الكليات الأساسية للشريعة.. عرض / د.محمد بولوز
عرض بقلم : محمد بولوز
اسم الكتاب : ( الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية )
اسم المؤلف : د أحمد الريسوني
لماذا كتاب الكليات؟ أجاب الدكتور أحمد الريسوني عن التساؤل المشروع: لماذا كتاب “الكليات هو تحقيق هدف ضروري واحد يتجلى في إبراز ” الكليات الأساسية ” من حيث هي كليات، ومن حيث كونها أساسية في الدين وشريعته، ومن حيث كونها قطعيات محكمات، ومن حيث كونها معالم كبرى، هاديةً لكل تفكير إسلامي، ولكل تشريع إسلامي، ولكل سياسة إسلامية، ولكل سلوك إسلامي….
وهو بذلك يريد من العلماء وعموم الأمة أن يستحضروا هذه الكليات ويستبصروا بها، وهم يتعاملون مع سائر آي القرآن الكريم، والسنة والسيرة النبوية وفقه الصحابة والأئمة وعموم التراث الفقهي والعلمي.
وبغير الاهتداء بهذه الكليات، كما يقول الريسوني يقع الكثير من الخلل والزلل والاضطراب، في فهم الشريعة وأحكامها، وفي ترتيب أصولها وقواعدها وفروعها، وبناء بعضها على بعض”
مكانة الكليات التشريعية:
بدأ المؤلف في الفصل الأول من الكتاب ببيان مكانة الكليات التشريعية في القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة، ثم افتتح الفصل بمبحث حول الشريعة والتشريع بين التضييق والتوسيع، وبين أن حصرها عند المتأخرين فيما يتعلق بالشؤون العامة، ويدخل في اختصاص الولاة والقضاة..لا أساس له، ولا تحتمله أصول الشريعة وقواعدها التشريعية التي لا تعرف التفريق بين عبادات وجنايات وآداب ومعاملات، ولا بين أحوال شخصية وأخرى غير شخصية….
والتشريع الإسلامي لا يمكن فيه التمييز ـ وخاصة على صعيد القواعد والمقاصد ـ بين تشريعات عامة وأخرى خاصة، وبين ما هو رسمي وما هو شعبي، وما هو عام، وما هو خاص.
فقاعدة العدل مثلا ـ وهي من الكليات ومن المقاصد الكبرى للتشريع الإسلامي ـ ليست خاصة بالنظام العام، وليست خاصة بالحكم والقضاء، والقسمة والعطاء، بل هي سارية في الوضوء والصلاة، والصوم والزكاة، وعلاقات الجيران والأقارب، وفيما بين الأزواج والأبناء، والأمهات والآباء، ومع الطلبة والتلاميذ، بل حتى مع الإنسان في خاصة نفسه وأعضاء جسمه، وفي نومه ويقظته، وأكله ولباسه… ففي كل ذلك مجال للعدل، وفي كل ذلك تدخل قاعدة العدل.
ثم بين أن التشريع الإسلامي بمعناه الشامل ، يملأ الحياة كلها، ويستوعب جوانبها، ليس بأحكامه المحددة والمحدودة، بل بقواعده وكلياته، ومبادئه ومقاصده.
وبخصوص التنزيل والتبليغ، جاءت الآيات المحكمة الكلية سابقة على آيات الأحكام التفصيلية، فالقرآن المكي ركز بالدرجة الأولى على الكليات والمبادئ والأحكام العامة. ثم بدأ يتطرق بالتدريج إلى بعض الأحكام العملية غير المفصلة، أواخر المرحلة المكية، وأما الأحكام التفصيلية والتطبيقية فقد نزل معظمها ـ أو كلها تقريبا ـ في المرحلة المدنية وفي القرآن المدني، ثم جاءت بدرجة أكثر تفصيلا في السنة النبوية.
ومما يجدر التنبيه عليه، كون هذه الأصول والكليات ليست على درجة واحدة، لا من حيث كليتها وعمومها، ولا من حيث رتبتها وأولويتها، بل بعضها أولى وأعلى، وبعضها دون ذلك، وبعضها أعم وأشمل، وبعضها دون ذلك.
وقد تأتي الكليات القرآنية بصيغ خبرية تقريرية، على شكل مبادئ وقواعد كما في قوله تعالى: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
وتأتي الكليات القرآنية أيضا بالصيغ الصريحة للأمر والنهي ( أوامر كلية ونواهٍ كلية) مثل قوله تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29]. وقوله في النواهي:{وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151].
مفهوم الكليات:
وفي هذا المبحث عرف بالكليات بقوله: “إن ما أعنيه بالكليات، أو الكليات الأساسية، هو المعاني والمبادئ والقواعد العامة المجردة، التي تشكل أساسًا ومنبعًا لما ينبثق عنها وينبني عليها من تشريعات تفصيلية وتكاليف عملية ومن أحكام وضوابط تطبيقية”.
فهي ما يقابل عنده الجزئيات، وهو يجيز التعبير عن الصنفين بالأصول والفروع بالمعنى العام للأصول والفروع، وليس فقط بالمعنى الأصولي الفقهي، الذي يحصر الأصول في أدلة فقهية ( الأدلة الأصولية )، ويحصر الفروع فيما تدل عليه من أحكام فقهية.
فالكليات أو الأصول تعني عنده معتقدات وتصورات عقدية، وتعني مبادئ عقلية فطرية، وتعني قيمًا أخلاقية، ومقاصد عامة، وقواعد تشريعية.
وهذه الكليات، يمكن الاحتكام إليها في القضايا والحوادث والمشاكل التي تجدُّ وتتكاثر في كل يوم وفي كل مكان، مما ليس له حكم خاص به وصريح فيه.
كليات القرآن:
وفي الفصل الثاني وهو صلب الكتاب ولبه تناول الكاتب بالتصنيف والبيان: كليات القرآن، حيث صنفها إلى أربعة أصناف:
الصنف الأول: الكليات العقدية.
الصنف الثاني: الكليات المقاصدية.
الصنف الثالث: الكليات الخلقية.
الصنف الرابع: الكليات التشريعية.
فتناول في الكليات العقدية ما يتعلق بحسب تعبير ابن رشد ب” الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي “
مبينا أن معرفة الله تعالى وصفاته، ونعمه وخيراته، هذه المعرفة تشكل نقطة البداية في توجيه السلوك البشري، أي بداية المقتضى التشريعي لعقيدة الإيمان.
الكليات المقاصدية:
وأورد في الكليات المقاصدية أربعة منها:أولها: ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وثانيها: التعليم والتزكية وثالثها:جلب المصالح ودرء المفاسد، ورابعها قيام الناس بالقسط .
وكلية جلب المصالح ودرء المفاسد، تلخص مقاصد الشريعة الربانية، فكل ما في القرآن ـ والسنة كذلك ـ متضمن إما جلب مصلحة أومصالح، ودفع مفسدة أومفاسد، كلية أو جزئية، مباشرة أو غير مباشرة.وجاء التعبير عن ذلك في الشرع بالخير والشر، والنفع والضر، والحسنات والسيئات، والإيمان وعمَلُ الصالحات، كما تجدر الإشارة إلى أن الفريضة الكبرى التي جاء بها الأنبياء، وحمَّلوها لأتباعهم من بعدهم، وهي فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، ما هي إلا تعبير آخر عن جلب المصالح ودرء المفاسد.
ومن أهم ما يجب الانتباه إليه في موضوع المصالح والمفاسد التي تحدث عنها القرآن الكريم بمختلف الصيغ والألفاظ، هو عموم المصالح واستغراقها لكل ما هو صلاح وخير ونفع، وعموم المفاسد واستغراقها لكل ما هو فساد وشر وضرر ، فهي شاملة لجميع الأجناس والأصناف والأشكال والمراتب والمقادير، سواء في المصالح أو في المفاسد.
الكليات الخلقية:
وفي المبحث الثالث من الفصل الثاني تناول: الكليات الخلقية وجمعها في كليتي التقوى وكلية الاستقامة، معتبرا كل ما هو خلق، أو صفة خلقية، فهو كلي، فالأخلاق بطبيعتها قضايا كلية، فكل خلق ـ بمفرده أو مع غيره ـ يمثل نمطا في السلوك ومنهجا في الحياة، أي أن كل خلق هو قاعدة سلوكية كلية.
والدين في جوهره ومجمل وظائفه وشرائعه، إنما هو أخلاق وتخليق، ولذلك قالوا: إن الدين كلَّه خُلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
والتقوى هي الفضيلة المركزية في نظام الشريعة الإسلامية، وإذا سادت، وأصبحت خُلقا راسخا في النفوس، فإنها تقوم بما يقوم به المربي، والمعلم، والواعظ المرشد، والقاضي…
وحينما تنعدم أو تنهزم، تسود المغالبة والمخادعة، والاستكبار والاستئثار، والاستبداد والإفساد.
وأما الاستقامة فهي إحدى الصفات الخلقية الأساسية، الجامعة لمعاني الدين ومقاصده، والموجهة لما لا يحصي من أحكامه وآدابه.
ففي الاستقامة: الصدقُ، والإخلاص، والنزاهة، والعدل، والإنصاف، والوفاء، والأمانة،والاعتدال، وأداء الحقوق لأصحابها بدون التواء ولا مراء.
فهي الدين كله، والدين هو الاستقامة في الأمور كلها. الدين كله إنما هو: عقيدة مستقيمة، وفكر مستقيم، ولسان مستقيم، وعمل مستقيم، وهذا هو ( الصراط المستقيم ) الذي جاء به رسل الله.
الكليات التشريعية:
وفي المبحث الرابع أجمل الكليات التشريعية في سبع كليات، ويقصد بالكليات التشريعية، المبادئ والقواعد المتصلة اتصالا مباشرا بتفريع الأحكام العملية، فهي بالدرجة الأولى وضعت قواعد للسلوك والتعامل البشري وما يحتاجه من تحليل وتحريم وإيجاب وإباحة وضبط وتنظيم…
أي هي قواعد أصولية فقهية كبرى، قواعد مرجعية مباشرة لاستمداد الأحكام الشرعية العملية.
والكليات السبع حسب رأيه هي الأكثر كلية وسعة، ضمن مبادئ التشريع الإسلامي وقواعده. وتتمثل في:
-الأصل الإباحة والتسخير،
-لا دين إلا ما شرَعه الله ولا تحريم إلا ما حرمه الله.
ـ تحليل الطيبات وتحريم الخبائث.
ـ التكليف بحسب الوسع .
ـ الوفاء بالعهود والأمانات.
ـ التصرف في الأموال منوط بالحق والنفع.
ـ وتعاونوا على البر والتقوى.
وينتقد الدكتور الريسوني غفلة العديد من العلماء عن الكليات ليس فقط من جهة حصر آيات الأحكام وإسقاط ما ليس منها مباشرا في جزئيات مخصوصة، وإنما أيضا في عدم إعطائها حقها في التفسير والتفصيل، بخلاف صنيعهم مع آيات الأحكام في قضايا مباشرة بعينها. كما ويحدث في المستجدات نقل النصوص والاجتهادات من مناطاتها ومواضعها الحقيقية، وتنزيلُها وإعمالها في مواضع ومناطات وأحوال مختلفة في صفاتها وحقيقتها، بمنهج لا يخلو من تعسف واعتداء على تلك النصوص وتلك الاجتهادات، بل هو تعسف واعتداء على الناس ومصالحهم أيضا.
ويغنينا عن هذا التعسف، اللجوء إلى رحاب الكليات والصيغ الشرعية العامة، التي ما وضعت على الكلية والعموم، إلا لتسعف الناس بهديها وحكمها العام، الذي يستوعب ما لا يحصي ولا ينتهي من الحالات والجزئيات المتجددة.
لقد استطاع المؤلف في هذا الكتاب أن يعرض أحكام الشريعة ومضامينها من خلال كلياتها وجوامعها، ويدل القارئ على ثابتها ومتغيِّرها، ويـقِـفَ به على مكامن قوتها وعظمتها وإعجازها، ويرشده إلى مفاتيح أبوابها، ومعرفة مَحاجِّها وشعابها، ويأخذ بيده إلى منهاج تحصيلها وتنزيلها.
يظل الكتاب رائدا في بابه، مرجعا في علم الكليات والأصول والقواعد، إن لم يكن في فقه قواعد القواعد