قضية الردة في القرآن والسنة
قضية الردة في القرآن والسنة
أ.د/ أحمد الريسوني
مما لا ريب فيه عند أي مسلم، أن مصدرنا ومرجعنا الأول والأعلى، في ديننا، هو القرآن الكريم، ثم السنة النبوية الشريفة، ثم ما انبثق منهما من أدلة وقواعد..
لكن ما يلاحظ بأسف واستغراب، هو أن ما يروج في موضوع الردة من بحث واستنباط، واتفاق واختلاف – قديما وحديثا – لا يكاد يخرج عن بعض الأحاديث والوقائع التاريخية. وقد يأتي ذلك مع سيل من أقوال الفقهاء، من مختلف المذاهب والعصور.. ومن هنا وقر في كثير من النفوس أن الكتاب العزيز لم يتطرق إلى مسألة الردة، وليس له حكم فيها.
وحتى حينما يَستدل – أو يستأنس – البعض بالآية الكريمة (لا إكراه في الدين)، نجد كثيرا من التبرم من “إقحام” هذه الآية!
والحقيقة أن القرآن الكريم تناول موضوع الردة، أو معركة الردة، في عدد كبير من الآيات، قد تعد بالعشرات، تارة بلفظها الصريح، وتارة بمعانيها الواضحة. فلا يليق بأحد أن يقول، أو يظن، بأن تلك الآيات كلها لا دخل لها ولا أثر لها في حكم الردة أو في “حد الردة”، وأن الحكم قد ورد في الحديث الفلاني، وانتهى الأمر!
المعركة الموازية: سياسة الارتداد والتشكيك
كلنا نعرف المعارك والغزوات، التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، في مواجهة حروب الاستئصال المادي، التي كان موجهة إليهم.. نعرف معارك بدر وأحد والخندق، وبني المصطلق وبني قريظة وبني النضير وخيبر، ومؤتة وتبوك وحنين واليمامة.. ولكن قلما ننتبه إلى معركة أخرى، لم تكن أقل خطورة على الإسلام والمسلمين وكيانهم الناشئ، وهي الحرب النفسية والحرب الدعائية “الإعلامية”.
هذه المعركة لا نجد لها صدى يذكر في كتب السيرة، ولكننا نجد فصولا منها في عدد من سور القرآن الكريم. وقد بدأت هذه المعركة – بشكل محدود – منذ المرحلة المكية، ولكنها أصبحت حربا حقيقية في المرحلة المدنية، بعد أن ظهر أن “محمدا وأصحابه” بدأوا يثَبِّتون انتصارهم ودينهم ودولتهم. وكان الركن الأساسي في هذه الحرب هم يهود المدينة، ثم طائفة المنافقين العرب، ثم بعض المشركين الانتهازيين، المتأرجحين بين الإسلام والكفر.
لا أريد في هذه العجالة تتبع مسارات هذه المعركة وتفاصيلها، ولكني أورد من الآيات القرآنية ما يعطي نبذة ولمحات عنها..، فقط لكي نفهم “حكم الردة”؛ كيف؟ ولماذا؟
ومن أراد البيان والتفصيل، فدونه القرآن وكتب التفسير.
وأدعو القارئ الكريم إلى القراءة التامة مع التدبر، لهذه الآيات الكريمة:
• {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]
• {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 75، 76]
• {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61]
• {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 71، 72]
قال الشيخ ابن عاشور في (التحرير والتنوير)
“طائفة من اليهود منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وغيرهما من يهود خيبر، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس، فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى، فقالوا لطائفة من أتباعهم: آمنوا بمحمد أول لانهار، مظهرين أنكم صدقتموه، ثم اكفروا آخر النهار، ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة، فيقول المسلمون: ما صرف هؤلاء عنا إلا ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا لادين، وأنه ليس هو الدين المبشر به في كتب السالفة ففعلوا ذلك”.
وقال الشهيد سيد قطب (في ظلال القرآن):
“كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض: آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم، والله أعلم بما كانوا يكتمون”.
• {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 99، 100]
• {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]
قال القاضي عبد الحق بن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز)
“واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا).
فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية: الآية في اليهود والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا. وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ورجح الطبري هذا القول.
وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره).
وقال مجاهد وابن زيد: الآية في المنافقين؛ فإن منهم من كان يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك، فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.
قال القاضي: وهذا هو القول المترجح.
وقول الحسن بن أبي الحسن جيد محتمل.
وقول قتادة وأبي العالية – وهو الذي رجح الطبري – قول ضعيف تدفعه ألفاظ الآية؛ وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان، ثم يزداد كفرا بالموافاة. واليهود والنصارى لم يترتب في واحد إلا إيمان واحد وكفر واحد”.
• {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِين} [آل عمران: 86 – 91]
• {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 25، 26]
قال ابن عطية في (المحرر الوجيز):
“وقوله تعالى (إن الذين ارتدوا على أدبارهم) الآية. قال قتادة إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام، وتبين لهم الهدى بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى”.
• {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 73، 74]
قال العلامة محمد رشيد رضا (تفسير المنار):
“هاتان الآيتان تهديد للمنافقين، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه، وكذَّبهم الله تعالى في إنكارهم، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين. وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر واللين”
(يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم): “هذا استئناف لبيان السبب المقتضي لجهادهم كالكفار، وهو أنهم أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشرِّ ما يغري به من الفعل، وهو الفتك برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أظهره الله على ذلك، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم عنه، ويحلفون على إنكارهم ليصدَّقوا كدأبهم الذي سبق، اتخذوا أيمانهم جنة وكانوا يحلفون للمؤمنين ليُرضوهم، وكانوا يخوضون في آيات الله وفي رسوله، بما هو استهزاء خرجوا به من حظيرة الإيمان الذي يدعونه إلى محظور الكفر الذي يكتمونه”.
الدلالات العامة لهذه الآيات
أولا: كان المسلمون يتعرضون لعملية تحريض تستهدف إثارة البلبلة والتشكيك في دينهم وقرآنهم ونبيهم، وذلك بكثرة الدخول في دينهم والخروج منه، (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِه).
ثانيا: كثير من القائمين بهذه الحرب التشكيكية، تخطيطا أو تنفيذا، كانوا يتظاهرون بالإسلام، لكنهم يسْلمون تارة، ويرتدّون تارة. ويحاولون في كل مرة أن يـجُرّوا معهم بعض ضعاف المسلمين، وأن يزعزعوا غيرهم.
ثالثا: مما يؤكد أن الردة في العهد النبوي، لم تكن ردة طبيعية وتلقائية، وإنما كانت خطة مدبرة وردة مفتعلة، تعتمد على المنافقين وبعض المسلمين المذبذبين، وأما المسلمون الحقيقيون فلم يكن يرتد منهم أحد، كما جاء في شهادة أبي سفيان، التي أيدها هرقلُ عظيمُ الروم بقوله: (وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سُخطةً له، فزعمت أن لا. وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب).
رابعا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في البداية يعامل المنافقين والمرتدين بالرفق والتغاضي والعفو. لكنه في النهاية بدأ يواجه هذا التلاعب والتآمر، بالصرامة والردع: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}
خامسا: يلاحظ أن القرآن الكريم، ورغم حديثه المتكرر عن الردة والمرتدين، وعما ينتظرهم عند الله تعالى من خزي ولعنة وعذاب أليم، لم ينص ولم يخصهم بأي عقوبة دنيوية محددة، وترك ذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، بصفته إمامَ المسلمين وولي أمرهم. مع أن أفعالا جنائية، هي دون الردة والكفر، بما لا وجه للمقارنة فيه، كالسرقة والزنا والقذف، قد جاءت عقوبتها منصوصة محددة مؤبدة في القرآن الكريم.
الردة في السنة النبوية
العمدة من السنة النبوية في مسألة الردة حديثان صحيحان:
- حديث: من (بدل دينه فاقتلوه)،
- وحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة).
لا شك أن المنهج الصحيح السليم، هو النظر في الحديثين، أو غيرهما، بضم الأدلة كاملة، وفهم بعضها مع بعض، بدل تقطيعها وعزل بعضها عن بعض. ولا شك أن السداد والرشاد في العلم والفهم، هو التعامل مع الأدلة بمنهج الضم والتشبيك، بدل منهج التفريق والتفكيك.
وبناء على هذا، فلا بد من استحضار مجمل الآيات القرآنية وما تقتضيه وما تدل عليه في موضوعنا، ابتداء من قوله تعالى (لا إكراه في الدين)، وما تقرر من خلاله في المقال الأول: (الدين والإكراه ضدان لا يجتمعان).
ثم نتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في الموجب الثالث للقتل، وهو: (والمارق من الدين، التارك للجماعة). فنجده مركبا من عنصرين: المروق من الدين، وترك الجماعة.
القائلون بحد الردة يسقطون العنصر الثاني، ويعتبرونه عين الأول وتأكيدا له. وهذا ليس بسديد، وليس فيه ما يكفي من الاحترام للنص. والقاعدة أن (إعمال الدليل أولى من إهماله)، والقاعدة أيضا أن (التأسيس أولى من التأكيد)..
ثم أيضا: لا بد من استحضار حديث عائشة، أو روايتها، رضي الله عنها.
فعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يُقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يَقتل نفسا فيُقتل بها). وفي رواية النسائي، والطحاوي في مشكل الآثار، عن عائشة أيضا: (..أو رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله، فيُقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض).
فالصيغة الواردة في هذه الرواية – ورجل خرج محاربا لله ورسوله – تبدو لي صيغة مفسرة وموضحة للصيغة المجملة في الرواية المشتهرة. والمفسر حاكم على المجمل.
/////////////////////////////////
فهذا مجمل الأدلة القاضية باعتبار أن الردة في العصر النبوي كانت حركة مدبرة وموجهة، وكانت تلاعبا بالدين وتآمرا على المسلمين، وأحيانا كانت تقترن بحمل السيف والاصطفاف العلني مع العدو. وأن العقوبة كانت على هذا الأساس ولأجله.
وبذلك فهي عقوبة تعزيرية وسياسة شرعية، ينبغي أن تقدر بقدرها، في كل حالة، وكل ظرف..
يتبع: خواتيم مكملات