تحقيق المناط
تحقيق المناط
• تعريف تحقيق المناط:
التحقيق لغة الإثبات والتصديق. وهو من “حَقَّقَ الأمرَ: أثبته وصدَّقه. يقال: حقق الظن وحقق القول والقضية. وحقق الشيء والأمر: أحكمه” ، وحقق جذره حق أي: “صح وثبت وصدق، وفي التنزيل العزيز (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين)” .
والمناط لغة: موضع التَّعْليق. ومَناطُ الحكم عند الأُصوليين والأَخلاقيين:عِلَّتُه. يقال: مناطُ الحكم بتحريم الخمر هو الإِسكار .
وتحقيق المناط في الاصطلاح له معنيان:
معنى ضيق: خاص بالقياس، وهو: “النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور، بعد معرفتها في نفسها، وسواء كانت معروفة بنص أو إجماع أو استنباط” .
ومعنى واسع: يسع القياس وغيره، أي تنزيل الأحكام على محالها أو المطابقة بين الحكم والواقع، وهو ما يسميه أكثر المعاصرين فقه التنزيل، وبعضهم يسميه فقه التطبيق . وبعبارة الشاطبي: “أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله” ، وعلق الشيخ دراز على هذا التعريف بقوله: “أي في تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية، سواء أكان نفس الحكم ثابتًا بنص أم إجماع أم قياس”، وعرفه ابن تيمية بقوله: “وهو أن يكون الشارع قد علق الحكم بوصف فنعلم ثبوته في حق المعين كأمره باستشهاد ذوي عدل ولم يعين فلانا وفلانا” .
وإذا فتحقيق المناط هو تنزيل الحكم الشرعي على الواقع، أي تعيين ما يدخل وما لا يدخل تحت الحكم الشرعي الثابت.
• موجب تحقيق المناط:
تحقيق المناط أمر لا بد منه، ولهذا “لا خلاف بين الأمة في قبوله” كما قال الشاطبي، وقال ابن تيمية: “وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء: بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص إنما يتكلم بكلام عام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم” . وقال أيضا: “والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة، وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط” .
وقد فصل الشاطبي موجب تحقيق المناط، وذلك ببيانه أن الأدلة الشرعية لها مقتضيان من الأحكام:
الأول: مقتضى أصلي مجرد عن العوارض والحوادث والوقائع، وهذا كالحكم بإباحة الصيد والبيع وسن النكاح.
والثاني: مقتضى تبعي أو اقتراني أو إضافي، وهو الحكم الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات، أي كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي، كالحكم بكراهية الصلاة لمن يدافعه الأخبثان .
والقاعدة الأصولية في ذلك أنه: “إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال، فلا بد من اعتباره” . فمن “سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي، وإن سأل عن معين، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي ما يحتاج إليه، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل” .
ومن الفتاوى النبوية التي ساقها الشاطبي على هذا الأصل قوله صلى الله عليه وسلم :”أنا وكافل اليتيم كهاتين”، ثم لما تعين مناط فيه نظر، قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر:”لا تولين مال يتيم”، ثم قال: “والأمثلة في هذا المعنى لا تحصر، واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل” .
ولهذا قرر رحمه الله أنه: “لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسؤول عن حكمه؛ لأنه سئل عن مناط معين، فأجاب عن مناط غير معين” .
• أنواع تحقيق المناط:
تحقيق المناط نوعان، ظاهر وخفي أو عام وخاص، يقول ابن تيمية:”وأما معرفة دخول الأعيان الموجودة في هذه الأسماء والألفاظ، فهذا قد يكون ظاهرا، وقد يكون خفيا يحتاج إلى اجتهاد، وهذا هو التأويل في لفظ الشارع الذي يتفاضل الفقهاء وغيرهم فيه” .
النوع الأول: تحقيق مناط عام، وهو الاجتهاد في تعيين محل الحكم الشرعي حيث توافرت “التهيئة الظاهرة”، بدون نظر إلى الملابسات الخاصة بكل واقعة وكل مكلف، “فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر” . وهذا النوع من الاجتهاد يشترك فيه جميع المكلفين؛ لأنه اجتهاد في العمل بالشريعة كل بحسبه، وهو لذلك لا يرتفع كما قال الشاطبي إلا إذا ارتفعت الشريعة.
كما أن هذا الاجتهاد متجدد مع كل صورة ومع كل نازلة، ومثاله الوصية للفقراء، فلا بد من الاجتهاد في تحقيق مناط الفقر في كل شخص على حده. “فلهذا لا يمكن أن يستغنى ها هنا بالتقليد.. لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة” ، أي وإن تقدم مثلها مراتٍ.
والأصل في هذا النوع من الاجتهاد “أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره.. ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات” .
ولهذا فالحاجة قائمة ودائمة للعمل على تحقيق مناط الأحكام المطلقة والكلية والمجردة في الوقائع، وهي حاجة قائمة عند”كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة لكل مكلف في نفسه” . ولكل من هؤلاء مجاله وميدانه في تحقيق المناط، ويختص القاضي بما فيه التنازع لمصالح الدنيا مما يحتاج إلى تدخل من الدولة، ويختص المفتي بما يُشكل على عامة المكلفين النظر في تحقيق مناطه وتنزيله على الوقائع، ومثال ذلك تحقيق مناط الفقر في الشخص “يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه هل: الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى” .
وهذا النوع من الأحكام التي يشتبه مناط تنزيلها هي محل فتوى المفتين للمؤسسات المالية وغيرهم من المفتين، ومثال ذلك في عالم المصرفية الإسلامية اعتماد عقود المعاملات المصرفية، حيث تقوم الهيئة بالتصديق عليها إذا حققت شروط صحة العقود، وخلت من مبطلاتها. وهذا تحقيق مناط تختص به الهيئات الشرعية، ولا يمكن للموظف البنكي أن يقوم به، ولكنه يقدر على أن ينظر في تحقيق مناط معلومية العوضين في عقد المرابحة مثلا، ولهذا يتحمل مسؤولية جهالة العوضين؛ لأنه يقدر على تحقيق هذا المناط بنفسه.
والنوع الثاني: تحقيق مناط خاص، وهو”ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه” ، وهو التحقيق الذي يجمع بين العلم والحكمة، والله سبحانه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، ووجه ذلك أنه تحقيق ينبني على النظر في ملابسات الوقائع، وما يخص كل مكلف وحاله، فيقيد له المنحتم بما يحفظه من القيود، ويدل على ما يصلح له من غير المنتحتم دون ما لا يصلح له، “فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود. هذا معنى تحقيق المناط هنا” .
وقد ضرب الشاطبي أمثلته من الأجوبة النبوية لمن سأل من الصحابة عن أفضل الأعمال، فأجاب صلى الله عليه وسلم كلا بما يليق به. ومن ذلك في عالم الأموال أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بكثرة المال فبورك له فيه، وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال:”قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه”، وقال لأبي ذر: “يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم”، ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في حق الإمارة والحكم :”إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن” الحديث، وقال:” أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة”، ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح” .
ومثاله في عالم البنوك ما نجده من الفتوى بإلزامية الوعد المالي للمؤسسة المالية، خلافا للوعد المالي بين الأفراد، وذلك لأن الوعد الملزم هو الذي يصلح للمؤسسات المالية؛ لأنها تستثمر أموال المجتمع، والأخذ به يردع المتعاملين عن طلب التمويل منها إلا في حالة الرغبة الحقيقية. فهذا تحقيق مناط خاص بحكم هو الأصلح للبنوك والمتعاملين معها.
كما أن الهيئات الشرعية تمنع المؤسسات المالية من العمل بالعقود المالية المعروفة في الفقه الإسلامي إلا بعد المصادقة عليها، حتى لا يفتح الباب للتلاعب باسم الشريعة، وادعاء الجهل فيما لو اكتشف خطأ شرعي في هذه المنتجات والعقود. فهذا نوع من تقييد المباح على المؤسسات المالية للتحرز من الأخطاء الشرعية.
• مشمولات تحقيق المناط:
تحقيق مناط الأحكام يشمل نوعين من الأحكام:
النوع الأول: تحقيق مناط الأحكام المحكمة:
أي الأحكام القاطعة الواضحة التي لا خلاف فيها في الشريعة، ووظيفة المفتي تحقيق مناطها الخاص، ومثال ذلك حرمة ربا النسيئة فهذا حكم محكم قاطع في الشريعة، ولكن تحقيقه في فوائد البنوك، من وظيفة المفتي، وكذلك الزواج هو مباح في الأصل، ولكن تعترضه الأحكام الخمسة، بحسب المناط الخاص بكل مكلف، أي العوارض المحيطة به.
وما دامت المحكمات من الأحكام هي الأكثر وليس المتشابه كما بين الشاطبي ، فإن أكثر الفتاوى والاجتهادات الفقهية هي من قبيل تحقيق المناط الخاص بحسب العوارض.
ولهذا فتحقيق المناط هو أكثر مسالك الافتاء تطبيقا وعملا، قال الشاطبي بعد أن تكلم عن كليات الشريعة :
“وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة وتارة باللين، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا.
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه؛ فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل؛ فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان اعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر” .
وفي تحقيق مناط الأحكام القطعية الثابتة لا بد أن يكون المفتي أهلا لتحقيق المناط الخاص، وهي تختلف عن أهلية الاجتهاد المطلق؛ لأن المفتي هنا لا يجتهد في إثبات الحكم، وإنما في تنزيله على الواقعة المعينة وعلى الشخص المعين، وإنما يشترط فيه فهم الحكم وضبط قيوده والتحقق من صحته، كما يشترط فيه فهم الواقع، للمطابقة بينهما.
النوع الثاني: تحقيق مناط الأحكام الاجتهادية
تحقيق المناط محتاج إليه بعد ثبوت الحكم وتحققه سواء كان قطعيا أو اجتهاديا، وسواء كان الحكم الاجتهادي ثبت عن طريق الاستنباط أو التخريج أو النقل والتقليد. فتحقيق المناط لا يكون إلا في الأحكام الثابتة والمقررة، فالحكم الشرعي أو الوصف الشرعي ثابت ومسلم ومقرر، ومفروغ منه.
وعلى ذلك فتحقيق المناط نتيجة لها مقدمتان: الأولى تُحَقِّق المناط، والثانية تَحكم عليه. فالأولى تكون بالنظر، فهي مقدمة نظرية “سواء أعلينا ثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر” ، والثانية نقلية مسلمة؛ لأنها مقدمة حاكمة، ولهذا فخاصيتها كما قال الشاطبي “أن تكون مسلمة .. لا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلًا” . وقال أيضا :”فأما المقدمة الحاكمة فلا بد من فرضها مسلمة” ، ولا ينبغي أن تكون غير مسلمة ، وإلا لم يثبت حكم شرعي في محله، وللزم التسلسل، ، وثبوتها يكون بالاجتهاد أو التقليد.
ومثال ذلك أن المنفعة المتبادلة في القروض ليست ربا، فهذا حكم اجتهادي بالجواز؛ لأن الربا انفراد المقرض بالزيادة المضمونة دون المقترض، ويحقق الفقيه هذا الحكم في السفتجة كما فعل ابن تيمية قديما فأجازها، وفي الأرصدة التعويضية بين البنك الإسلامي ومراسله التقليدي بحيث يعوضه عن مبالغ الأرصدة المدينة بمبالغ مساوية أو أكثر للمدة نفسها أو أكثر وفقا للاتفاق بين الطرفين، وذلك فرارا من صريح الربا.
كتاب: مدخل إلى الرقابة الشرعية لمحمد أحمين