. ولقد أنزل الله تعالى رسالة الإسلام لتكون للعالمين نذيرا، وجعل كتابه وسنة نبيه  r حجة على العالمين وسراجا لهم منيرا، ودليلاً إلى الطريق القويم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا رسالات هداية بعد الإسلام، ولا أنبياء بعد سيد الأنامr، وما بقي للبشرية إلا إعمال العقل على هدي ما جاء به الإسلام، فلا نجاة ولا فلاح لمن خالف أو تجاهل نور آخر الرسالات: فالإسلام منهج حياة متكامل، ينظم حياة الإنسان ويرشد لما فيه سعادته في دنياه وآخرته.. ونظرا لما للجانب الاقتصادي من أهمية في استقرار المجتمع، فقد أولاه الإسلام أهمية بالغة، ابتداء بالأسرة، حيث قسم لها الميراث محكم التنزيل، وانتهاء بما يوازن  بين الأغنياء والفقراء، من خلال فريضة الزكاة على المسلمين، والجزية على غيرهم، بالعدل، وجعله منهجا قرآنيا، قال تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ([2]، وقال تعالى )كونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ([3] وقال تعالى )وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ([4]. وأمر المسلم أن يكون عادلاً ولو في حق ذي قربى؛ قال تعالى )وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى([5]، وحرم الظلم وبخس الناس أشيائهم، قال تعالى)وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ([6]، فأي بخس أكثر من أن يصبح المرء وقد أصبحت أوراقه النقدية – التي تمثل كده وعرقه وثروته – لا تساوي أي شيء ، فأي ظلم أكبر من هذا!! .

وقد ذكر الله تعالى المال بشكل عام في آيات كثيرة في القرآن الكريم، فذكر الذهب والفضة في آيات عديدة، بين فيها ما فطرت عليه النفس البشرية من حب لهما في حياتها الدنيا، قال تعالى )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ([7]، وقد ذم الله تعالى من يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونهما في سبيل الله بقوله: )وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[8] وقد أكد القرآن الكريم على ثمنية الذهب، حيث جعله قيمة للفداء؛ قال تعالى:  )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ..([9] فعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((…. يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له : يا ابن آدم ، كيف وجدت منزلك ؟ فيقول: يا رب، شر منزل، فيقول: تفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول: أي رب، نعم. فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار))[10]، والفداء هو ما يقدم من مال ونحوه لتخليص المفدي،[11]وهو عوض الأسير[12]. وهذه أدلة ربانية على العلاقة الوثيقة بين الأعيان- زينة الحياة الدنيا وملذاتها كما ذكرت بالآية من النساء والبنين والخيل والأنعام والحرث- وبين الأثمان (النقد) كما ذكر بالآية “القناطير المقنطرة من الذهب والفضة”، فجعل الله تعالى الذهب والفضة ليس وسيلة للتبادل فقط وإنما مخزنا للقيمة، وباعثا للاستقرار الاقتصادي والنفسي.

 وقد استمرت البشرية بأممها المختلفة، وفي عصورها الفارطة على فطرتها السليمة، فجعلت من الذهب مقياسا لقيمة ثرواتها، وما تنتجه بجهد أبنائها وكدهم وعرقهم، وذلك لما للذهب من طبيعة معدنية تعطيه صفة الأبدية، والاستقرار النسبي، قياسا على ما سواه. ولكن القوى المتجبرة عندما كادت تفقد سيطرتها على المستضعفين في الأرض، بسبب آثار الحرب العالمية الأولى، وما تكبدته من خسائر، وعجزها عن تغطية هذه الخسائر من الذهب، تمردت وطغت وقررت فك ربط العملات بالذهب، وكأنها تقول سنحول عملتنا إلى ذهب، وما على الدول التابعة إلا أن تربط عملاتها بذهبنا الجديد، الذي نخلقه بمطابعنا، وهم بذلك كأنهم استعبدوا شعوبا وأمما ودولا كثيرة، بعدما كانوا يستعبدون أفرادا فقط.

أما قولهم أن الذهب لا يكفي ليكون أداة لربط العملات الورقية، فهذه نظرية باطلة، كنظرية مالثوس Malthus الذي اتهم الطبيعة بالبخل، وأنها سبب للمشكلة الاقتصادية. وقد أكدت نظرية مالثوس في السكان هذا التوصيف حيث يميل السكان- كما يعتقد مالثوس– إلى الزيادة بحسب متوالية هندسية، (1، 2، 4، 8، 16.. إلخ)، بينما يميل الغذاء إلى الزيادة بحسب متوالية حسابية، (1، 2، 3، 4، 5…إلخ)، وإذاً فلا بُد أن تحدث الفجوة بين السكان والموارد الغذائية، وسوف تزداد هذه الفجوة اتساعاً مع الزمن، فتتناقص الأقوات وتتزايد الأنفس. والحل عند مالثوس يتمثل في العزوف عن الزواج أو تأجيله بهدف الحد من الزيادة السكانية، وهذه النظريات نظريات شيطانية تدعوا إلى نشر الفساد الأخلاقي والاقتصادي، وأن منبعها الكفر بالله تعالى، من خلال اتهام الطبيعة بالبخل، وكأن الطبيعة لا رب لها.

أما دحض هذا القول فيتم من خلال كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى )وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً([13]، وقال تعالى )إنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ([14]، وقال تعالى )وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً([15]وقال تعالى )الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(.[16] ففي هذه الآيات دليل واضح من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير، والتقدير بمعنى: “الخلق” ومقادير المخلوقات بمعنى “الموازين” التي توزن به؛ وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء بقدر، قال تعالى )وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً[17] فقوله )فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً(هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشاءها، فهذه مقادير المخلوقات من الحياة والموت، ومن الحجم والطول والعرض، وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا من “التقدير” لا من “القدر”، والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان، وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى وكتبه وقضاه وقدره، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكتبه وقدره وقضاه، وأنه لا يخرج عن هذا الأمر شيء، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق، الحكيم، البارئ، المصور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى[18]: فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: ((قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء))[19].  

وإنني لموقن حين أحاول تناول موضوع دراستي هنا بشكل علمي ممنهج أنني أرتقي مرتقى صعبا، لكن السعي إلى إبراء الذمة وإرواء ظمأ معرفي خضت لجته وحاولت سبر غوره: فقمت إجرائيا بتقسيم دراستي هذه إلى مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة.. وقد عُنيت المقدمة بتحديد مشكلة البحث وفرضياته وأهدافه. أما المبحث الأول فتناول تعريف النقود ووظائفها؛ وفيه مطلبان: الأول، تعريف النقود؛ والثاني، وظائف النقود.  بينما تناول المبحث الثاني أدلة مشروعية ثمنية “الذهب” بالخِلقة؛ وفيه ثلاثة مطالب: الأدلة من القرآن الكريم؛ الأدلة من السنة النبوية؛ أقوال علماء المسلمين. وقد جاء المبحث الثالث ليتناول القواعد النقدية الذهبية في العصر الحديث، وفيه ثلاثة مطالب: النقود الذهبية في بداية القرن التاسع عشر؛ قاعدة الذهب بعد الحرب العالمية الأولى؛ اتفاقية بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية. وأخيراً تناول المبحث الرابع الآثار السلبية لإلغاء “قاعدة الصرف بالذهب”، والحلول البديلة المقترحة: وفيه مطلبان: الآثار السلبية للقرار الأمريكي بفك ارتباط الدولار بالذهب؛ الحلول المقترحة من منظور اقتصادي إسلامي .

أهمية البحث:  إيمانا مني كمسلم بأن في الإسلام حل لمشاكل البشر السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ونظراً لتدهور قيمة العملات الورقية، بعد فك ربطها بالذهب، عام 1971م، ذلك الإجراء الذي تسبب في فقر للأفراد بل وللدول خاصة الدول التابعة، والتي كانت عملاتها مربوطة بعملات دول أخرى؛ ونظرا أيضا لما للفقر من خطورة على الفرد والمجتمع باعتباره من أخطر الآفات على العقيدة الدينية وخاصة الفقر المدقع الذي يقابله ويجاوره ثراء فاحش، والذي يكون حينها الفقر مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلهي للكون. فالفقر خطر على أمن المجتمع وسلامته واستقرار أوضاعه[20]. لذلك يقترح هذا البحث ضرورة العودة لربط العملات الورقية بقاعدة الصرف بالذهب– حسب اتفاقية بريتون وودز عام 1944م- بشرط أن تعادل بالذهب جميع عملات الدول المشاركة بصندوق النقد الدولي في نفس الوقت، وألا يقتصر التعادل بالذهب على عملة واحدة، كما حدث في تلك الاتفاقية التي سمحت للدولار أن يكون العملة الوحيدة المعادلة بالذهب، وذلك ليعود الاستقرار النسبي لقيمة العملات الورقية، ويتحقق العدل بين الناس، بوقف نزف ثروات وجهد الأمم ومدخراتها[21].

مشكلة البحث:  إن المشكلة التي يعالجها البحث هي عجز العملة التقديرية (الورقية) عن القيام بالدور الذي قامت به العملة الحقيقية (الذهب والفضة) التي عليها أجمعت البشرية، ورضيتها لتكون أثماناً لأموالها وجهودها، وذلك أن العملة الورقية (المصنوعة) تحدد كمياتها وفق الأهواء البشرية، نتيجة لأسباب سياسية داخلية وخارجية، تؤدي إلى زيادتها فتحدث الأزمات التضخمية؛ بعكس النقود الحقيقية (الخِلقية) فهي صنعة ربانية، لا أحد يستطيع تقليدها من البشر، وتمتاز بالندرة النسبية.

محددات الدراسة: تناولت في بحثي هذا أهم الأدلة على أن الذهب والفضة هي النقود الحقيقية، وكذلك ذكرت أهم أسباب فك ارتباط العملة الورقية بالذهب، والآثار الاقتصادية التي ترتبت على هذا الانفصال، وبينت ضرورة العودة لربط العملات الورقية بالذهب، لما سيترتب عليه من استقرار اقتصادي وسياسي واجتماعي.

فرضية الدراسة وأهدافها: انطلق بحثي من فرضية أساس هي أن الله تعالى كرم بني آدم وسخر لهم الكون بما فيه، وأنزل الأحكام التي تضمن لهم العدل والمساواة والحرية، ولم يجعل مصيرهم مرهونا بأي مخلوق مثلهم.  وتفرع عن هذه الفرضية الأساس فرضيتان أولاهما أن كفاءة النقود التقديرية (الورقية) مرتبطة بمدى تمثيلها للنقود الحقيقية (الذهب والفضة)، وذلك لما للنقود الحقيقية من صفة خِلقية جبلت البشرية على القبول بها كأثمان على مر العصور؛  أما الفرضية الفرعية الأخرى فترى ضرورة الرجوع إلى قاعدة الصرف بالذهب، بشرط أن تعادل بالذهب جميع عملات الدول الممثلة بصندوق النقد الدولي، وأن لا يقتصر تعادل عملات محددة فقط مثل الدولار الأمريكي، لأن فك ارتباط العملة الورقية بالذهب كان قرارا أمريكياً، مخالفاً للاتفاقيات الدولية، واتخذ لأهداف سياسية واقتصادية تخدم الولايات المتحدة فقط.

لذا تدعو الدراسة  إلى إعادة استقرار النقود التقديرية (الورقية) بربطها بالنقود الحقيقية (الذهب والفضة)؛ وإلى المحافظة على موارد أمة الإسلام؛ وأن تنال الأمة الاستقلال الاقتصادي الذي يقوي استقلالها السياسي؛ وإلى التحرر من التبعية للغرب بربط العملات الوطنية بالذهب المادة الربانية التي لا يستطيع الإنسان صنعها والتي جبلت الفطرة السليمة على قبولها كأثمان على مر العصور.

الدراسات السابقة:  أجريت دراسات وبحوث مقاربة في محتواها لهذا البحث، لكنه اتخذ منها مسافة لتبقى له خصوصيته بشأن رؤيته لعلاج الموضوع عبر استخلاص أهم نتائجها والبناء على ذلك للتحرر من التبعية النقدية تحررا ناجزاً.. ومن أهم الدراسات السابقة ذات الصلة بالموضوع:

1- نحو تكامل نقدي إسلامي للباحث كمال توفيق حطاب، وهي رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي، جامعة أم القرى، المملكة عربية السعودية، 1986م. وقد خلصت الدراسة إلى أن معظم الدولة الإسلامية تعاني من تبعية نقدية للدول الغربية، تحول دون استفادة الدول الإسلامية من الفوائض المالية التي تحققها بعضها؛ كما ينتج عن ارتباط عملات الدول الإسلامية بالعملات الأجنبية، تعرض الفوائض المالية والاحتياطيات التي تمتلكها الدول الإسلامية إلى خسائر فادحة نتيجة تقلب العملات الأجنبية.

2- ضوابط استقرار قيمة العملة من منظور إسلامي، وهي أيضاً للأستاذ كمال توفيق حطاب (د.ت.).  وقد خلصت الدراسة إلى أنه على الحكومات أن تحكم بنسبة مئوية تضاف إلى القرض، ولكن بشروط منها: أن يكون ذلك في حالة رفاهية الدولة وغناها، وأن تكون هذه النسبة عينية لا نقدية، بمعنى أن تكون على شكل سلعة أو أراض.

3- الاقتصاد النقدي (النظرية النقدية – المؤسسات النقدية)، د. مجدي محمود شهاب، الدار الجامعية، بيروت، لبنان، 1990م. وقد خلصت الدراسة إلى القول أن العملة ذات القيمة الموجودة فيها (كالعملة الذهبية والفضية) هي أكثر أنواع النقود قبولا، وتليها العملات التي تتمتع بثقة الجمهور أكثر من غيرها لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية.

4- النقود الإسلامية كما ينبغي أن تكون، أ.د عبد الجبار حمد السبهاني، مجلة جامعة الملك عبد العزيز، جدة، المملكة العربية السعودية،1998م. وخلص الباحث إلى أن تحقيق الأحكام والمقاصد الشرعية المتعلقة بالنقود لا تتطلب التشبث بصورها المادية التي كانت سائدة في عهد التشريع (أي الذهب والفضة)، ويرى أيضا أن عملية إصدار النقود أو توليدها هي من وظائف ولي الأمر وواجباته الشرعية التي لا ينبغي له أن يعطيها لجهة غير حكومية تبتغي الربح كالمصارف التجارية.

 5- النظرية والسياسات النقدية، د. مصطفى رشدي، دار المطبوعات الجامعية، ط2، الإسكندرية، مصر، 1977م. وقد خلصت الدراسة إلى أن الذهب كسلعة يتمتع بثبات نسبي في القيمة بالمقارنة بالسلع الأخرى، وهو يتمتع بتلك الحقيقة على أساس ندرته الطبيعية، كما أن الحصول عليه يتجاوز الإدارة المنفردة للسلطات العامة في الاقتصاد القومي.

6- النقود والمصارف والنظرية النقدية، أ.د. ناظم محمد نوري الشمري، دار زهران للطباعة والنشر، عمان، الأردن،2007م. وقد خلصت الدراسة إلى أن العلاقة تكاملية بين الجانب العيني (المادي) والجانب النقدي وهذا ما يؤكد أهمية النقود في الحياة الاقتصادية من خلال تأثيرها في الجانب العيني مما ينفي الادعاء بحيادية النقود في سلوكها داخل النظام الاقتصادي.

7- النظام النقدي الدولي وأزمة الدول النامية، حسن النجفي، إياد للطباعة الفنية، بغداد، العراق،1988م. وخلصت الدراسة إلى أن إلغاء قاعدة الصرف بالذهب كان قراراً أمريكياً، لوضع الدولار مكان الذهب، والتخلص من تأثير الذهب الروسي والجنوب أفريقي على الدولار والسياسة الأمريكية.

ما تضيفه هذه الدراسة إلى نتائج الدراسات السابقة: فهو محاولتها إيجاد حلول عملية، لمشكلة فقدان العملة الورقية لقيمتها بشكل كبير ومتسارع، وذلك بتقديم مقترح يعيد الاستقرار النسبي لهذه العملات، من خلال إعادة ربطها بالذهب، لتعود للأمة حريتها من خلال فك قيد عملتها الذي يجرها إلى المنحدر، قبل أن تصل إلى الهاوية.

منهج الدراسة: اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، فقد وقفت على أسباب فك ربط العملة بالذهب، وذلك بدراسة القواعد النقدية، والوقوف على ما يميز أو يعيب كل قاعدة.

[1] تعريف النقود ووظائفها

[1/أ] تعريف النقود: جاء في لسان لعرب: النقْدُ: خلافُا للنَّسيئة. والنقْد ُوالتَّنْقادُ: تمييزُ الدراهِم وإِخراجُ الزَّيْفِ منها؛ ونَقَدْتُه الدراهِمَ ونقَدْتُ له الدراهم أَي أَعطيته فانتَقَدَها أَي قَبَضَها.[22]  وجاء في تاج العروس: “النَّقْدُ: خِلافُ النَّسيئَةِ، والنقد تمييزُ الدراهِمِ وإخراج الزيف منها…. والنقد إعطاء النقد[23]. وتعريف النقود في الاصطلاح له مدخلان: الأول تعريفات علماء المسلمين الأوائل من مفكرين وفقهاء، والثاني تعريفات علماء الاقتصاد المعاصر.

تعريف النقود عند علماء المسلمين: يعرف النقد عند معظم علماء المسلمين بالثمن الذي يكون بديلا للمبيع، وكذلك خصصوا مصطلح النقد على الذهب والفضة.. وقد ورد في الموسوعة الفقهية: “وأما في الاصطلاح فالثمن، ما يكون بدلاً للمبيع ويتعين في الذمة، تطلق الأثمان أيضا على الدراهم والدنانير”[24].  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإن المقصود من الأثمان أن تكون معياراً للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بها بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مفهوم الثمنية، فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل.”[25]  ويقول الأمام الغزالي عن الدنانير والدراهم: “خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل. ولحكمة أخرى وهي التوصل بهما إلى سائر الأشياء، لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء…. والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها، وتحكي كل لون، فكذلك النقد لا غرض فيه، وهو وسيلة إلى كل غرض[26].

ويقول ابن خلدون: “إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة”[27].

ويقول المقريزي: “إن النقود التي تكون أثماناً للمبيعات وقيما للأعمال، إنما هي الذهب والفضة فقط، لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدا في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما[28]“.

ولا يخفى أن حياة المسلمين الاقتصادية لا ترهن بوجود الأثمان الحقيقية (الذهب والفضة) وإنما يجوز لهم شرعاً أن يتخذوا من الأثمان ما ينوب عنهما، فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: “هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل لكثرة ما غش منها، فقيل له إذن تنعدم الإبل، فامتنع عن ذلك”[29]. بل إن ابن حزم أنكر على من اقتصر الثمنية على الذهب والفضة فقال: ” …. ولا ندري من أين وقع الاقتصار بالتثمين على الذهب والفضة، ولا نص في ذلك، ولا قول لأحد من أهل الإسلام وهذا خطأ في غاية الفحش[30]“.. والنقود الورقية إنما نشأت للنيابة عن النقدين الأصليين بالخلقة (الذهب والفضة).

تعريف النقود عند علماء الاقتصاد: تعرف النقود في المفهوم الاقتصادي على نوعين: (حقيقية وتقديرية). فالنقود الحقيقية Real Money هي التي لها وجود مادي مثل الليرة العثمانية (المجيدية) والتي كانت متداولة في سوريا والعراق قبل الحرب العالمية الأولى، وكذلك الجنيه الإنكليزي الذهبي والروبية الهندية الفضية. [31]

أما النقود التقديرية أو التعدادية Accourt Money فهي التي ليس لها وجود مادي وإنما تستعمل كوحدة للتحاسب كالدينار في الدول العربية، والدولار الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية.. وقد غلب على تعريفات الاقتصاديين للنقود النظر إلى وظائفها وصفاتها ولم يتعرضوا لماهيتها، ومن هذه التعريفات، تعريف روبرسون بأنها “كل ما هو مقبول عموما في الدفع مقابل السلع أو الإبراء من جميع التزامات الأعمال”[32]؛ كما عرفها هارت بأنها “شيء يستطيع مالكه بواسطته دفع مبلغ معين من الديون بكل توكيد ودون تأخير”[33].  وقد عرفها النجفي[34] بأنها “أي شيء جرى العرف أو القانون على استعماله في دفع ثمن السلع والخدمات أو تسوية الديون، بشرط أن يكون ذلك الشيء مقبولا قبولا عاماً لدى الأفراد[35]“.

  ومن الملاحظ أن التعريفات ركزت على وظائف النقود وتعارف الناس على هذه الوظائف، وعلى ذلك لخصت وظائف النقود وجمعت بالتعريف التالي: “هي أي شيء يستخدم عادة كوسيط للتبادل وكمعيار للقيم ويلقى قبولا عاما من جانب الأفراد”[36]. وأقترح إضافة هذا التعريف الذي يجمع بين ماهية النقود الحقيقية والنقود التقديرية ويبين ماهيتها فأقول: “النقود هي الذهب والفضة أو ما ينوب عنهما من النقود الورقية وما في حكمها، بضمان من البنوك المركزية للدول”.

[1/ب] وظائف النقود: للنقود عدة وظائف منها (أ) النقود كوسيط للتبادل: إن الوظيفة الأساسية الأولى للنقود تتمثل في استخدامها أداة أو وسيطاً في تبادل مختلف أنواع السلع والخدمات[37]، أي أن النقود هي واسطة لا تطلب لحد ذاتها وإنما لما يمكن أن تجلبه، وهي عبارة عن قوة شرائية لا تقبل لحد ذاتها وإنما لقدرتها على شراء السلع والخدمات والتوسط بين المتبادلين؛ يقول ابن تيمية: والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثماناً، بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها نفسها[38].

(ب) النقود كمقياس للقيمة: تتضح أهمية النقود كمقياس للقيمة من خلال الصعوبات التي واجهت التعامل بأسلوب المقايضة إذ لا تتوافر وحدة مشتركة يعتمد عليها كمعيار لقياس قيم السلع والخدمات المختلفة، يقول الإمام الغزالي: “من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبها قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث أنه كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته. وقد يعجز عما يحتاج إليه، ويملك ما يستغنى عنه، كمن يملك زعفرانا مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه، ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا ينزل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل، حتى يقال يعطى مثله في الوزن أو الصورة…. فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها، يحكم فيها بحكم عدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته، حتى إذا تقررت المنازل ورتبت الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار، وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة، فهما من حيث أنهما مساويان بشيء واحد إذاً متساويان، وإنما أمكن التعديل بالنقدين[39].

(ج) النقود كمستودع للقيمة : بمعنى أن القيمة الموجودة في النقود تؤهلها للمبادلة الآجلة أي أن مالك النقود بإمكانه الاحتفاظ بها إلى حين الوقت المناسب لإنفاقها، وهذا الاحتفاظ بالنقود يمثل اختزانا للقوة الشرائية الحاضرة والمستقبلية أي أن الشخص يستطيع أن يستخدمها للحصول على حاجته المستقبلية من السلع والخدمات أو في الوفاء بالتزاماته الآجلة، وهو ما أشار إليه تعريف الإمام الغزالي السابق ذكره والمبين أنه خلقهما الله تعالى  لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، وللتوصل بهما إلى “سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا ثوبا….. والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها … فكذلك النقد لا غرض فيه، وهو وسيلة إلى كل غرض”[40]. أي أنه يمكنهم الاحتفاظ بالنقود لآجال طويلة ومتوسطة حسب ما تمليه الضرورة، وهي بذلك تربط قيمة السلع بالزمن ولذلك يقول كينز: “إن النقود هي التي تصل الحاضر بالمستقبل لكونها أداة للادخار[41]“.

[2] أدلة مشروعية ثمنية الذهب بالخلقة

[2/أ] الأدلة من القرآن الكريم:

1-قال تعالى:  )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ ۗ..([42] فقد أكد القرآن الكريم على ثمنية الذهب، حيث جعله قيمة للفداء، والفداء هو ما يقدم من مال ونحوه لتخليص المفدي،[43]وهو عوض الأسير[44]. وذكره عز وجل للذهب في هذه الآية يدل بما لا يدع مجالاً للشك بأن مادة الثمنية المعتبرة هي الذهب، وذلك لأن سياق الآية يذكر ثمن الافتداء من عذاب جهنم، وذلك بأعز ما يملك الإنسان من ثمن، ولو خلق الله تعالى ثمناً غيره ما خصه بالذكر، ومعنى ملء الأرض ذهباً يعني ثمناً، أي أنه يزيد على قيمة الأرض نفسها، فيكون قيمة النجاة من عذاب جهنم ودخول الجنة، ولو لم يذكر كلمة “ملء” وذكر بدلا منها “ما” لقل الثمن فقد يكون ما في الأرض من ذهب يساوي قيمة ما فيها من أموال ومنافع أخرى.

2/قوله تعالى:) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ([45]، فهذا دليل على أن الذهب والفضة أثمان لا ينتفع بها بذاتها وإنما بما يتحصل بها من أعيان ومنافع مثل الأسلحة وعدة الجهاد، حيث لا يتم الجهاد بالذهب بعينه وإنما بما يشترى به من سلاح، ولا ينتفع الفقير والمسكين من الذهب بذاته وإنما بما يشتري به من مأكل أو ملبس أو مركب.

3/قوله تعالى: )وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(.[46] والشاهد بالآية الكريمة ذكر الدينار والقنطار فهو توجيه رباني أن الأثمان تكون بالنقدين، وإقرار لما كان عليه الناس في عهد النبوة من تعامل الناس بالدينار الذهبي، بعد وضع الأحكام والضوابط التي تنظم التعامل بالنقدين.

[2/ب] الأدلة من السنة النبوية: 1/عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((….. ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أيا رب، شر منزل. فيقول له: أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول: أي رب، نعم. فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار)) [47]. ‏وهذا الحديث يؤكد ما جاء في الآية السابقة وهو ثمن الافتداء من عذاب جهنم بأغلى ثمن يمكن أن يدفع لذلك ولكن هيهات، فقد كان المطلوب منه أقل من ذلك وأيسر في حياته الدنيا ولم يفعل.

2/عن‏ ‏أم سلمة زوج النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم، ‏أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال:”((‏الذي يشرب في آنية الفضة إنما ‏ ‏يجرجر ‏ ‏في بطنه نار جهنم”، وفي رواية ” من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم)).[48] وهذا يدل على أن الذهب والفضة لا يجوز الانتفاع بأعيانهما واتخاذهما أوان، لأنهما أثمان، وخلقتا لذلك في هذه الدنيا، وتختلف وظيفتهما في الآخرة فهما أواني أهل الجنة، لعدم الحاجة إلى الأثمان فيها، فثمن الجنة وما فيها قد قدمه الإنسان في حياته الدنيا؛ لقوله تعالى: ) إِنَّ اللَّهَ اشترى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وذلك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم( ُ[49].

3/عن ‏ ‏أبي هريرة ‏رضي الله عنه أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏قال: “‏ ‏لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي ‏ ‏أنجو”.[50] وهذا يدل على أبدية الثمنية للذهب حتى قيام الساعة، فما يقتتل كل الناس على شيء واحد من متاع الدنيا، فالناس لا يتفقون على حب صنف واحد من الأعيان فقط، لدرجة أن يقتتل جميعهم عليه، فقد يفضله شخص ويزهد به آخر فيكف يقتتل الناس عليه؟ ولكن الذهب لا يطلب لذاته، وإنما هو ثمن لكل شيء، لأنه من ملكه كأنه ملك كل شيء، كما ذكر الغزالي، فهو وسيلة إلى كل غرض[51].

[2/ج] أقوال علماء المسلمين:

  1. قال الإمام الغزالي: وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة، فقد كفر نعمة الله، وكان أسوأ ممن كنز، لأن مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمُكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس، والحبس أهون منه، وذلك أن الخزف والرصاص والنحاس، تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات أن تتبدد. وإن الأواني لحفظ المائعات،….. فمن لمن ينكشف له هذا، انكشف له بالرحمة الإلهية وقيل له ((من شرب في آنية ذهب أو فضة فكأنما يجر في بطنه نار جهنم)) متفق عليه، ولكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلق لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض من عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظُلم….. فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما، وموقفهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام، كما قال النحويون: إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره، وكموقع المرآة من الألوان، فإما من معه نقد، فلو جاز له أن ببيعه بالنقد، فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله، فيبقى النقد مقيداً عنده، وينزل منزلة المكنوز، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم، كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار، وهو ظلم. [52]
  2. ويقول ابن خلدون:” ثم أن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة”.[53]
  3. ويقول المقريزي: “إن النقود التي تكون أثماناً للمبيعات وقيما للأعمال، إنما هي الذهب والفضة فقط، لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدأ في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما، حتى قيل إن أول من ضرب الدينار هو آدم عيله الصلاة والسلام، وقال لا تصلح المعيشة إلا بهما، رواه الحافظ بن عساكر في تاريخ دمشق”، ومبيناً أن مصطلح النقد لا يطلق إلا على الذهب والفضة، وأن ما عداهما من أثمان لا تسمى نقدا، لأنها جعلت للمحقرات من الأعيان التي لا تساوي أقل وحدة وزن لكل من الذهب والفضة، في ذلك الزمان القديم[54]“. 
  4. ما قاله الدكتور محمد عمارة في فلسفة الإسلام في النقود؛ باستشهاده بعدم جواز التجارة بالنقود، لأن التجارة بالنقود تؤدي إلى الربا، وهو الزيادة في أحد العوضين، بقوله: ” لقد اقترن تحريم الربا في الإسلام بتحريم التجارة في النقود.. فالربا هو تجارة في النقود وسمسرة ومضاربة في النقود، تثمر ربحًا طفيليًا، لا علاقة له بالعمل أو الإنتاج.. بينما فلسفة الإسلام في النقود قائمة على أنها “بدل” عن السلع والخدمات، وليست “سلعة” يتم الاتّجار فيها، ولقد أجمع على هذه الحقيقة ـ في فلسفة الإسلام إزاء النقود ـ كل فقهاء الإسلام من جميع المذاهب.. ومن جميع الأقطار وعبر عصور تاريخ الفقه الإسلامي. واستشهد بكلام الإمام الغزالي: “وما خُلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة؛ إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما، فإنهما حَجَران (الذهب والفضة) وإنما خُلقا لتتداولهما الأيدي، فيكونا حاكمين بين الناس، وعلامة مُعرِّفة للمقادير، مُقوِّمة للمراتب”، ودعا العالم الاطّلاع على فلسفة الإسلام لهذا الفكر الإسلامي في الأموال والنقود، لأن ذلك سيفتح العقول والقلوب على عظمة الإسلام وعلى عبقرتيه التي تقدم الحلول لأزمات العالم الذي نعيش فيه الآن. [55]
  5. 5-       ورد في الموسوعة الفقهية: ” والذهب والفضة ائتمان بالخلقة، سواء كانا مضروبين نقوداً أو غير مضروبين”.[56]

[3] مراحل القواعد النقدية الذهبية في العصر الحديث

 [3/أ] النقود الذهبية في بداية القرن التاسع عشر: عرفت البشرية منذ فجر التاريخ النقود الحقيقية في صورة الذهب والفضة- نقود وسبائك الذهب والفضة- وهو ما عرف بالنظام النقدي مزدوج العملة وظلت هذه النقود تعمل في التداول حتى عام 1870م، وظلت النقود الذهبية والفضية صالحة لاستخدام الناس كعملة على مدار تاريخ البشرية الطويل، كما ظلت تمثل الأساس لتحديد أسعار جميع السلع والخدمات الأخرى، بل ظلت الذهب والفضة الأساس الذي تنسب إليه جميع العملات التي عرفها البشرية حتى وقتنا الراهن،[57]

      وبحلول عام 1900 كانت جميع الدول تقريبا قد أخذت بقاعدة الذهب، باستثناء الصين والمكسيك اللتان فضلتا قاعدة الفضة، وكان من شروط قاعدة الذهب ضمان صرف الأوراق النقدية والحصول على ما يقابل قيمتها من الذهب، وبالعكس، وقد بقيت هذه القاعدة تعمل على تنظيم العلاقات المالية والاقتصادية بين الدول وفقاً للطريقة آنفة الذكر، لغاية سنة 1914. [58]                                                 

[3/ب] أشكال قاعدة الذهب: [59] من أهم أشكال قاعدة الذهب: قاعدة المسكوكات الذهبية، وقاعدة السبائك، وقاعدة الصرف بالذهب:

قاعدة المسكوكات الذهبية:

   تعتبر صورة المسكوكات الذهبية من أقدم أشكال قاعدة الذهب (1831- 1914)، وكانت النقود تحت هذا النظام تضرب أو تسك من الذهب، بمعنى أن وحدة النقد المتداولة كانت مصنوعة من الذهب، وأن هذه الوحدة النقدية الذهبية – طبقاً لهذا النظام – تساوي ما تحتويه من الذهب، وقد كان هذا النظام يتم التعامل به داخلياً بين مواطني الدولة التي تتبع هذا النظام أو دولياً بين الدول التي تتبع هذا النظام.

   وكان نظام المسكوكات الذهبية يتسم بارتفاع درجة الأمان وسهولة التعامل فيه داخلياً وخارجياً، ولذا ظل هذا النظام معمولاً به وسائداً إلى قيام الحرب العالمية الأولى.

قاعدة السبائك الذهبية: تم تطبيق هذه القاعة خلال الفترة 1925 إلى 1931، وطبقاً لقاعدة السبائك الذهبية كانت تقوم البنوك المركزية بالاحتفاظ بالذهب في خزائنها في شكل سبائك بقيمة كبيرة، ثم تقوم هذه البنوك بإصدار (طبع) مقابل هذه السبائك أوراق بنكنوت قابلة للتحويل إلى الذهب عند الطلب ولكن للمبالغ الكبيرة (للمعاملات التجارية الكبيرة)، وبمعنى آخر فإن الورقة النقدية- النقود الورقية أو أوراق البنكنوت- كانت هي التي تتداول في الاسواق، ولكن ظل من الممكن استبدالها في أي وقت بذهب مساوٍ لقيمتها بشكل مباشر.

قاعدة الصرف بالذهب: أو قاعدة الحوالات الذهبية الأجنبية: طبقاً لقاعدة السبائك الذهبية فإن ورقة البنكنوت – والتي تمثل وحدة النقد المتداولة – كانت قابلة للتحويل إلى ذهب مباشرة، ولكن طبقاً لنظام الصرف بالذهب فإن ورقة البنكنوت أو العملة الورقية المتداولة ترتبط بإحدى العملات العالمية وهي الجنية الإسترليني أو الدولار، وهذه العملات كانت قابلة للتحويل إلى الذهب، وبمعنى آخر فإن العلاقة بين وحدة النقد والذهب تعتبر علاقة غير مباشرة تمر بوسيط هو الدولار أو الإسترليني، وظل هذا النظام سائدا إلى أن تخلت عنه الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً في عام 1971م. [60]

    فمن المعروف أنه في القرن التاسع عشر، كانت المحافظة على أسعار التعادل – المعرفة بالذهب – مضمونة بالتزام كل المصارف المركزية بتبديل عملاتها مقابل الذهب، وكذلك إبدال الذهب مقابل عملاتها، فمنذ 26 آذار / مارس/ 1803 وحتى السادس من آب/ أغسطس/ 1914 كان مصرف فرنسا يبيع الذهب مقابل الفرنكات أو يشتري الذهب بالفرنكات، وهكذا فإن كل المصارف المركزية المرتبطة بنظام الأساس الذهبي، تبيع أو تشتري الذهب بالسعر الثابت لعملاتها بالنسبة للذهب، وعلى هذا الأساس كانت المحافظة على ثبات سعر الصرف بين عملتين تتم بشكل آلي. [61]

[3/ج] اتفاقية “بريتون وودز” بعد الحرب العالمية الثانية: قامت الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة” روزفلت” بإنشاء ” فورت نوكس”[62]بجمع كميات كبيرة من الذهب، تمهيداً لاتفاقية ” بريتون وودز”، حيث زادت الولايات المتحدة بحماس احتياطياتها من الذهب، إذ كانت احتياطات الولايات المتحدة في عام 1928 تمثل 37.7% من احتياطي الذهب الرسمي في البلدان الرأسمالية، بينما ارتفعت هذه الحصة في عام 1936 إلى ما يقرب من 50%، وللمقارنة: في نفس عام 1936؛ كانت حصة فرنسا 13.2% والمملكة المتحدة 11.4%، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية؛ كانت خزائن الذهب في الدول الأوربية خالية تماماً، وارتفعت حصة الولايات المتحدة في احتياطي الذهب العالمي في العالم الرأسمالي وفقاً لتقديرات مختلفة إلى ما يقارب 75 إلى 80%.[63]

عُقد مؤتمر “بريتون وودز” في الفترة من 1 إلى 22 يوليو 1944م في الولايات المتحدة الأمريكية، في مكان يسمى “بريتون وودز”، في ولاية نيو هامبشاير، وكان الهدف من المؤتمر هو تسوية العلاقات النقدية والمالية الدولية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الاسم الرسمي للمؤتمر هو: مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي، وحضر المؤتمر 730 مندوباً من 44 دولة أعضاء في التحالف المناهض ل “هتلر”، وقد تحدد سياق المؤتمر من قبل وفدي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى، حيث قدمت مقترحات مسبقة للنظام النقدي والمالي لما بعد الحرب، وخلال المؤتمر تلاقت مواقف “وايت و كينز” في بعض النقاط، مع وجود اختلافات جوهرية بينها، حيث اقترح “كينز” إنشاء غرفة مقاصة دولية وإدخال وحدة نقدية فوق وطنية للتسويات بين الدول، تسمى “مصرفي” وأوصى برفض استخدام الذهب كأموال عالمية، بينما اقترح “وايت” استخدام الدولار الأمريكي كأموال عالمية، وقد كانت مقترحات “كنيز” تعكس مصالح بريطانيا، وكانت مقترحات “وايت” مكرسة لخدمة مصالح الولايات المتحدة، وفي النهاية فاز موقف الولايات المتحدة، ليس لأن “وايت” كان أكثر إقناعنا، ولكن بسبب القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية والتي مثلها “وايت”، فقد كان حوالي 70% من احتياطيات الذهب في العالم مخزنا في أقبية وزارة الخزانة الأمريكية. [64]

وقد حاولت بريطانيا إدخال الجنية كعملة تبادل وتحويل للعملات، لكنها لم تنجح، حيث تخلت عن ذلك لصالح الدولار تحت ضغط واشنطن “كثمن” مقابل قرض تم استلامه من الولايات المتحدة عام 1946م. [65]

 وقد أنشئ بموجبها صندوق النقد الدولي، وعمدت الاتفاقية إلى ربط عملات الدول الأعضاء في الصندوق بالذهب كمبدأ جوهري للانطلاق نحو إقامة نظام نقدي دولي جديد، واعتبرت الاتفاقية “الذهب” من المكونات الرئيسية للسيولة الدولية التي يعرفها (الصندوق) بأنها كمية الاحتياطي التي يمكن للسلطات النقدية أن تحصل عليها بصورة سريعة وغير مشروطة.. كما اشترطت اعتماد (الذهب) أساساً لتحديد أسعار تعادل العملات، كما سمحت في الوقت نفسه بأن يتم تحديد سعر التعادل بالذهب أو بالدولار الأمريكي حسب قيمته السائدة في الأول من يوليو سنة 1944 والبالغة (888671ر0) غرام من الذهب النقي لكل دولار واحد (أو ما يعادل 35 دولار للأونسة الواحدة)، كما اشترطت الاتفاقية ألا يتجاوز الحد الأعلى والحد الأدنى لاختلاف أسعار معاملات التحويل الآنية التي تقع فيما بين عملات الدول الأعضاء- ضمن حدود أراضي كل منها- أكثر من 1% من قيمتها التعادلية، وقد اعتبرت الدولة العضو مستوفية لهذا التعهد إذا كانت سلطاتها النقدية تشتري الذهب وتبيعه بحرية تامة لفرض تسوية مدفوعاتها الدولية، لكن في الواقع لم تتوفر للصندوق عند مباشرته لأعماله في سنة 1946 الشروط اللازمة لتحقيق الأغراض التي تطلعت إليها أحكام اتفاقية بريتون وودز، لذلك أخذت الدول الأعضاء في الصندوق بالبديل الآخر الذي يقوم على تحديد غير مباشر لسعر تعادل عملاتها بالذهب، وذلك بالتعبير عن هذا السعر على أساس مقدار معين من الدولار الأمريكي حسب قيمته التعادلية بالذهب في الأول من تموز سنة 1944، مستعملة الأرصدة الدولارية- في الوقت نفسه- في بنية موجوداتها الاحتياطية الدولية، وفي تدخلها في أسواق تبادل العملات للوفاء بتعهداتها.[66]

وكان باستطاعة الحائزين على الدولارات بيعها إلى الولايات المتحدة نفسها واستعادت أقيامها ذهبا وفقا للسعر المعلن للدولار الأمريكي بالذهب، إلا أن مثل ذلك لم يحدث إلا في حالات قليلة نظرا إلى الثقة القوية بالدولار من جهة، والاستفادة من سيولته في المعاملات الدولية من جهة أخرى، وعلى ضوء هذه الحقيقة، أصبح النظام النقدي الدولي- بعد الحرب العالمية الثانية ولغاية شهر أغسطس سنة 1971م، يتميز باعتماده على نظام الصرف بالذهب: أو بعبارة أخرى نظام الدولار القابل للصرف بالذهب والذي استمر الذهب بمقتضاه عنصرا مهما في تكوين الاحتياطيات النقدية الدولية؛ كما اعتبرت في الوقت نفسه أرصدة الدولار عنصرا مهما في تكوين الاحتياطيات النقدية الدولية، وعنصرا مهما آخر في تكوين هذه الاحتياطيات وزيادتها إلى المستوى الذي يتطلبه التوسع في التجارة والمبادلات الدولية، وفي مطلع سنة 1968م، عاد الطلب على الذهب المستعمل لأغراض غير نقدية على أشده، وأضحى الدولار يتعرض لنظام السعرين (السعر الرسمي والسعر الحر)، والواقع أن بوادر العجز الأمريكي قد ظهرت أثناء حرب فيتنام ما بين 1960- 1969م والتي مولتها الولايات المتحدة بمبالغ كبيرة عن طريق مطلوباتها في الخارج، وفي سنة 1970م تدهور وضع ميزان المدفوعات الأمريكي بانسياب مبالغ كبيرة من الدولارات من الولايات المتحدة إلى دول أوربا الغربية واليابان، وذلك لاختلاف السياسات النقدية والتفاوت في مستويات أسعار الفائدة.[67]

وفاة “بريتون وودز”: أعلن الرئيس الأمريكي ” ريتشارد نيكسون” في 15 أغسطس 1971م، أن وزارة الخزانة الأمريكية أوقفت مؤقتا تبادل الدولارات مقابل الذهب، كما أعلن خطة لتعزيز الدولار الأمريكي، والتي نصت على فرض رسوم إضافية بنسبة 10%.[68]

اتفاق واشنطن: عقدت مجموعة الدول العشر الغنية اجتماعاً في واشنطن، بتاريخ 18/12/1971م ووقع زعماء هذه الدول اتفاقاً بخصوص نظام النقد الدولي، أصبح يعرف باسم اتفاق واشنطن، ونصت اتفاقات واشنطن هذه على اعتماد الثعبان النقدي الذي يقوم على تثبيت أسعار العملات تجاه بعضها، وتلزم المصارف المركزية بالتدخل في الأسواق المالية دفاعاً عن أسعار عملاتها، وغاب عن نص الاتفاق أي ذكر لدور الذهب في تحديد أسعار صرف العملات، وبعد مضي بضعة أشهر عجز اتفاق واشنطن عن الصمود لأنه لم يعالج جوهر المشكلة، وإنما هرب من حلها نحو الأمام، فظهرت المضاربات على الإسترليني، وعجزت الحكومة البريطانية عن دفع ديونها لصندوق النقد الدولي، وأعلنت تعويم سعر صرف الجنيه الإسترليني في الأسواق الدولية، متجاوزة الثعبان النقدي، وفي مطلع عام 1973 وأمام عجز ميزان المدفوعات الأميركي، عادت المضاربات على الدولار في الأسواق المالية الدولية، فاضطرت الحكومة الأميركية لتخفيض سعر صرف الدولار مرة أخرى بنسبة 10% وأعلنت انسحابها من الثعبان النقدي، ثم تبعتها اليابان، فيما كونت دول السوق الأوروبية ثعبانها النقدي الخاص بها، واستمرت هذه الحال، وهي تعويم أسعار الدولار والإسترليني والين الياباني، حتى سميت تلك الفترة نظام الصرف العائم، وهي في الحقيقة ليست سوى تعبير عن الفوضى النقدية الشاملة، وغياب أي نظام نقدي دولي.[69]

[4] الآثار السلبية لإلغاء (قاعدة الصرف بالذهب) والحلول المقترحة

[4/أ] الآثار السلبية للقرار الأمريكي بفك ارتباط الدولار بالذهب:

بدأت المؤشرات لإفشال قاعدة الصرف بالذهب بجشع الولايات المتحدة وتحايلها على اتفاقية “بريتون وودز” فقد أساءت استخدام المطبعة، حيث قررت السلطات المالية الأمريكية مواصلة زيادة تدفق الدولارات الورقية في العالم دون زيادة متناسبة في احتياطياتها من الذهب، ففي منتصف الستينات شرح وزير المالية الفرنسي جوهر هذا النموذج لرئيس فرنسا الجنرال “شارل ديغول” حيث أعطى الوزير المثال التالي: “تخيل أن لوحة رسمها “رافائيل” قد عرضت للبيع في مزاد علني، وهناك معركة من أجلها بين الألماني “فريدريك” والعربي “عبدالله” والروسي “إيفان” و الأمريكي “يانكيز جون” ، حيث يعرض كل منهم بضاعته في مقابل الحصول على اللوحة: العربي يعرض النفط، والألماني يعرض المعدات، والروسي يعرض الذهب، بينما يعرض الأمريكي سعرا مضاعفا مع ابتسامة ويخرج من محفظته حزمة بمئات الدولارات .. ويشتري اللوحة، ويلتقط صورة ويغادر”.. “أين الخدعة؟” سأل الجنرال، أجاب الوزير: “الخدعة” هي أن “اليانكيين/ الأمريكيين” دفعوا مائة دولار من سنداتهم، لكنهم دفعوا في الواقع ثلاثة دولارات !، لأن سعر ورقة 100 دولار هو ثلاثة سنتات، وهذا يعني أن كل ثروة العالم وذهبه؛ قد تم استبدالها بقطع من الورق الأخضر، والتي لا تتجاوز قيمتها الحقيقية تكلفة الورق والطلاء!.[70]

 ولا يخفى أن تحكم أميركا في النقد الدولي هو سبب الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية التي تتوالى في العالم من تضخم وغيره، وهذا واضح منذ عقد اتفاقية بريتون وودز 1944 وإدخال الدولار شريكاً للذهب في المعيار، ثم إقصاء الذهب نهائياً بقرار نيكسون 1971 وإلى يومنا هذا، فأصبح هذا التحكم بمثابة إله المال في العالم ترزق من دولاراتها من تشاء، وتحرق بها من تشاء.

[4/ب] الحلول المقترحة من منظور اقتصادي إسلامي

  إن منطلق مواجهة التبعية النقدية للدولار يوجب إعادة الروح الإيمانية بأن الله تعالى لم يخلقنا عبثاً أو يتركنا هملاً، بل أكرمنا، فقدر لنا رزقنا، وهدانا إليه، فقال تعالى )وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً([71]؛ وقال تعالى )إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(.[72] وقال تعالى )وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً(.[73] وقال تعالى )الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(.[74] فهذا دليل من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير، والتقدير بمعنى: الخلق ومقادير المخلوقات بمعنى الموازين التي توزن به، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء بقدر ، هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشاءها، وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا من “التقدير” ليس من “القدر”، وإن كَانَ المعنى اللفظي واحد؛ والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكتبه وقدره وقضاه، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق الحكيم البارئ المصور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى[75]،  وهي صريحة بأن الله تعالى قدر في هذه الدنيا أموالها، وقدر أيضاً أثمانها، فهل يعقل أن الذي أرشد رضيع الحيوان إلى ثدي أمه، أن يتركنا نهيم وما نعلم بماذا نثمن أموالنا، ويؤكد هذا المعني حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء))[76].

والأحكام الشرعية إنما توجب تحريم اكتناز الذهب والفضة وتحريم الربا لأن الاكتناز يؤدي إلى إعاقة النقد عن القيام بدوره، والربا ينزل النقد من وظيفته الثمنية التي تقيم الأشياء، فالربا لا يجعل للنقد وظيفة دنيا في استغلال حاجات الناس فحسب، بل أيضا يخرج النقد من دائرة الاستثمار الحقيقي الذي خلق لأجله، إلى دائرة الاستثمار المالي الذي حيد النقد عن الاستثمار الحقيقي في الأعيان، وجعله يُنفّخ في البنوك بأرقام وهمية تنفجر كالفقاعة بين تارة وأخرى.

لذا فإن المنظور الإسلامي يقتضي الاستجابة للصيحات التي تنادي بضرورة ربط العملات الورقية بالذهب، وأخرها مطالبة رئيس وزراء ماليزيا السابق والرئيس الفخري لمؤسسة بيردانا للقيادة د. محاضر محمد- في محاضرة ألقاها بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية في أبو ظبي تحت عنوان “الأزمة المالية العالمية: الدروس المستفادة والفرص المتاحة”- بالعودة إلى ربط العملات بقيمة الذهب بديلا عن الدولار لأنه أكثر استقرارا.[77]

لذلك يقتضي المنظور الإسلامي أن يتنادى عقلاء العالم من العلماء المنصفين لعقد مؤتمر دولي يقترح فيه إصلاح النظام النقدي الدولي، وإعادة صياغة مهام صندوق النقد الدولي، وتغيير مقره إلى دولة محايدة مستقرة، وأن يكون أحد هيئات الأمم المتحدة؛ ناهيك بأن يقوم صندوق النقد الدولي بواجباته بحيادية ولا يساير سياسات الدول الكبرى التي تعمل وفق مصالحها الخاصة؛ وأن يعتمد الصندوق قاعدتي الذهب والفضة ثم يترك للدول أن تختار القاعدة التي تناسبها، وأن يعادل بالذهب أو بالفضة جميع عملات الدول الأعضاء مرة واحدة، ووضع قانون يمنع المضاربة على العملات التي تنتمي إلى قاعدة واحدة، أي أن العملات التي تنتمي إلى قاعدة الذهب تعتبر جنسا واحدا، والعملات التي تنتمي إلى قاعدة الفضة جنسا آخر؛ وأن تكون من وظائف صندوق النقد الدولي مراقبة طباعة العملات الورقية للدول الأعضاء، وتحدد كميات هذه النقود بمقدار ما تملكه الدول من الذهب؛ وأن يتم وضع هيئة رقابة دولية تابعة للصندوق، تتابع سير العملية النقدية في الدول الأعضاء، على أن يتولى الصندوق تقييم تعادل عملات الدول بالذهب أو بالفضة وفق فترات محددة، وأن تلتزم الدول الأعضاء بنقل الذهب بينها بحرية.

وحتى تحفظ للمسلمين حقوقهم الشرعية على جميع دول المسلمين اتخاذ الإجراءات الواجبة عليها شرعاً، ومنها إعادة النظر في سياساتها النقدية، بالعمل على ربط عملاتها الورقية بالذهب بديلا عن الدولار ولو تدريجيا، لأنه أكثر استقرارا من الدولار من جهة، وضمان يحمي تلك العملات من أي أزمات اقتصادية عالمية من جهة أخرى، وأنه يجب على الدول الإسلامية بيع صادراتها من الثروات المعدنية كالنفط بالذهب، حتى تحفظ قيمة حقوق هذا الجيل والأجيال القادمة من اضطرابات الأسواق المالية مع مرور الزمن.

وإذا تعذر الإصلاح النقدي على المستوى العالمي؛ يجب شرعاً على جميع الدول الإسلامية أن تقيم صندوق نقد إسلامي يعتمد النقدين الذهب والفضة كأصل نقدي تربط بهما عملات الدول المسلمة، وذلك لوجوب حفظ قيمة ثروات المسلمين من جهة، ووجوب حفظ قيمة الجهد العملي الذي يبذله المسلمين في جميع مناحي الحياة الإنتاجية من جهة أخرى، وذلك تطبيقا للقاعدة الأصولية: ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، بمعنى أن ما لا يتم الواجب إلا بفعله، ففعله واجب، وذلك حفظ للأمانة التي أنيطت بها حكومات دول المسلمين في زماننا. 

الخلاصة: خلص البحث إلى أن النقود الحقيقية (الخِلقية)، لا يمكن تجاوزها والاستغناء عنها في الأنظمة النقدية، وأن تحييدها لم يكن باتفاق الدول بل بقرار أمريكي تعسفي، وأن النظام النقدي العالمي لا يستقر إلا بربط النقود الورقية بها، وكذلك يجب أن تتخذ خطوات عملية ليعود للنقدين (الذهب والفضة) دورهما الذي خلقا من أجله، بشرط أن يكون هناك التزام بالضوابط الشرعية للتعامل بهما، فأرزاق الناس بيد خالقهم، ولا تستقر حياة الإنسان الاقتصادية ما دام هناك من يطبع في مصانعه أثمانا وهمية ليشتري بها جهد وخيرات الناس بدون وجه حق، فالله خلق الأموال وخلق أثمانها كذلك، وجعل نسبة الأموال إلى الأثمان مقدرة، بتقدير حكيم خبير.

د. محمد بن سالم آل دهشل اليافعي

alyafai67@hotmail.com

المراجع:

القرآن الكريم

ابن تيمية، شيخ الإسلام، (مجموع الفتاوى)، الرياض السعودية: دار عالم الكتب، ج29، ،1991م.

ابن حزم، المحلى، إحياء التراث العربي، ج8، بيروت، لبنان، (د. ت).

ابن خلدون، عبد الرحمن الحضرمي، (المقدمة)، دار إحياء التراث العربي، ط4، ج1، بيروت – لبنان، 1979م.

ابن منظور، محمد بن مكرم بن الأفريقي المصري، (لسان العرب)، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، ج3، (د. ت).

حطاب، كمال توفيق، (ضوابط استقرار قيمة العملة من منظور إسلامي) بحث، (د.ت).

خطاب، كمال توفيق” تطوير نحو تكامل نقدي إسلامي”، رسالة ماجستير في الاقتصاد الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة،1986م

رشدي، مصطفى، (النظرية والسياسات النقدية)، دار المطبوعات الجامعية، ط2، الإسكندرية، مصر، 1977م.

الزبيدي، محمد مرتضى، (تاج العروس)، بيروت لبنان: دار مكتبة الحياة، ج2.

الشمري، ناظم محمد نوري، (النقود والمصارف والنظرية النقدية)، دار زهران للطباعة والنشر، عمان، الأردن،2007م.

شهاب، مجدي محمود، (الاقتصاد النقدي (النظرية النقدية – المؤسسات النقدية)، الدار الجامعية، بيروت، لبنان، 1990م.

صحيح البخاري، دار ابن كثير، دمشق،1993م.

صحيح مسلم، ط مؤسسة مناهل الفرقان، دمشق، (د. ت).

الغزالي، أبي حامد، (إحياء علوم الدين)، دار الشعب، القاهرة، مصر، 1970م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى