مسألة الردة.. مقدمات ممهدات
مسألة الردة.. مقدمات ممهدات
أ.د/ أحمد الريسوني
أولا: موقفي من مسألة الردة، أو حد الردة، أو عقوبة المرتد.. ضمنته كتابي (الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية)، الذي كتبته أواخر 2005 وأوائل 2006. كما عبرت عنه في كتابات أخرى، وفي تصريحات وحوارات مكتوبة أو تلفزيونية، على مدى السنين الماضية..
ثانيا: خلاصة رأيي: أن عقوبة قتل المرتدين، الواردة في بعض الأحاديث النبوية، وفي بعض الوقائع التاريخية، ليست “حدّا” من الحدود الساكنة المستقرة، بمعناها المصنف والموصوف عند الفقهاء، كحدود الزنا والسرقة والقذف، وإنما هي من جملة التعازير والتدابير، المندرجة في باب السياسة الشرعية، التي يرجع تقديرها وتنفيذها إلى ولاة الأمر الشرعيين (الدولة الإسلامية). وسيأتي بسط هذا الرأي وأدلتِه لاحقا.
ثالثا: هذا الرأي انتهيت إليه بعد سنين طويلة من الدفاع القوي والمستميت عن “حد الردة” ومشروعيته وأهميته، كما هو مقرر عند جمهرة من الفقهاء، وعند جمهرة من الكتاب والدعاة المعاصرين. ولكنْ سنة بعد أخرى، وبمزيد من الفهم والتعلم، ومن الفحص والتأمل، بدأتُ أراجع الموضوع وأفكك إشكالاته، وأعيد ترتيب مفرداته ومخرجاته، حتى استقر نظري على ما ذكرته آنفا.
رابعا: الاختلاف أو الانقسام في الرأي، داخل هذه المجموعة، وداخل الصف الإسلامي بصفة عامة، قديم جدا، لكنه كان ضيقا وخافتا، ثم اتضح واتسع في هذا العصر. وهو ليس – كما يصوره البعض – اختلافا بين توجه إسلامي صرف أصيل، وتوجه مشوب ومتأثر بالأفكار الحداثية والعلمانية وضغوط العصر الحديث.
وقد أشار بعض الإخوة المشاركين في هذا الحوار إلى وجود اختلاف في الاستدلال، ورد عليهم آخرون بالنفي.. والحقيقة أن هذا الجانب المنهجي الأصولي حاضر ومؤثر في معالجة هذه المسألة، كما سأوضح لاحقا بعون الله تعالى. وهذا يعزز كون الاختلاف أساسا هو اختلاف إسلامي داخلي أخوي، حتى لو دخلت فيه مؤثرات تاريخية ظرفية، قديمة عند البعض، أو حديثة عند الآخرين. والفقه عموما، وفي جميع عصوره، لا يكاد ينجو من مؤثرات زمانه وبيئته ومحيطه، الإيجابية والسلبية. وهكذا بقية العلوم أيضا..
خامسا: أما المفكرون “الإسلاميون الحداثيون”، من عرب وأتراك وإندونيسيين وباكستانيين وغيرهم، فلهم موقف آخر؛ وهو تنحية جميع الحدود والقصاص والتعازير وسائر العقوبات البدنية (الجَـلد خاصة)، إلى غير ذلك مما يسعون إليه من عمليات الشفط والاستئصال والاستبدال…وهذا غير ما نحن فيه، فلا داعي للخلط وقياس ما لا ينقاس.
سادسا: الاستفادة والاقتباس من الآخرين، وحتى تقليدهم في حدود معينة، ليست عيبا بإطلاق، وليس الصواب فيها دائما هو الرفض والإغلاق. وأذكر الآن إشارات سريعة لا تخفى دلالتها – في الجملة – على مقاماتكم ومستوياتكم. ولا يتسع وقتي، ولا مقامنا هذا، للتفصيل والتطويل في بيانها، لكونها جاءت عرضا في موضوعنا..
- قوله تعالى: [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ] [المائدة: 31]
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم… كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء…
- قالت عائشة رضي الله عنها، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنتُ لك كأبي زرع لأم زرع».
- وفي الأثر المحفوظ: “الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا”.
- وقبل أيام كنا نناقش في مجموعتنا قولَ الصحابي عمرو بنِ العاص رضي الله عنه، عن الروم: (إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف. وخامسةٌ حسنة جميلة: وأمنعُهم من ظلم الملوك).
سابعا: مناقشة هذه المسألة، سواء في دائرتنا المصغرة هذه، أو في مختلف فضاءات العالم الإسلامي، لن ينجم عنها – لا في القريب ولا في الأفق المنظور – أي قرار تنفيذي باعتماد “حد الردة”، أو عدم اعتماده، أو الأخذ به عمليا بهذا الشكل أو ذاك. ولكن هذه المسألة وأشباهٌ لها، تعتبر ذاتَ أهمية وتأثير لا يستهان بهما، في المجالات الدعوية والثقافية والفكرية. إنّ المعركة الأولى والكبرى اليوم لأهل الفكر والعلم والدعوة والثقافة، ليست هي “إقامة الدولة الإسلامية الحقيقية” التي ستطبق الحدود، وتحمي الحدود، وإنما هي “تقديم الصورة الإسلامية الحقيقية”، التي تخترق جاذبيتها العقول والنفوس، والأسوار والحدود، وتنشر إسلاما عالميا لا توقفه الحدود.
وهنا تحضرني وتلح عليَّ كلمة جميلة متبصرة للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، قال فيها رحمه الله: “والمصالح التحسينية هي عندي: ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها، حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرب منها”.
/////////////////////////////////////
يتبع: الحدود.. ما هي؟ وما حدودها؟
شكرا سيدي، وهو تقريبا ما اتتهيت اليه في رسالة دكتوراه دامت حوالي ٨ سنوات، بعنوان ( الردة بين حرية المعتقد والمواثيق الدولية لحقوق الانسان)، ونوقشت وأجيزت بقسم العقائد والأديان جامعة الجزائر .محمد عبد الحليم بيشي، جامعة قطر
أنا أحد تلاميذ مدرسة الدكتور العلامة أحمد الريسوني وأرغب تفضلا وتكرما أضافتي لهذا المنتدى المبارك،وأتمنى الحصول على بحث الردة للدكتور الريسوني كاملا